/

 

 

الطب النبوي... المفهوم والنشأة والعلائق

معتز الخطيب

«الطب النبوي»... تعبير شائع، كثر مروِّجوه في هذا الزمن، وهو في أصل إطلاقه لدى الأئمة المتأخرين من علماء الحديث بخاصة، يُراد به تلك الأحاديث الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في مسائل تتعلق بالطب: من علاج ودواء ووقاية ورقية ونحوها.
غير أنه بهذا اللفظ: «الطب النبوي» تعبير مستحدث – بحسب اطلاعي - في حدود القرن الرابع الهجري، إذ صنف أبو بكر بن السني (364هـ) كتاب «الطب في الحديث» وصنف أبو عبيد بن الحسن الحراني (369هـ) كتاب «الطب النبوي» وتوالت المصنفات بعدئذ بهذا الاسم لأبي نعيم الأصبهاني (430هـ) وأبي العباس المستغفري (432هـ) وأبي القاسم النيسابوري (406هـ) وغيرهم وصولاً إلى القرنين الثامن والتاسع الهجريين، إذ نجد مصنفات للذهبي (748هـ) وابن قيم الجوزية (751هـ) ثم السخاوي (902هـ) والسيوطي (911هـ) وغيرهم.
الطب في كتب الحديث الأصلية
وما لفت نظري أثناء التتبع والبحث أن الإمام مالكاً (179هـ) صاحب الموطأ، وهو أول كتاب في الحديث الصحيح غير المجرد، لم يستعمل تسمية «الطب» أصلاً، ولم يُفرد له كتاباً في موطئه مع أنه سمى كتاباً باسم «العين» وذكر فيه الأحاديث عن المعالجة من العين، والرقية والغسل بالماء من الحمى والطيَرَة، وأورد أحاديث عن الطاعون في كتاب «الجامع»، وهذه كلها من مفردات ما سُمّي لاحقاً بـ «الطب النبوي».
كما أن الأئمة: البخاري وأبا داود وابن ماجه خصصوا كتاباً سموه «كتاب الطب» وذكروا فيه تلك الأحاديث المتصلة بالوقاية والعلاج وبعض الأدوية. في حين أن مسلماً (261هـ) حصر كل مفردات ما سمي بالطب النبوي تحت كتاب «السلام»، وإن كان جعل ضمنه باباً سماه «الطب والمرض والرقى» وإلى جانبه أبواب أخرى عن السم والسحر والرقية والطيرة وغيرها. أما الترمذي (279هـ) فجعل عنوان الكتاب «الطب عن رسول الله».
والسؤال الآن: هل لهذا معنى؟
إن من المقرر أن أئمة الحديث كانوا يدققون في عنونة كتبهم وأبوابها، وأن فقه كثير منهم وآراءه يُستنبط من منهجه في التبويب والتصنيف. ومما سبق يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
* انه وردت أحاديث نبوية في شؤون العلاج والتداوي ونحوهما أدرجها المحدثون تحت عنوان جامع، كسائر الأحاديث حينما ساد التصنيف على الأبواب (الموضوعات). فظهرت تسمية كتاب «الطب» كرابط جامع لجملة الأحاديث تلك.
* ان عدم اطراد تسمية واحدة في تلك الكتب، والتي هي مصادر رئيسية للحديث الشريف يعني أنها كانت مسألة اجتهادية خاضعة لاعتبارات (فنية) تتعلق بترتيب الأحاديث لا غير. ومن هنا كان إفراد التسمية بـ «الطب» فقط.
* ان هذا الجمع للأحاديث المتعلقة بشؤون يجمعها اسم «الطب» شأنه شأن بقية الأحاديث من أنه تحقق فيه شرط صاحب الكتاب الذي جمعها: إن كان اشترط فيها الصحة فهي صحيحة لديه، أو كان التزم أن يجمع ما هو (مقبول) من سنن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وأقواله وأفعاله، وكان منها تلك الأقوال التي تتعلق في شأن الطب.
لكن تبقى مسألتان على غاية الأهمية هنا في ما يتعلق بجملة الأحاديث كلها: في الطب وغيره، وهما:
الأولى: كيفية الاستدلال بهذه الأحاديث، وإطار العمل بها، فليس كل ما صح يُعمل به، كما هو مقرر في علم أصول الفقه، فقد صحت أحاديث: العمل على خلافها، وبعضهم جمع الأحاديث التي لم يفتِ بها الفقهاء.
والثانية: وهي فَرْز الأحاديث بالنسبة الى تعدد وتركيب شخصية النبي (صلى الله عليه وسلم) ووظائفه المقررة، فمنها ما يصدر على صفة النبوة والتبليغ والفتيا فمصدره الوحي وهو داخل لا شك في الشرعيات، ومنها ما يصدر على صفة الإمامة/ السياسة، والقضاء وما يصدر عنه بوصفه محمداً الإنسان الذي يكتسب خبراته وتجاربه الحياتية من محيطه الاجتماعي وبيئته الثقافية وهذا لا مدخل فيه للوحي على التفصيل، وإن كان يبقى مؤطراً بإطار عام هو شخصية النبوة ورفعتها.
* ان تسمية الإمام الترمذي (الطب عن رسول الله) تسمية دقيقة لا تخرج عما ذكرت من أن هذا الكتاب يلم شمل الأحاديث التي وردت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في شأن الطب. ولكن يبقى بعد ذلك البحث في المسألتين السابقتين. في حين أن تسمية (الطب النبوي) التي استُحدثت لاحقاً كانت حسمت الموقف من تلك الأحاديث وأن كل ما ورد عنه (صلى الله عليه وسلم) هو من قبيل الشرع، بما فيه أحاديث الطب. وهذا رأي يخالفه المحققون من العلماء.
الوعي بالطب وحدوده
وينبغي أن نشير إلى أن تعبير (الطب النبوي) لا نجده – بعد البحث - شائعاً في كتب الفقه، ولا في كتب شروح الحديث. فالوعي الفقهي الكلي لمسألة الطب في تلك العصور المتقدمة كان منحصراً في إطار بحث جواز التداوي، وأنه لا يُرتِّب أي إثم شرعي، كما لا يُعكر صفاء التوكل على الله وتوحيده، وهذه النقاشات نجدها في كتب شروح الحديث، بل وفي كتب الطب النبوي نفسها كما لدى الإمام الذهبي مثلاً. وفي هذا يقول الإمام بدر الدين العيني وهو أحد شراح صحيح البخاري: «فيه إباحة التداوي وجواز الطب، وهو رد على الصوفية في أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء ولا يجوز له مداواته وهو خلاف ما أباحه الشارع». بل إن الأزرقي يحتدّ في الدفاع عن الطب وأن له منافعَ في مقدمة كتابه «تسهيل المنافع»!
ونجد الجدل في هل التداوي ينافي التوكل؟ في كتب ابن القيم وابن حجر، بل إن الفقهاء اختلفوا في حكم التداوي: فقال الشافعية بسنيته لا بوجوبه، قالوا: لأن نفعه غير مقطوع به! وقال بعض الفقهاء: «ترك التداوي لقويّ التوكل أفضل»، ومن هؤلاء النووي (676هـ).
بل نجد في موطأ الإمام مالك – رحمه الله - ‏أن رجلًا في زمان رسول الله‏ ‏(صلى الله عليه وسلم) ‏أصابه جرح فاحتقن الجرحُ الدمَ، وأن الرجل دعا رجلين من ‏بني أنمار‏ ‏فنظرا إليه فزعما أن رسول الله‏ ‏(صلى الله عليه وسلم) ‏قال لهما: أيكما أَطَبُّ؟ فقالا: ‏أَوَفي الطب خير يا رسول الله؟! فقال رسول الله ‏(صلى الله عليه وسلم)‏:‏ ‏أنزل الدواء الذي أنزل ‏الأدواء. فقد استنكر الرجلان أن يكون في الطب خير! والنبي (صلى الله عليه وسلم) يسألهما: أيهما أمهر في صناعة الطب؟ وهي صناعة كانت في عصره، ولذلك قال ابن خلدون في مقدمته: «والطب المنقول في الشرعيات (أي النبوي) من هذا القبيل (أي تجاربي)، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديّاً للعرب».
هكذا نجد أن الوعي في ذلك الزمن كان في حدود جواز التداوي، وأن الطب له منافع، وعلى هذا المستوى دار الجدل ابتداء! ففي القرن الهجري الأول إلى منتصف القرن الثاني لم يبلغ الطب عند العرب – كما يقول إدوارد فنديك في كتابه «اكتفاء القنوع بما هو مطبوع» - «رتبة العلم المتقن، بل اقتصر على بعض المعلومات المكتسبة بالاختبار. إلا أن الأمم المجاورة للعرب كانت على درجة عليا من العمران والتمدن ولا سيما في علوم الطب، ولذلك كان الأفراد القليلون من العرب يقتبسون منهم شيئاً من المعلومات الطبية ويأتون بها إلى الأوطان. ومما رغبهم على اتباع هذه الخطة الأحاديث المروية عن صاحب الشريعة الإسلامية في تعاطي بعض العلاجات».

 

 

17-09-2005 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=164