/

 

 

الدين في الغرب

عز الدين عناية

العنوان: الدين في الغرب

المؤلف: عزالدين عناية، المدرس بجامعة روما-إيطاليا.

الناشر: الدار العربية للعلوم – بيروت، 2017.

 

صدر حديثاً عن الدار العربية للعلوم كتاب "الدين في الغرب"، للباحث والأستاذ الجامعي التونسي عز الدين عناية، المدرس بجامعة روما، ويقدم الكتاب إطلالة على نظام اشتغال العقل الديني الغربي وعلى نمط سير عمل مؤسّسة الكنيسة. لا ينحو الكتاب في ذلك إلى التعاطي المجرّد مع هذين العنصرين، بل يتابع تنزيل التصورات وتنفيذ القرارات في الواقع، سيما لما يتمأسس الدين ويغدو مؤسسة تنشد النفوذ والهيمنة. وفي تلك الرحلة للدين من الشعيرة، إلى الفكرة، إلى المؤسسة، ثمة ضبابية في التصورات العربية يصحبها قصور في معالجة مسائل الواقع الديني الغربي متأتية من نقص أدوات المتابعة ومحدودية الإلمام بقضايا المسيحية المعاصرة. إذ لا يشكّل الدين في الغرب شاغلا من شواغل المؤسسات الأكاديمية العربية أو مراكز الأبحاث الناشئة. والأمر متأت من تقدير خاطئ ومضلِّل أن الغرب علماني وليس ثمة حاجة إلى متابعة أوضاعه الدينية وإيلائها بالغ الاهتمام. الأمر الذي أثّر في قدرات الإلمام وجعل الدارس يتعاطى مع قضايا الغرب الدينية بشكل سطحي يبلغ مستوى من التبسيط المخلّ، يركن فيها النظر إلى تهويمات غائمة مثال ان الكنائس خاوية إلا من المسنين بعد أن هجرها روادها، ويغفل عن سائر الأنشطة التي تقدمها الأبرشيات دعما واحتضانا لمختلف فئات المجتمع. لكن الغرب الديني ممثَّلا في كنيسته الكبرى الكاثوليكية، ومختلف أنواع الإنجيليات الجديدة، وسائر الكنائس البروتستانتية والأنغليكانية، تبرز حاجة ملحة في الراهن إلى متابعة مساراته وتوجهاته وتحولاته، بموضوعية وعلمية، لما لها من عميق الأثر في بلاد العرب، خصوصا وأن تلك المواقع الدينية تساهم مساهمة فعالة في بلورة الرؤية السياسية الغربية نحو العرب والمسلمين. إذ صحيح أن العلمانية حدّت من نفوذ الدين الجليّ، ولكن نفوذه الخفي، الاجتماعي والثقافي والتربوي، ودوره القوي في توجيه الرأي العام، ما انفك متفاعلا ومتطورا. وقوة تأثير الدين في الغرب تتجلى في العديد من المظاهر، كحيوية أحزاب اليمين المسيحي، ونفوذ اللوبيات الضاغطة، وتجذر المؤسسات الثقافية والتعليمية والصحية، وكلها قطاعات تشمل بتأثيرها شرائح واسعة من المجتمع.

من هذا المنظور فالكنيسة، بوصفها مؤسسة مركّبة، هي قوة فاعلة ونافذة في كثير من البلدان، لا يضاهي حضورها حضور أي مؤسسة دينية في العالم، برغم الواقع العلماني المحتضن للمؤسسة الدينية في الغرب. وتبعا لهذا الدور ليس الغرب هيمنة سياسية، أو نفوذا اقتصاديا صرف، يخلو من أبعاده الدينية، بل هو مركّب متنوع تُشكِّل الرؤى الدينية جانبا مهمّا من مكوناته.

الكتاب يضمّ سلسلة من الدراسات تراوح بين المقاربة التاريخية ذات المنزع التحليلي، والرؤية السوسيولوجية ذات المنحى التفسيري. حيث يتناول الفصل الأول تطور علاقة اللاهوت بالسلطة في الغرب حتى لحظة الاصطدام بالحداثة. ليخلص إلى خطأ الإقرار أن المسيحية في جوهرها هي ديانة روحية فحسب، بل هي ديانة تاريخية شهدت صراع تأويلات وأشكال ممارسة للسلطة، تبدّلت وفق الظروف التاريخية والأوضاع الاجتماعية. بينما يسلّط الفصل الثاني الضوءَ على الكنيسة مبرزا وطأة التحولات الحديثة، حيث تَركّزَ الاهتمام في مسألتين اثنتين إحداهما الظروف التي ألمّت بالمسيحية الغربية حتى انفتحت على خصمها التاريخي اللاهوتي، ونقصد هنا اليهودية، ليغدو التراثُ الكتابيُّ المشترك أساسَ تحالف مصيري بين الديانتين. وقد تجلى ذلك بالخصوص في تنقية العلاقة بين أتباع الديانتين ممّا شابها من اضطراب إبان حقبة اللاسامية وطيلة فترة الفاشية والنازية؛ وأما العنصر الآخر في تلك العلاقة فيتمثل في التنسيق والتعاون بين الطرفين في الراهن بشأن المقايضة على القدس الشريف، للقبول بالأمر الواقع والإقرار بسيادة إسرائيل على المدينة المقدسة، مقابل الاعتراف بتسيير الفرنسيسكان، فصيل الرهبنة التابع لكنيسة روما، للبقاع المسيحية المقدسة التي من ضمنها عليّة صهيون، موضع العشاء الأخير للسيد المسيح. وكمسألة ثانية ضمن هذا الفصل جرى التطرّق إلى تقلّب مواقف الكنيسة، من الرفض مرورا بالقبول على مضض وإلى غاية التوظيف، لمفهوم جوهري من مفاهيم الحداثة السياسية ألا وهو حقوق الإنسان، لاسيما في الفضاءات التي تشهد تناقضات أو اضطرابات مع الكنيسة الغربية، على غرار العالم الإسلامي والصين والهند.

بينما تركزَ الاهتمام في الفصل الثالث والأخير من الكتاب حول تحولات الداخل وتحديات الوافد الذي يشهده الواقع الغربي. فـ"السوق الدينية" تعرف حالة فوران للإنجيليات الجديدة لاسيما في شمال القارة الأمريكية تشي بظهور كنيسة جديدة. لكن في زحمة هذا التحول الذي يشهده الواقع الغربي ثمة طارئ جديد على الساحة أطلّ خلال العقود الأخيرة يتمثّل في بروز "الإسلام المهاجر". بات أتباعه يطالبون بحقوق على غرار غيرهم من أتباع الأديان الأخرى، تكفلُها الدساتير ويضمنها سير المجتمع المدني، لكن بعض البلدان تتلكأ في خوض تلك التسوية. بالإضافة إلى ذلك أنّ واقع التدافع بين الأصيل والدخيل، أي التقاليد الدينية المسيحية والأشكال الجديدة الناشئة مثل التقاليد الدينية الشرقية والإسلام، غدا مدعاة لإثارة العديد من الانتقادات. وهو ما خصصنا له دراستين عُنيت الأولى بالوجود الإسلامي في الغرب كوقائع ومصائر، والثانية بصناعة الإسلاموفوبيا كشكل من أشكال الرفض والخشية من الآخر، وهما بحثان يتناولان التفاعل المباشر والاحتكاك الفعلي الذي يشهده الفضاء الغربي وهو ما يضع أطروحاته المدنية وسياساته الاندماجية على المحكّ.

نرصد ضمن المحطات المتنوعة التي حاول الكتاب عبرها الإحاطة بواقع الدين في الغرب أن التحولات الجارية بالداخل، قد مسّت بنى عميقة اجتماعية وثقافية، مع ذلك لا يزال الإقرار بذلك محتشما. وليس الوعي التقليدي الغربي فحسب عاجزا عن الإقرار بتلك التحولات، بل النظر السياسي المحافظ أيضا، وهو ما يتجلى في مركزية دينية، ولّى عهدها، في عالم داهمته العولمة. حيث تأبى تلك المركزية استيعاب الآخر، الذي يمثّله المسلم في اللحظة الراهنة، وتثير الانتقادات والمزاعم حوله. ولكن المسلم الذي بات مقيما ومستوطنا ما عاد قصيّا في التاريخ وثاويا في الذاكرة، بل هو اليوم واقع حي، مجاور في المسكن ومشارك في المأكل، يلقاه الراصد في المدرسة ويصادفه في المصنع. ليُختتم الكتاب بإبراز الحاجة إلى خطاب حواري سديد في زمن جديد، في سبيل بناء تعددية ثقافية حقيقية تقطع مع أطلق عليه الكاتب 'مدوّنة الاستعلاء الغربي'.

 

 

13-08-2017 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=1003