/

 

 

العنف في مقاومة العدوان:أسس المشروعية وضوابطها

عبد الرحمن حللي

تمهيد:
شعور الإنسان بأهمية القيم ودورها في الحياة يتفاوت باختلاف الثقافات وتطورها ووعي الإنسان بها، دون أن يعكس ذلك تغيراً في جوهر القيم والمبادئ التي يؤمن بها، فحقوق الإنسان في الغرب بلغت مبلغاً من القدسية لدى الفرد (لا يسمح بانتهاكها في حقه)، وهذا الشعور دفع ذاك الغربي لعولمة تلك الحقوق على المستوى النظري واعتبارها مقياساً إنسانياً، بينما كانت الجهود الغربية على أرض الواقع لا تعكس تلك النظرة العامة للقيم، وكان احتلال بلاد المسلمين مباشرة أو دعماً أو سكوتاً العنوان الأبرز لهذا التناقض بين الطرح النظري والعملي لعولمة القيم الغربية، واضطر المسلمون لاتخاذ مواقف من تلك المشاريع التي ليس آخرها مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهذه المواقف تفاوتت بين التنظير للقيم التي هي موضوع الجدل (وفي موضوعنا هي الموقف من العنف)، وبين مواجهة العدوان العملي بطرق عملية (وهي في موضوعنا الاحتلال ومقاومته).
ولم تكن تلك المواقف جديدة فالدراسات الإسلامية حول حقوق الإنسان من منظور إسلامي هي من القدم والكثرة ما جعلها أشبه بترسانة دفاعية نظرية عن الإسلام، لكنها لم تعد ذات قيمة مقنعة طالما أن تجسيدها على أرض الواقع ومن المنظور الإسلامي لم يتحقق، كما أن مواقف الدفاع العملية ضد العدوان لم تؤد إلى الاستقلال المطلوب بل آلت الأمور إلى تجدد الاحتلال، فجلاء المستعمر عن بلاد المسلمين كان شكلياً وعسكرياً إذ لم يكتمل الاستقلال على أي من الأصعدة بل أصبح موقف الخارج من الداخل هو سند الاستقرار سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي، فالعنف كان وما يزال دليل جدية مقاومة الاحتلال والعدوان، بنما تؤكد التجارب العربية منذ أكثر من نصف قرن أن العنف بمفرده لم يحقق نصراً، وما تحقق من نصر للمقاومة العنفية في أي من الميادين إنما اقترن بمعطيات أخرى ساهمت في تحقيق النصر.
فالتساؤل المطروح الآن حول مشروعية العنف في المقاومة -وإن كان جوابه بدهياً من الناحية الشرعية والقانونية- إنما يستمد أهميته من التحدي العالمي الذي يواجه المسلمين لتمييز أنفسهم عن "الإرهاب" الذي استشرى في العالم باسم المسلمين لاسيما بعد الحدث الأيلولي، ومن الخلط الذي يجري على أرض الواقع بين مقاومة الاحتلال وقتل الأبرياء باسم المقاومة سواء من قبل فريق من المقاومين أو من قبل من يستغلون الحدث لزرع الفتن بين المسلمين (الحالة العراقية)، لذلك ستحاول هذه المقاربة أن تجيب عن التساؤل من خلال بيان أصل مشروعية العنف في المقاومة والمقاصد التي شرع من أجلها، ثم تحاول أن تربط العنف المشروع بالقيم التي تحكم مساره لئلا ينقلب إلى الضد مما شرع من أجله.
أولاً - أصل مشروعية العنف في المقاومة والمقاصد التي شرع من أجلها:
كلمة عنف تحيل إلى الشدة والقسوة وما هو ضد الرفق سواء كان ذلك لفظياً أو مادياً(1) ، وسياق موضوعنا يحصره بالعنف المؤدي إلى الأذى المادي للإنسان في شخصه أو ممتلكاته، فقد يكون إتلافاً أو تدميراً للممتلكات أو جرحاً أو قتلاً لفرد أو أفراد من المعتدين، وهذا يحصل في إطار العنف الجنائي في الحالات الطبيعية، ويصنف ضمن أنواع الجرائم وقد وضعت لها عقوبات من جنسها لمنع تكرارها وصيانة المجتمع من انتشار آفة العنف، فمعلوم ما يحققه رد العدوان على المعتدي بالمثل من انتصاف للمعتدى عليه وشفاء لما قد يتفاعل في نفسه من الحقد تجاه المعتدي، لذلك شرع الإسلام رد العدوان وحصره بالقضاء وحرَّم على الأفراد أخذ حقوقهم بأنفسهم لما يؤدي إليه ذلك من فوضى واستمرار للعنف، وجعل المقصد من تشريع العنف العلاجي هو صيانة الحياة وحفظها، قال تعالى:  وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، فالتشريع الإسلامي إنما جاء ليصون الإنسان من أي عنف، وحتى في سياق تشريعه الجزئي للعنف على سبيل رد العدوان على الجاني شجع على سلوك طرق أخرى أكثر جدوى وهي الصفح والعفو والتنازل الفردي عن حق القصاص لما في ذلك من أثر في تنقية الدوافع التي أدت بالجاني إلى الاعتداء ..فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ[البقرة:178].
إذاً فالأصل أن العنف مرفوض وحيث شرع إنما شرع لإزالة العنف والقضاء عليه، هذا في سياق المجتمع وفيما يتعلق بالعنف الداخلي بين أفراده، أما عندما تتعرض أي جماعة لعنف خارجي يستهدف وجودها أو أرضها أو أي من حقوقها فقد اعتبر العنف وسيلة من وسائل رد ذلك العدوان وضمان عدم تكراره، وقد تقرر ذلك في القرآن الكريم فيما يعرف بتشريع الجهاد والقتال.
وقد تعددت الدراسات حول موضوع الجهاد والقتال قديماً وحديثاً، واهتمت أساساً ببيان علل تشريع القتال ومقاصده، وما يزال التنازع مستمراً في تصنيف القتال بين الدفاعي أو الهجومي أو هل هو للكافر بسبب كفره أم لأسباب أخرى، والتدقيق في الآيات المتعلقة بتشريع القتال يقود إلى فهم المقاصد الكلية التي شرع من أجلها القتال، وهذا إنما يمكن فهمه بعد استبعاد فرضية النسخ المبالغ فيها في التوفيق بين آيات القتال التي تبدو حسب الظاهر متعارضة مثل قوله تعالى:  فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:5](2) ، والتي اعتبرت ناسخة لما يعارضها، فأحيلت بهذه المقولة عشرات الآيات في القرآن إلى التاريخ(3) ، بينما تتبعها يؤكد تضافرها على علل ومقاصد بينتها بعض الآيات التي سأستشهد بها، وعندما نتحدث عن الجهاد والقتال فإننا نتحدث بطبيعة الحال عن العنف في المقاومة لأن ما يتعلق بممارسة العنف على مستوى الجماعة والأمة إنما يرجع إلى تشريع الجهاد في الإسلام:
ـ علَّة القتال كما تتجلى في الآيات:
أهمُّ أنواع العلة هو ما أشارت إليه النصوص من خلال أدوات تفيد التعليل وقد تتبعتها في آيات القتال فوجدتها في الآيات التالية :
• قوله تعالى :  أُذِنَ للذين يُقَاتَلون بأنهم ظُلِمُوا  [ الحج:39].
فقد استعمل النص أداةً صريحة تومئ إلى التعليل وهي (الباء) التي تفيد السببية والتعليل(4) ، وهذا يشير إلى أنَّ مشروعية القتال معللة بالظلم الواقع على من شُرع القتال لصالحهم، وقد تأكدت هذه العلَّة في آيات أخرى كقوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، فهي تشير إلى أنَّ القتال (العدوان المشروع) يبقى مشروعاً ومستمراً بعد انتهاء القتال في حق الظالمين. 
هذا ولا تقتصر علَّة الظلم على دفعه إنما تشمل رفعه عمَّن وقع عليهم، وقد أشار إلى هذا العموم قوله تعالى: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا [النساء:75]؛ فالقتال مشروع ومعلل بالظلم، والهدف من القتال دفع الظلم، ورفع الظلم عمَّن وقع عليه، وما ذُكِرَ في الآياتِ الأخرى مما يُستَنبَط منه أنَّه سبب للقتال إنما هو مما ينطوي تحت عنوان الظلم، فهي أشكال للظلم الذي يتعرض له المسلمون 
• قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكونَ الدِّين لله فإن انتهوا فلا عدوانَ إلا على الظالمين  [ البقرة:193].
• قوله تعالى:وقاتِلُوهُم حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكون الدِّين كُلُّه لله فإن انتهوا فإنَّ الله بما تعملون بصير [الأنفال:39].
تشير الآيتان إلى علَّة القتال بالأداة (حتى) التي تفيد التعليل(5) ، وبالعطف عليها بالواو؛ والعلَّة المشار إليها في الآيتين هي ألا تكون فتنة وأن يكون الدين كله لله.
مفهوم الفتنة: تأتي الفتنة في اللغة بمعنى الاختبار والامتحان والابتلاء، وقد اتَّجه كثيرٌ من المفسرين إلى تفسير الفتنة بالشِّرك، وفسَّرها البعض الآخر بالكفر(6) ، إلا أنَّ التحقيق في معنى الفتنة في القرآن يؤكِّد أنَّ لها معنى آخر له صلة بالظلم الذي علل به القتال بدليل ما يلي: 
1ـ استعمال القرآن (الفتنة) لما يدُّل على محاولة صرف الإنسان أو تحويله عن دينه أو معتقده أو فكره بالقُوَّة والعدوان، أو إرغام المسلمين على الارتداد عن الإسلام وبتعبير آخر هي الإكراه في الدين(7) ، ونجد هذا المعنى واضحاً في الآيات التالية :
ـ قوله تعالى :  إنَّ الذين فَتَنُوا المؤمنين والمؤمنات ثمَّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق  [ البروج:10]، فمعنى الفتنة في الآية واضح أنَّه إرغام الناس على الردَّة عن دينهم بدلالة الآية السابقة :  وما نَقَمُوا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.. .
ـ قوله تعالى:  ثمَّ إنَّ ربك للذين هاجروا من بعد ما فُتِنُوا وصبروا إنَّ ربك من بعدها لغفورٌ رحيم  [ النحل:110]، فالفتنة في الآية تشير إلى تعذيب المسلمين في مكة من أجل دينهم، بدلالة إشارة الآية إلى صبرهم على الفتنة وهجرتهم فراراً بدينهم.
ـ قوله تعالى: وإن كادوا ليَفتِنُونَكَ عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً  [الإسراء:73]، والفتنة في الآية واضحة في معنى محاولة ردِّ الرسول وإرجاعه عن الذي أُوحي إليه من ربه .
ـ قوله تعالى: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملأه أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين  [يونس:83]، فهم خائفون من أن يفتنهم فرعون بإكراههم على ترك موسى وإتباعه.
2ـ استعمال الفتنة في السنَّة وبين الصحابة بما يدل على أنها الاضطهاد في الدِّين، والإيذاء والتعذيب من أجله، والإكراه والمنع من التمتُّع بحرية التدين .
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا أَنَّ رَجُلاً جَاءَ هُ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات:9] إِلَى آخِرِ الآيَةِ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ لا تُقَاتِلَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي أَغْتَرُّ بِهَذِهِ الآيَةِ وَلَا أُقَاتِلُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَغْتَرَّ بِهَذِهِ الآيَةِ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا …) [النساء:93]، قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [البقرة:193]، قَالَ ابْنُ عُمَرَ قَدْ فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ  إِذْ كَانَ الْإِسْلامُ قَلِيلاً فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا يَقْتُلُونَهُ وَإِمَّا يُوثِقُونَهُ حَتَّى كَثُرَ الإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ..))(8) ، فاستعمال الفتنة بمعنى الاضطهاد الديني واضح من خلال هذا النص الذي نقلناه عن ابن عمر رضي الله عنهما .
3ـ قوله تعالى بعد ذكر الفتنة:  فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ فالظاهر أنَّ الانتهاء إنما هو عن الاعتداء على المسلمين، الذي هو (الفتنة) وأمرت الآية المسلمين بعدم الاعتداء على غيرهم إذا انتهوا عن اعتدائهم، فلو كان المقصود بالفتنة الشرك أو الكفر لقال فإن أسلموا، ولَمَا كان هناك مورد لختم الآية بأنَّه لا عدوان إلا على الظالمين إذ لا يُتصور حصول الظلم مع الإسلام؛ فكأنَّ الآية تقرر:إذا انتهوا عن العدوان (الفتنة) فلا عدوان إلا على الظالم منهم. 
4ـ الواقع الذي عاشه الرسول  وأصحابه في مكة، والأهداف التي كان يسعى إليها الكفار في حروبهم مع المسلمين والمتمثلة في ثني المسلمين عن دينهم وردتهم إلى الكفر، ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردُّونَكُم من بعد إيمانكم كُفَّاراً حسداً من عند أنفُسِهِم من بعد ما تبين لهم الحق [البقرة:109]، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إنِ استطاعوا [البقرة:217]، وأخبار الاضطهاد الذي عاناه المسلمون في مكة من أجلِ دينهم وحريتهم معلومة؛ كل ذلك يؤكِّد هذا الاتجاه في فهم معنى الفتنة.
5ـ لو كان المقصود بالفتنة في قوله تعالى: والفتنة أشَدُّ من القتل [البقرة:191] الشرك لمَا تناسب ذلك مع ما سبق الآية من الأمر بالقتال للمقاتلين المعتدين الذين أَخرَجُوا المؤمنين من ديارهم، إذ سياق الآية بمثابة تأكيدٍ لمشروعية القتال وعدالته، وقد بَيَّنَت الآية أسبابه فكأنَّ الفتنة تعبيرٌ عن تلك الأسباب فالآية تفيد أنَّ إخراج المؤمنين من أرضهم والاعتداء عليهم ومقاتلتهم من أجل دينهم كلُّ ذلك أشَدُّ من القتل ( أن يقتل المسلم مدافعاً عن حريته ودينه) .
إذا اتضح هذا المفهوم للفتنة في الآيات فإنَّ علَّة القتال هي منع الفتنة/ منع حصول الاضطهاد الديني، وأن يكون الدين لله/ إقرار الحرية الدينية، وقد دلَّ على الشطر الثاني من العلَّة (إقرار الحرية الدينية) تتمة الآيتين .. ويكون الدين لله، .. ويكون الدين كله لله وذلك بأداة العطف التي تقتضي تكرار أداة التعليل ضمناً، أي وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وحتى يكون الدين لله.
ومعنى أن يكون الدين لله أن يكون الإيمان في قلب المؤمن آمناً من زلزلة المعاندين له بإيذاءٍ أو تشريدٍ أو إخراجٍ أو أي نوعٍ من أنواع الاضطهاد، فيكون خالصاً لله بعد أن كُفَّتِ الفِتَنُ عنه، وقوي سلطان الفرد وغدا حُرَّاً في تقرير مصيره ومعتقده من دون إكراه.
ولئن كانت العلَّة واردةٌ في سياق الآية بالنسبة للمسلمين فهي تشمل غير المسلمين أيضاً، ذلك أن كون المسلمين محل اضطهاد عند نزول الآيات لا يجعل الحكم مقصوراً عليهم فقد جاء الحكم بأسلوبٍ عام يشمل المسلمين وغيرهم، فالفتنة مرفوضة سواء كانت لأجل ترك الإسلام أو اعتناقه. 
ومن ثَمَّ فالملحظ الذي نظرت إليه الآيات هو العدل والحرية بشكل عام وأن يكون الدين خالصاً لله لا يتدخل فيه أحد، وقد وردت آية صريحة في سياق آيات القتال تؤكِّدُ هذا المعنى وهي قوله تعالى:  ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدِّمَت صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذكَرُ فيها اسم الله كثيراً ولَيَنصُرَنَّ الله من يَنصُرُهُ إنَّ الله لَقَويٌ عَزِيز  [ الحج:40]، جاءت هذه الآية بعد الآيات التي شرعت القتال وبَيَّنَت عِلَّتَه، وتضمنت بياناً لسُنَّةٍ إلهية في الأرض، تمثَّلت في جعل مشروعية القتال الذي عبَّرَت عنه بدَفعِ الناس بعضهم بعضاً - أي دفع الظالم وحجزه عن ظلمه من قبل دعاة العدل أو المسلمين- عاملاً من عوامل الاستقرار واطمئنان الناس إلى ممارستهم لحرياتهم الدينية، وأنَّه لو تُرِك الظالمون وما يشاءون لأدَّى ذلك إلى تهديم أماكن العبادة بسائر أنواعها ولَمَا استقر يهودي ولا نـصراني ولا مسلم ولا أحد غيرهم على دينه، ولما استطاع أن يمارس شعائره بحرية في المجتمع؛ فالآية ناظرة إلى ضرورة الجهاد من أجل رفع الظلم وتأمين الحريات لجميع النـاس ولجميع الأديان، فاعتبرت تهديم أماكن العبادة من الفساد والاستبداد الذي يسعى الجهاد في الإسلام إلى منعه، ولم تقتصر الآية على المسلمين  لَهُدِّمَت صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدُ، وبهذا تكون هذه الآية تأكيداً لما دلَّت عليه الآيات التي عَلَّلَتِ الجهاد بما ذكرناه من رفع الظلم ومنع الفتنة وأن يكون الدين كله لله .
- الخلاصة في علة القتال : 
تبين لنا مما ذُكر أنَّ آيات القتال تضمنت العلل التالية :
 دفع الظلم ورفعه سواء أكان واقعاً على المسلمين أم على غيرهم .
 منع الفتنة / الاضطهاد الديني .
 خلوص الدين لله / تأمين حرية التدين والاعتقاد لجميع الناس .
فحيثُ حلَّ الظلم في الأرض وجب على المسلمين السعي إلى رفعه وإزالته سواء أكان هؤلاء المظلومون المستضعفون مسلمين أم غير مسلمين، وأياً كان الظالم مسلماً أم غير مسلم، فالظلم غير مبررٍ من أي شخص كان إنَّ الله لا يحب المعتدين [البقرة:190].
وعليه فحيثُمَا حل الظلم وفُتِنَ الناس عن دينهم وانتُهِكَت حرية الاعتقاد والحرية الدينية في مجتمعٍ كان واجباً على المسلمين السَّعي لإزالة هذه الفتنة، والعمل من أجل تأمين مناخ من الأمن والطمأنينة والاستقرار لهؤلاء بحيث يتمتعون بالعدل والحرية. 
هذه الغاية السامية التي شُرع الجهاد القتالي من أجلها جعلت من الواجب على المسلمين أخذ الأُهبَة والاستعداد الدائم لإرهاب من يفكر بشيء من جرائم الظلم أو الفتنة، وبهذا الاستعداد والقوة يتم ضمان سيادة القانون وتأمين الحرية للناس، قال تعالى:وأَعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباطِ الخيل ترهبون به عدوَّ اللهِ وعدوَّكم [الأنفال:60](9) .
فإذا حصل الظلم بانتهاك حرمات المسلمين وأرضهم وديارهم وجب العمل على رفع هذا الظلم وبالعنف إن كان مجدياً بعد الإعداد له، وذلك من أجل رفعه ومنعه، فالمقاومة العنفية إنما تستمد شرعيتها من هذه النصوص التي تشرع القتال لمنع العنف ورفعه.
فعلَّة القتال (منع الظلم - منع الفتنة - تأمين حرية الاعتقاد) تجعل من الجهاد القتالي متكاملاً مع المبادئ والحقوق التي شرعها الإسلام للإنسان، وذلك من خلال تشريع القتال ليحميها وليرفع أي انتهاك لها، لذلك كان الأمر القرآني بالإعداد الدائم والتحصن بالقوة من أجل حماية تلك الحقوق(10) . 
فالمقاومة التي تعتمد العنف إنما تقصد إلى رفع الظلم الواقع بالاحتلال واغتصاب الأرض ونهب خيراتها ومنع أهلها من حقوقهم فيها، فما هي ضوابط ممارسة العنف المشروع، وما هي الشروط التي تجعل من خيار العنف في المقاومة مجدياً؟
ثانياً- ضوابط ممارسة العنف المشروع:
إن أي حكم تشريعي عام ينضبط بقواعد التشريع ومقاصده العامة، وأحياناً تفصل هذه القواعد في بيان الشروط المتعلقة بالتكليف، وبشكل عام وإن لم ينص عليها فهي معتبرة بطبيعة الحال، فمثلاً شرط الاستطاعة شرط عام في كل التكاليف الشرعية وإن لم يصرح به، وكذلك بالنسبة لأهلية التكليف بالحكم، والشأن نفسه بالنسبة للأحكام التي شرعت على أساس المصلحة المعتبرة للعباد لا يعتبر الحكم إذا انتفت المصلحة أو تحولت إلى مفسدة، وفيما يتعلق بممارسة العنف في الإطار المشروع فإن ذلك يتقيد بشروط عامة أشارت إليها بعض الآيات وبينها علماء الأصول ومنها:
- التَّبيُّن من العدو والالتزام بأخلاقيات القتال:
باستطاعة أي متتبع لآيات الجهاد والقتال في القرآن أن يلاحظ تركيزها على عنصر يعبر عن قيمة أساسية تحكم تشريع الجهاد، هو العدوان من حيث كونه وصفاً لفريق العدو أو النهي عن تلبس المسلمين به، نقرأ مثلاً قوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190]، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، لذلك اشترط في رد العدوان أن يكون بالمثل وبقدره فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194]،وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2]، فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90].
إن الآيات تخاطب في المسلمين ضميرهم وتحذرهم من مخاطر تحول تشريع القتال من وسيلة لتحقيق السلم ونصرة الحق والمستضعفين، إلى وسيلة للانتقام وشفاء الغليل من العدو، فأُمر المسلمون بأن يتَبَيَّنوا من ماهية العدو قبل الهجوم عليه هل هو العدو الحقيقي وهل هو المعتدي؟ وإذا تم تبين ذلك فينبغي التقيُّد التام بقواعد القتال والانتهاء عنه بمجرد وجود شبهة زوال أسبابه، قال تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94]، فالعلاقة بين المسلمين وغيرهم لا تتأسس على العداوة والحرب فتلك حالة استثنائية لها أسبابها الخاصة والظرفية والمنضبطة بشروطها، إنما الأصل في العلاقة السلم والرحمة، قال تعالى:عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(9)[الممتحنة].
هذه المبادئ القرآنية أكدتها سيرة الرسول  وخلفائه، فقد كان من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقاتلين قوله:"أغزو ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً"(11) ، وفي رواية"لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين"، وفي رواية أخرى "ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع"، ومن وصايا أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما بعث جيشاً إلى الشام، أوصى قائده "إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا ...وإني موصيك بعشر لا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً ولا تقطعن شجراً مثمراً ولا تخربن عامراً ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكله ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنه ولا تغلل"، وورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصاياه "اتقوا الله في الفلاحين فلا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب" وورد أنهم كانوا لا يقتلون تجار المشركين(12) .
هذه المبادئ الضابطة للقتال لا فرق فيها بين أن يكون الأمر في الجهاد الخارجي أو الدفاع على سبيل المقاومة لأن تلك الضوابط تنبع من القيم والأخلاق الإسلامية التي تقتضي العدل فلا يمارس العنف ضد غير المعتدي، ولا يتجاوز العنف حدود ما شرع من أجله وهو رد العدوان وبالمثل.


- التحقق من المصلحة الشرعية، العنف: اقتراب أم بعد عن الهدف؟:
إن من أبسط المبادئ التي ينبغي على كل عاقل أن يلتزمها في كل تصرف يقوم به هو قياس مدى اقتراب سلوكه من الهدف الذي يسعى إليه أو بعده عنه، وعندما يكتشف المرء أنه يسير في طريق يبعده عن أهدافه فينبغي عليه أن يسلك طريقاً آخر، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين"(13) ، وما تكرار الخطأ إلا دليل على اختلال في التفكير من جهة وإهمال للمبادئ الإسلامية في الحياة من جهة أخرى، وإن الحكمة الإسلامية تقتضي أن يعتبر الإسلاميون من مسيرتهم وتجاربهم، ولا يتأتى ذلك ما لم يتخلوا عن فكرة الانتقام من العدو ويفكروا في أسس النصر عليه، وذلك من خلال فهم سنن التغيير وآلياته، فالعنف الذي يزيد العدو شراسة وقوة ويزيد المسلمين تقهقراً وفقداناً للقوة المادية أو المعنوية لا يعتبر مشروعاً من حيث ظروف الواقع وتطبيقه، لذلك نجد تشريع القتال قد تأخر في الإسلام إلى المرحلة المدنية أين تمكن المسلمون من أرضية تؤهلهم للبناء والتأسيس لاسترداد حقوقهم ومنع الظلم الواقع عليهم، واعتبر الاستعداد والتمكن شرطاً للخروج للقتال، قال تعالى:وأَعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباطِ الخيل ترهبون به عدوَّ اللهِ وعدوَّكم [الأنفال:60]، وحيث أدى القتال إلى نتائج عكسية وجب تغيير مساره والتراجع عنه لئلا ينقلب إلى الضد ويزيد العدو تمكيناً، وسيرة الرسول  تؤكد العمل بهذا المبدأ، فالتراجع من غير خسائر عندما تكون الهزيمة محتومة هو حكمة وشجاعة، فلما أحيط بالمسلمين في غزوة مؤتة وكانت نجاتهم منهم تمثل مكسباً، لم يرض النبي  أن يوصفوا بأنهم قد فروا من المعركة، ذلك أنهم لم يتراجعوا وينسحبوا انهزاماً إنما لحكمة يقتضيها الواقع والمصلحة(14) ، وهذا ما قرره علماء الأصول وفق ميزان المصالح والمفاسد عند تنازعها في مسالة واحدة، فاعتبروا أن "انهزام المسلمين من الكافرين مفسدة لكنه جائز إذا زاد الكافرون على ضِعفِ المسلمين مع التقارب في الصفات تخفيفاً عنهم لما في ذلك من المشقة ودفعاً لمفسدة غلبة الكافرين لفرط كثرتهم على المسلمين"، وكذلك "التولي يوم الزحف مفسدة كبيرة لكنه واجب إذا علم أنه يقتل من غير نكاية في الكفار لأن التغرير بالنفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام وقد صار الثبوت ههنا مفسدة محصنة ليس في طيها مصلحة"(15) .
ميزان المصالح والنظر في تحقيق مقاصد الأحكام هذا لا يتخلف في تطبيق أي من أحكام الإسلام، ومنها استخدام العنف في مقاومة العدوان، فهو محكوم بالاستطاعة وتحقيق الهدف، أما إن انقلب إلى عكس المقصد فإن حكمه سيتغير.
فـ "الواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا المقل منهم والمكثر ولا يخرجوا إلى العدو إلا بإذن الأمير إلا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كَلَبه فلا يمكنهم أن يستأذنوه"(16) ، وذكروا أنه إذا دخل العدو بلدة بغتة وجب النفير العام، أي أن يحتاج إلى جميع المسلمين فيخرج الكل وشرط وجوب الخروج القدرة على السلاح والقتال وملك الزاد والراحلة، فدفع العدو واجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله(17) .
هذا هو الحكم العام فيما لو هجم العدو دار المسلمين بغتة والمظنة أن الخروج العام يردعه، أما إن استحكم في ديار المسلمين، فإن الواجب يصبح العمل الدائم على إزالة هذا الظلم الواقع على المسلمين، وذلك بالبحث في السبل الكفيلة لإزالة الاحتلال، وممارسة العنف العبثي والعشوائي في هذا المجال لا يعتبر جهاداً لما له من أثر سلبي، لذلك فإن الأمر محكوم بميزان المصالح والمفاسد، فضلاً عن شروط الإعداد والاستطاعة، ولتحقيق ذلك لا بد من دراسة الحالة والظروف المحيطة بها والإمكانات المتاحة للردع، فالعنف وسيلة من تلك الوسائل وهي ليست الأهم ما لم يتقدمها وحدة الصف ووضوح الرؤية وتحديد الهدف وإعداد العدة. 
فالاقتصار على القوة العسكرية من قبل الفريق الضعيف سيؤدي إلى استقواء الجانب القوي وإلحاق أكبر قدر من الخسائر في جانبه، لذا لا بد من الاعتماد أولاً على قوة أهم وهي القوة الرمزية التي تستند إلى الحق والصبر والصدع بالحق، وتستثير دوافع الخير في الإنسان والعالم ليقف في جانب الضعيف، والاعتماد على عناصر القوة المستجدة مثل قوة الإعلام والرأي العام، فهي من الاستعداد المأمور به، ففي موقف يقرره العنف ينتصر الفريق الذي يتحكم بأكبر قدر من العنف، لذلك فإن المصلحة التي شرع من أجلها العنف تجعل منه خياراً ينبغي أن يُسبق باختيارات أخرى هي التي تحدد جدواه، وهذه الاختيارات الأخرى هي من المقاومة المشروعة والمأمور بها ولا تقل أهمية عن خيار العنف، لذلك لم يرد في القرآن تعبير العنف الذي لا يحمل لغوياً سوى معان مذمومة، وعبر بـ "الجهاد" الذي يعم بذل المجهود بشكل عام سواء بالمال أو النفس أو أي جانب آخر، وهو بهذا يشمل مفهوم المقاومة بكل أبعادها السلمية والعنفية.
الخاتمة:
إن ما تخلص إليه مقاربتنا هو التأكيد على مشروعية العنف في إطار مقاومة الاحتلال كوسيلة مأمور بها عندما تكون مجدية في رفع الظلم وتأمين الحرية والحياة الكريمة، وهي تشريع يتقيد بقواعد ومقاصد التشريع وأخلاقيات القتال، وهو وسيلة من وسائل أهم يتضمنها المفهوم الإسلامي المقابل لمفردة العنف وهو مفهوم "الجهاد" الذي يعني بذل الجهد بمختلف أنواعه، والقتال هو آخر مراحله عندما تفشل المقدمات السلمية لنيل الحقوق ورفع الظلم، هذا إن كانت معطيات الواقع وميزان المصالح يرجح كون العنف طريقاً يوصل إلى الحق فضلاً أن يكون سبباً في تقوية العدو أو إضعاف المسلمين عن القيام بأنواع الجهاد الأخرى(18) .
فأمر شرعية العنف في المقاومة إسلامياً يرتبط ببعدين، الأول: الأصل التشريعي وهو النصوص القرآنية التي شرعت القتال معللة إياه بالظلم دفعاً ورفعاً وبمنع الفتنة والإكراه في الدين وتأمين الحرية الدينية بأن يكون الدين لله، والثاني: الضوابط الأخلاقية للممارسة والمعطيات الميدانية التي تحدد أولويته من بين خيارات المقاومة في ضوء ميزان المصالح والمفاسد العائدة على سعي الجماعة لنيل حقوقها، والتي ينبغي أن تعتبر هي المرجع في تحديد هذا الخيار أو ذاك.
فإذا أسقط الموضوع على حالات البلاد الإسلامية التي تقاوم الاحتلال كحالة فلسطين والعراق، تعين القول أن الميدان هو الحَكم في أولوية خيار العنف على غيره، فالمعطيات في الحالة الفلسطينية تؤكد -للملاحظ من الخارج- أن العنف في المقاومة قد أفلح في إبقاء القضية حية ومستمرة وعالمية وهذا إنجاز مهم على المستوى الاستراتيجي، أما على المستوى الميداني والمباشر فقد اعتُبر عنف المقاومة ذريعة لمضاعفة الإرهاب الإسرائيلي وتبرير الدعم العالمي له أو السكوت عنه، أما في الساحة العراقية فيبدو -للملاحظ من الخارج أيضاً- أن العنف في المقاومة أصبح ذريعة يتم من خلالها قتل الأبرياء من العراقيين وغيرهم، سواء من قبل المقاومين أو من قبل أصحاب المصالح في إثارة الفتن العرقية والطائفية، لكن ملاحظة المتأمل هذه تبقى أسيرة ما يصل عبر وسائل الإعلام، أما على أرض الواقع فإن المرجعية الحقيقية لتحديد خيارات المقاومة وأولوياتها هم أهل البلاد في ضوء تجربتهم الميدانية وقدراتهم المتاحة، فحيث دلت الدلائل على كون العنف طريقاً موصلاً إلى الحق تعين سلوكه، والحرص على اتفاق الجماعة حول الخيار الممكن، فإذا ثبت أن خيار العنف هو أحد خيارات المقاومة، فلا يمكن حصر وصف الجهاد والوطنية بمن يمارس العنف، فمشروعية العنف لا تلغي شرعية من اختار طريفاً آخر للمقاومة، فهو من الجهاد العام.
الإحالات:
1) لم يرد لفظ "عنف" في القرآن الكريم، لكن ورد عن النبي  أنه قال:"يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش" (صحيح البخاري ت:مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير, اليمامة- بيروت 1987، رقم: 5683، ج:5 ص: 2243) وفي رواية أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف وما لا يعطى على ما سواه" (صحيح مسلم، ت:محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي-بيروت رقم: 2593، ج: 4 ص: 2003)
2) تدعى هذه الآية (آية السيف) على أصح الأقوال ( انظر: مصطفى زيد، النسخ في القرآن ط:2 دار الفكر - بيروت 1973، ج:2 ص:504).
3) تتبع الدكتور مصطفى زيد الآيات التي ادعي نسخها بآية السيف فوصلت إلى مئة وأربعين آية وناقش هذه الدعاوى في كتابه ( انظر له: النسخ في القرآن:2/508 ).
4) انظر: جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ت:مصطفى ديب البغا، ط:3 دار ابن كثير - دمشق 1996، ج:1 ص:503 .
5) انظر : السيوطي، الإتقان في علوم القرآن:1/511 .
6) ذهب إلى تفسيرها بالشرك ابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وقتادة ، والربيع ، ومقاتل بن حبان والسُّدِّي ، وزيد بن أسلم؛ وفسَّرها ابن زيد بالكفر . ( انظر : الطبري، التفسير:2/197 وما بعدها ط. العلمية - مصطفى زيد، النسخ في القرآن:2/510 ).
7) انظر هذا الاتجاه في فهم معنى الفتنة عند: محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ط:2 دار المعرفة - بيروت ج:10 ص:307، محمود شلتوت، القرآن والقتال ط:2 دار الفتح 1983، ص:69، محمد عزة دروزة، التفسير الحديث، ط.دار إحياء الكتب العربية 1963، ج:1 ص: 23، 189، الجهاد في سبيل الله، ط.دار اليقظة العربية - دمشق 1975، ص:49-50، سيد قطب، في ظلال القرآن، ط:5 دار الشروق 1977، ج:1 ص:294، قال الراغب الأصفهاني في المفردات:"والفتنة من الأفعال التي تكون من الله تعالى ومن العبد كالبلية والمصيبة، والقتل والعذاب وغير ذلك من الأفعال الكريهة، ومتى كان من الله يكون على وجه الحكمة، ومتى كان من الإنسان بغير أمر الله يكون بضد ذلك" (انظر: المفردات، ت: صفوان الداودي، ط:1دار القلم- دمشق 2002، ص:624). 
8) أخرجه البخاري في تفسير القرآن رقم:(4283)، و الترمذي في المناقب رقم:(3639) ، والإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة رقم:(5511).(انظر:برنامج موسوعة الحديث الشريف-إنتاج شركة صخر).
9) هذا الحكم القرآني في القتال هو ما أصبحت تتجه إليه القوانين الدولية المعاصرة لاسيما تلك التي تتعلق بالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، لكنا نرى من خلال ما سبق من علل للقتال أن تشريع القتال يتضمن وقاية مسبقة من الجرائم ضد الإنسانية، فإقامة العدل ورفع الظلم عن جميع الشعوب هدف أساسي للقتال في الإسلام؛ يقول الدكتور فتحي الدريني:"إن الإنسان لا يكون حراً حقاّ مدركاً لأبعاد الحرية وآثارها في حياة الشعوب إدراكاً عميقاً، إلا إذا عمل مخلصاً على تحقيق هذه الحرية الإنسانية في غيره، وإلا انقلب أنانياً عنصرياً لا محالة، ومن هنا تقف على الحكمة البالغة من تشريع الجهاد في الإسلام، وسيلة متعينة لتحرير المسلمين أنفسهم أولاً، ثم تحرير سائر الشعوب المستضعفة في الأرض، واعتبر المسلمون أنفسهم بحكم تعاليم الإسلام مسؤولين عن أداء هذه الفريضة تلقاء الشعوب، مسؤوليتهم عن تحرير أنفسهم سواء بسواء " [ فتحي الدريني، دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر: 3/127 ط:1 دار قتيبة – دمشق 1998 ].
10) انظر تفصيلاً: عبد الرحمن حللي، حرية الاعتقاد في القرآن الكريم:129-166، ط:1 المركز الثقافي العربي- بيروت2001.
11) صحيح مسلم، ت:محمد فؤاد عبد الباقي، ط:دار إحياء التراث العربي-بيروت رقم: 1731، ج:3 ص: 1357.
12) انظر الروايات والأخبار في:سنن البيهقي الكبرى، ت: محمد عبد القادر عطا ط: مكتبة دار الباز – مكة 1994، ج: 9 ص: 89-91 وما بعدها
13) أخرجه البخاري، ت:مصطفى ديب البغا، ط:3 دار ابن كثير , اليمامة- بيروت 1987، ج:5 ص:2271، رقم(5782)، ومسلم، ت:محمد فؤاد عبد الباقي، ط:دار إحياء التراث العربي- بيروت ج:4 ص: 2295، رقم (2998).
14) عن عروة بن الزبير قال لما عاد المسلمون من غزوة مؤتة جعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله قال فيقول رسول الله ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى" (انظر:ابن هشام، السيرة النبوية ت: طه عبد الرءوف سعد، ط:1 دار الجيل-بيروت 1411هـ ج: 5 ص: 33)
15) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ت: عبد الغني الدقر، ط:1 دار الطباع- دمشق 1992، ص:161، وذكروا أنه"إذا علم أنه لا ينكي فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم لأنه لا يحصل بحملته شيء من إعزاز الدين" حاشية ابن عابدين، دار الفكر-بيروت ج: 4 ص: 127.
16) ابن قدامة المقدسي، المغني، ط:1 دار الفكر-بيروت 1405، ج: 9 ص: 174
17) انظر: ابن تيمية، السياسة الشرعية، ط: دار المعرفة، ص:108، حاشية ابن عابدين، ط: دار الفكر-بيروت ج: 4 ص: 127
18) ظهر مؤخراً تعبير"الجهاد المدني" ليقابل الجهاد العسكري، ويؤصل مفهوم اللاعنف دينياً، ينظر في هذا المجال ملفاً حول الجهاد المدني في زاوية الإسلام وقضايا العصر ضمن موقع (http://www.islam-online.net ) إشراف:معتز الخطيب

 

 

07-08-2005 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=143