/

 

 

الوحدة البنائية للقرآن المجيد

طه جابر العلواني

قراءة القرآن المجيد ليست قراءة عادية تشبه قراءة أي نصّ منظوم أو منثور، بل هي قراءة خاصة تقتضي من القارئ أن يكون قد هيأ نفسه وعقله وذهنه وقلبه تهيئة تامة تلائم مقام القرآن وتناسبه بحيث يكون القارئ مدركاً تماماً أنه يقرأ كلمات الله ووحيه إلى الإنسان الرسول النبي الذي قام بدوره بنقل هذا الوحي - القرآن إلينا، وصرنا حين نقرؤه إنما نقرؤه مباشرة بوصفه خطاباً إلهياً موجهاً إلينا بشكل مباشر. فلكي نرقى إلى مستواه، ونعرج إلى عليائه فإن علينا أن نتدبر آياته، ونتلوها تلاوة، ونرتلها ترتيلاً، ونفكر فيها، ونتعقّلها، فإنه لولا تيسير الله له لما أمكن للبشر المخلوق أن يمسّه، ويدرك آفاقه. من هنا أمرنا أن نعطي تلاوته (حق التلاوة). وحق التلاوة أمر عظيم لا يتيسر إلا بتوفيق الله تبارك وتعالى، والتواضع لجنابه، والاطراح على أعتابه.

وقد حذّر القرآن المجيد من كثير من أنواع القراءة التي تكون حجة على القارئ، لا حجة له. ومن أبرز أنواع القراءات التي شدد النكير على أصحابها (القراءة الحمارية) وهي التي جاء التنبيه إليها والتحذير منها في الآية الخامسة من سورة الجمعة: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]، وليس هناك شيء أبلغ في نفي حقيقة القراءة وعدم الاستفادة بها من هذا المثل. فالحمار لا يقرأ ولا يكتب ولا يفكر ولا يتعظ ولا يتذكر. جوهر العلاقة بين الحمار والكتاب أن يوضع الكتاب على ظهره، ويسيّره صاحبه يمنة أو يسرة كما يشاء، بل الحمار لا يدرك ما الذي يحمل، إنما يدرك منه ثقله أو خفته على ظهره. ولذلك فإن هذا النوع من حمل الأمانة - أمانة الكتاب، لم يؤد بهم إلى فقه في الدين، اللهم إلا ذلك (الفقه البقري) إن صح تسمية ما بدا منهم في تعاملهم مع الأمر بذبح >بقرة< فقهاً.

ومن المؤسف أن الأمة المسلمة قد سقطت -رغم النذر كلها- بعد الصدر الأول فيما سقطت فيه أمم من قبل؛ فقد حمّلوا القرآن ثم لم يحملوه إلا بتلك الطريقة >الحمارية<، فلم يحسنوا قراءته، ولم يرتّلوه ترتيلاً كما أمروا، ولم يتلوه حق التلاوة، ولم يدبروا آياته، بل هجروه {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} فأهلكوا أنفسهم. فأصاب فقههم للدين عامّة، وللقرآن خاصة ما أصاب فقه أصحاب البقرة في تنفيذ واجب ذبح البقرة، وتناسوا خصائص شريعتهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحل الطيبات، وتحريم الخبائث، ووضع الإصر والأغلال، والقيود والأثقال التي حفلت بها شرائع من قبلهم، وتجاهلوا المقاصد القرآنية العليا الحاكمة، والمستويات الأخرى من المقاصد ليتشبث بعضهم بشرائع من قبلنا، وتبنّى كثير مما فيها من إصر وأغلال. بل قد حدث منا ما هو أخطر من ذلك حين شابهنا {المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:90،91] فـ>المقتسمون< وإن تعددت أقوال المفسرين فيهم(1) فإننا نرجح أن يكون المراد أولئك الذين جعلوا القرآن مقسّماً، فما وافق ما لديهم قالوا بصحته مع دعوى اقتباسهم منه، وما خالف ما عندهم من تراث قالوا فيه ما يشاؤون (أساطير الأولين أو سحر أو كهانة أو شعر). فقسّموه وقالوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض ليخدعوا البسطاء بموضوعيّتهم أو علميّة مواقفهم المضطربة التي لا دليل عليها. وليسهل عليهم ذلك الاقتسام جعلوه أعضاءً: من >التعضية< بمعنى التفريق والتجزئة، يقال: عضّيتُ الجزور والشاة تعضية إذا جعلتها أعضاءً وقسمتها. ومثل ما نهينا عن حمل القرآن بطريقة (حمارية) نهينا عن مشابهة سائر أولئك الذين عضّوه تعضية، وفرقوه، واتخذوا آياته شواهد لما يذهبون إليه بدلاً من أن ينطلقوا منه كله في كل ما يأخذون ويدعون، ويقرؤونه بوصفه قرآناً واحداً لا يقبل التعضية ولا التفريق ولا التجزئة.

 

إن المسلمين حين قرؤوا القرآن بطريقة التجزئة متشبهين بأولئك المقتسمين بوجه من الوجوه قد فقدوا الكثير من أنوار القرآن وآثار آياته الموحدة التي أحكمت فصار كالكلمة الواحدة - كما قال أبو علي الفارسي. وقراءة التعضية هي التي أورثتنا كثيراً من المقولات الغثة التي لا يتقبلها الإحكام القرآني، لا بل يترفع عنها؛ مثل القول بالنسخ لبعض الآيات والتعارض والاشتباه وما إلى ذلك مما سوف نبحثه تفصيلاً إن شاء الله في دراساتنا في علوم القرآن. من هنا يصبح تناول (الوحدة البنائية للقرآن المجيد) أمراً في غاية الأهمية سوف يساعد القارئ المسلم على حسن القراءة والترتيل ودقة التلاوة ثم استقامة الفهم إن شاء الله. فهي ركن منهاجي، وليست مجرد فضيلة تضاف إلى فضائل الأسلوب القرآني. فإن وجد قراؤنا في ذلك خيراً فنرجو ألَّا نحرم من صالح دعائهم، وإن وجدوا غير ذلك فليبحثوا لنا عن عذر، ونستغفر الله لنا ولهم.

 

 

بيان المراد بها

أما (الوحدة) فهي مقابلة للكثرة والتعدّد أياً كان نوع الكثرة، وأياً كان إطار التعدّد. فكون الشيء واحداً أي: أنه ليس متعدداً، ولا قابلًا للكثرة أو التكرار. وفي (الوحدة) معنى الثناء، فإن قيل: فلان واحد الدنيا، أو وحيد عصره. أريد به ذاك، فكأنه رغم انتمائه إلى البشر وكونه واحداً منهم فإن له من الخصال والمزايا الحسنة ما يجعله كأنه انفصل عن جنسه الذي لا يتمتع بتلك الخصال منه غيره، فصار واحداً. وقد قال الشاعر مادحاً:

فإن تفق الأنام وأنت منهم فإنّ المسك بعض دم الغزال

 

والقرآن المجيد منفصل عن سائر الكتب المنزلة وغير المنزلة متفوق عليها -جميعاً- بخصائصه ومزاياه، ونظمه وبلاغته وفصاحته، وهو في الوقت ذاته واحد في داخله بهذه المزايا والخصائص، ينتظم حروفه وكلماته وآياته وسوره سلك واحد. والقرآن واحد في كونه متفرداً من تلك الحيثية، ومن حيث الأهداف والمقاصد والغايات والآثار حتى ليبدو في ذلك -كله- كما لو كان كلمة واحدة، أو جملة واحدة. لأن الواحد -في الحقيقة- ما لا جزء له البتة؛ فلا يقبل (التعضية) أي: التقسيم إلى أعضاء، ولا يقبل التحويل والتغيير والتبديل فيما يتألف منه.

والواحد لفظ مشترك يستعمل على ستة أوجه:

فيستعمل لما كان واحداً في الجنس أو النوع مثل أن يقال: (الإنسان أفضل من الحيوان). أو فيما هو أهم بحيث يراد به جنس الإنسان وجنس الحيوان، فإذا قلت: زيد وعمرو واحد، أردت بذلك وحدتهما من حيث الانتماء إلى نوع واحد هو (الإنسان).

ويطلق على ما كان واحداً من حيث الخلقة، كأن تقول: (شخص واحد) أو من حيث الصناعة، كأن تقول: (حزمة واحدة).

ويطلق على ما كان واحداً لعدم نظيره، إما في الخلقة، كأن يقال: (الشمس واحدة). وإما في نسبة الفضائل إليه، كأن يقال: (فلان وحيد دهره، ونسيج وحده). ويقال لما كان واحداً لامتناع تجزئه، أو امتناع تعضيته لصغره، أو لصلابته، أو لأنه غير قابل للتجزئة بطبيعة تكوينه.

ويقال لبداية العدد (واحد) وهو ما فوق الصفر ودون الاثنين.

وإذا وصف الله -تبارك وتعالى- به أريد أنه لا يصح عليه التعدّد والتجزؤ والتكثُّر؛ فهو واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله وفي ألوهيَّته وربوبيَّته.

والقرآن واحد في جنسه ونوعه ونظمه وتحديه، وفرادته وإعجازه. لا يقبل التكثُّر ولا التعدّد ولا التعضية ولا التجزؤ. لا يشاركه في خصائصه وصفاته ومنهجه كتاب آخر؛ لا منزل ولا موضوع. وذلك هو مرادنا بـ(وحدته) من هذه الحيثية. أما (وحدته البنائية) فقد أردنا بها أنه بكل سوره وآياته وأجزائه وأحزابه وكلماته يُعَدُّ كأنه جملة واحدة.

وأما وصفنا لهذه (الوحدة) بـ(البنائية) أو إضافة هذه (الوحدة) إلى (البنائية) فقد أردنا به الإشارة إلى ما يدل عليه قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] فالإحكام -هنا- من إحكام البناء بحيث يمتنع أي اختراق لمتانته وقوته، ويدل عليه أو يدل له قوله تعالى: {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج:52] بحيث يمتنع على الشيطان أن يبلغ شيئاً منها، فهي لتطمين البشرية أن هذا القرآن محفوظ ومغلق بإحكام أمام كل محاولات الاختراق. ومنها محاولات الشياطين الذين وَهَمَ الجاهليّون أنهم قادرون على اختراق أي مجال فزعموا أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين على رسول الله K فقال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ...} [الشعراء:121] ويعضد ذلك قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} [آل عمران:4] أي ما لا يمكن أن تعرض فيه شبهة أو يتطرق إليها عارض يتيح لأهل الفتنة والذين في قلوبهم مرض استثمار ذلك على وجه الحقيقة، لأن كل ما قيل أو يقال منهم ضد هذا القرآن إنَّما هو من قبيل الشغب واللغو، وعلى هذا يكون المراد بهذا المركب (الوحدة البنائية) للقرآن: أن القرآن المجيد واحد لا يقبل بناؤه وإحكام آياته التعدّد فيه أو التجزئة في آياته، أو التعضية بحيث يقبل بعضه، ويرفض بعضه الآخر، فهو بمثابة الكلمة الواحدة أو الجملة الواحدة أو الآية الواحدة، وإذا كانت قد تعددت آياته وسوره وأجزاؤه وأحزابه؛ فذلك التعدد ضرورة لا غنى عنها في التعليم والتعلّم، والتنزيل لتغيير الواقع وإبداله. فلم يكن في مقدور الإنسان أن يستوعب قرآنا يتصف بكل صفات القرآن ويأخذه الإنسان أو يتبناه بوصفه ذا وحدة بنائية لا تختلف عن وحدة الكلمة في حروفها(2)، ووحدة الجملة في كلماتها وأركانها، ووحدة الإنسان في أعضائه. ولذلك فهو حين تعرض له بعض آفات الخطاب ترتد عنه خاسئة حسيرة حتى لكأن أياته تنكمش حتى تصبح كالكلمة الواحدة في بنائه. فإذا مارس دوره في الهداية تفتّح واتسع ليستوعب كل ما لا تتحقق أهدافه دون استيعابه، ثم يتجاوزها. وهكذا يستوعب فضاؤه كل الحادثات وسائر المستجدات وجميع الثقافات والحضارات وبنى الإنسان كافة. وليس هناك أي كتاب أو خطاب عربي أو وارد بغير العربية وعلى أي مستوى كان يتمتع بهذه الصفة عدا القرآن الكريم. إذ يستحيل على كتاب حتى لو بني بشكل موسوعة تبلغ عشرات، بل مئات المجلدات أن يستوعب (نبأ من قبلنا)، وما نبأ من قبلنا إلا تاريخ البشرية -كلها- وكل تفاصيل ذلك التاريخ؛ بشراً وأشياء وأحداثاً وعبراً ودروساً.

ولولا هذه >الوحدة البنائية< لما استوعب القرآن (خبر ما بعدنا) حيث استوعب مستقبل البشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ببيان السنن والقوانين التي تقود هذا المستقبل وتصوغه وتبنيه، فهو لا يحقق ذلك عليها بطريق التكهّن والنبوءات والرؤى والمنامات كما زعمت أمم سابقة. ولا بطريق قياس المستقبل على الحاضر وقياسهما بعد ذلك على الماضي كما يتخيل الماضويّون، بل بالكشف عن السنن والقوانين الحاكمة على البشرية وحركتها، والتاريخ وحركته، والغاية التي يتجه الخلق -كله- إليها وفقاً لتلك السنن والقوانين الصارمة. فهي قراءة علمية دقيقة للمستقبل لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يتطرق إليها الشك، فالله لا يهدي القوم الظالمين، ولا يهدي بهم. والظلم لا يختص بالطغاة بحيث يقضي المنطق أن يختص أولئك الطغاة بالعذاب، بل هو شامل عام في الحياة الدنيا، ونتائجه لا تستثني أحداً {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف:59] ولا تختص بمن مارسوا الظلم الفعلي من الطغاة، بل تشمل أعوانهم ومؤيديهم، والمستسلمين لطغيانهم {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال:25]. ولا يختص الظلم بعدم العدل في الحكم، بل يتجاوز ذلك بحيث يكون دركات - أعلاه الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. ولذلك أمر الله الجميع بالتزوّد بالتقوى والتحصن بها، فذلك يمكن أن يوقف الظلم ويردعه. يضاف إلى ذلك أن القرآن يحمل القيم الحاكمة والقواعد الدستورية والقانونية التي تقدم للبشرية مصدراً واحداً موحداً يشتمل على (حكم ما بينكم) بحيث يقضي على جذور وأسباب قيام النزاعات والاختلافات ليصبح >العدل< قاعدة والانحراف عنه شذوذاً. ولا ينتظر إلى أن تقع المظالم والانحرافات ليتقدم لمعاقبة أولئك الظالمين طمعاً في ردع سواهم -كما تفعل الأمم المعاصرة- فليست العبرة بذلك، بل بتزكية وتطهير الإنسان والأسرة والمجتمع والبيئة ونظم الحياة كلها، بحيث يتضافر الجميع على محاصرة الشر ومصادره والتخلص منها.

 

وذلك -كله- يجري بقول (فصل ليس بهزل) وما ينبغي أن يتطرق ذلك إليه. فهو ليس >حمّال أوجه< بحيث يستطيع كل المتنازعين أن يضموه إلى صفوفهم فيفسره المدعي ومحاموه على هواهم ليحققوا بذلك مصالحهم، ويفسره المدّعى عليه ومحاموه كما يريدون، وتحمله النيابة على أن يستجيب لدعواها، ويفسره القضاة بما يرون، ثم تتسلسل جهات التفسير والتأويل من استئناف ونقض وإبرام وفي كل ذلك تبدّد الجهود والأموال والأعمار، ويضيع العدل أو جزؤ منه في تلك المتاهات، وتدمّر الطاقات لعدم وجود (القول الفصل) ولذلك كان هذا القرآن مثابة المتقين، ومرجع الأبرار، ومنبع الهداية ومصدر النور، (لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة) ولا تتشعب به الآراء (ولا تنقضي عجائبه) وهو العدل كله والحق كله والهدى الكامل والنور الشامل والمنهج الواضح.

إنه قرآن أراد قائله ومنزله -تبارك وتعالى- له أن يُقرأ ويُتدبر، ويتفكر فيه، ويعقله العالمون، ويرتّله المرتلون، ويتلوه التالون، ويتبعه المهتدون؛ فأودع الله -تبارك وتعالى- فيه كل ما يجعله جاذباً لأصناف الخلق كافة، مستدعياً لهم لقراءته، قادراً على صنع الدوافع والدواعي والإرادات لترتيله وتلاوته.

ووحدته تمثّل الركن الأساس في هذا -كله- ولذلك فإنه مهما اتخذنا من الأساليب في الرجوع إليه فلن نستطيع أن نهتم بجانب من جوانبه، ونهمل الأخرى. فإذا قلت: أنا قاض أو فقيه تهمني آيات الأحكام -وحدها- فاجمعوا لي كل ما بدئ بأمر أو نهي من الآيات لأتدبره وأستخرج القوانين والأحكام منه، فإنك لن تلبث إلا يسيراً لتدرك أن ذلك -وحده- لن يلبي حاجتك ولن تكشف لك آيات الأحكام عن دقائقها وقد فصلت الغصن عن الشجرة، فمعاني الآيات لن تسفر لك عن وجهها حتى تقرأها في سياقها وموقعها وبيئتها، تقلب طرفك وعقلك ولبك وفؤادك، وتصيخ السمع إلى نبضات الحياة في قلبك في ذلك -كله- ولن تبلغ الغاية، ولن تدرك المراد حتى تلاحظ سائر العلاقات بين الآية وبين القرآن كله - يقودك توفيق الله -تعالى- ويصاحبك اسمه في الرحلة التي حين تتذوقها فلن تستطيع التوقف عن مداومتها، لأن القرآن بناء محكم واحد، ونظام متفرد واحد، تسري فيه

-كله- روح واحدة تحوله إلى كائن حيّ يخاطبك كفاحاً، ويشتبك معك في جدل شامل يجيب به عن تساؤلاتك، ويسقط عنك إصر شبهاتك، يعيد تصميم تصوراتك وبناء قواعد ومنطلقات أفكارك، وتصحيح معتقداتك حتى يضعك على الصراط المستقيم لتستقيم على الطريقة، وتبلغ شاطئ الحقيقة. ولذلك قال الإمام الشافعي -رحمه الله- وهو ينبه إلى خطأ من تصوّر أن آيات الأحكام هي ما صدّر بأمر ونهي- قال: (ألا وإن في الأمثال لأحكاماً كثيرة).

وهذا -كله- من الكلام أو الخطاب الذي لا يصعب فهم أبعاده وعلاقاته بين أطرافه وبيئتهم، وأساليب التخاطب المتعارف عليها بينهم، ولكن حين يتعلق الأمر بالأمور التجريدية كالأفكار والنظريات والمفاهيم التي يراد صياغة خطاب يوصلها إلى الآخرين لتغيير أفكارهم وقناعاتهم، وإعادة صياغة رؤاهم ومعتقداتهم، واستبدال مفاهيم مستقرة لديهم بمفاهيم أخرى، فإن الشأن مختلف تماماً. إذ إن الخطاب هنا يتحول إلى شيء يتوجّه إلى وعي المخاطَب لتغيير شأنه وحاله، فيشتبك خطاب المخاطِب مع وعي المخاطَب في حوار وجدل يشتد ويهدأ بحسب قوة وفاعليّة الخطاب واستقرار وعي المخاطَب وقناعاته وعاداته ومألوفاته السابقة على تلقيه للخطاب التغييريّ. وإذا كانت الآذان -آذان المخاطبين- تشتكي من طرقات ذبذبات الصوت على طبلة الأذن فتصف الصوت بالارتفاع أو الانخفاض، فإذا بلغ حد الاعتدال انتهت المشكلة الحسيّة. فإن معركة الخطاب في جانب المعنى والمغزى والهدف تكون قد بدأت آنذاك لتستمر حتى يصل المعنى الذي اشتمل عليه الخطاب إلى وعي المخاطَب، ويأخذ موقعه فيه لتبدأ مرحلة أخرى داخل وعي المخاطَب يتدافع فيها القبول والرفض، والإيجاب والسلب، والسؤال والجواب. فإذا كان الخطاب قد وضع في حسبانه حالة المخاطَب، وتضمن ما يجيب عن تساؤلاته، ويحسم تردّده، ويتصل بواقعه، ويثير كوامنه، وينبه دوافعه - وجد معناه ومضمونه موقعيهما في وعي المخاطَب، وإلا فإن الخطاب قد يعود إلى منتجه ومرسله ليُعيد النظر فيه، ويستكمل نواقصه، ويعيد إرساله. فهناك يكون الخطاب عبارة عن وسيط يتردّد بين طرفين بكل ما يحيط بهما في حركة دائبة حتى يحسم ما بينهما، وفي ذلك اختبار مستمر ومتدرج لقدرة كل منهما: المخاطِب في قدرته على تضمين خطابه معاني وتأثيراً ومنطقاً مقنعاً يهيئ وجدان المخاطَب ونفسه وسائر قوى وعيه الكامنة لقبول الخطاب وعدم إغلاق الأبواب دونه، ثم ملاحظة أهم الاعتراضات التي ثارت في نفس السامع -سواء صرّح بها أم لم يصرّح- عندما تلقى الخطاب في لحظة اتصاله الأولى به لتضمين الإصدارة الثانية للخطاب الجواب عنها. وأكثر ما تكون الأسئلة حول الحجية لتحقيق القناعة بالمضمون الجديد، والشرعية لتجاوز عقبة شرعيّة الموروث واستقراره، والبدائل التي يقدمها الخطاب الجديد لتجاوز فكرة الخوف من الفراغ أو المجهول أو...، ثم التفوّق في ذلك -كله- على المستقر، فإذا استوفى الخطاب ذلك -كله- فقد استوفى مكوّناته ومقوّماته لخوض معركة يمكن كسبها على مستوى الوعي، وعلى مستوى الواقع. هذا الذي نقوله -كله- يمكن أن ينطبق على خطاب من بشر إلى بشر مثله.

أما حين يكون الخطاب من إله الكون والإنسان والحياة، وخالق العالمين، ومرسل المرسلين فإن الأمر يختلف اختلافاً كبيراً. فالخطاب هنا يصبح شيئاً آخر، ويصبح مجرد اتّفاقه مع أشكال الخطاب البشري وصوره، وصيغه التعبيرية وجهاً من وجوه تعاليه وإعجازه وتجاوزه، ويصير تنزّله وإنزاله إلى البشر، وتنزيله إليهم شأناً ربانياً ووحياً من أمره. فاللفظ آنذاك يصير قدسياً يتعبّد به حتى لو كان حرفاً منفرداً، نحو (ا، ل، م) فإنها تصير ألفاً ولاماً وميماً، يثاب على تلاوة كل منها. والخطاب آنذاك لا يعبّر عن حاجات للمخاطِب عند المخاطَب يريدها منه {أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57،58]. ولذلك قالها أبو الأنبياء إبراهيم بوضوح: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:70-83]

فأنت أيها المخاطَب -هنا- إنما تخاطَب لتعطى وترزق ولتهدى، ولتلبّى احتياجاتك كلها لا في حياتك الدنيا -وحدها- بل على امتداد حياتك كلها. ذلك الامتداد الذي لا تستطيع من دوننا أن تحيط بمجالاته، وكل المطلوب منك في هذا الخطاب -كله- عائد لك ولأمّك الأرض ولمجالاتك الاجتماعية. هو لك في حياتك الممتدة ما بين عالم الأمر، وعالم الإرادة، وعالم المشيئة، وعالم الذر، وعالم الطين - والحمأ المسنون والبشر المستخلَف المؤتمن على الخلق -كله- حتى عالم المآل والمصير والخلود الذي تتطلع إليه بكل أشواقك، والذي كان أهم نقاط ضعف أبيك حين نسي فاستجاب لغواية عدوّي وعدوّه وعدوّك - الشيطان.

هذا الخطاب الذي يطوي كل هذه العوالم ويحيط بها ويهمن عليها وجه من أهم وجوه عظمته وتعاليه وإمكاناته المطلقة أن يتنزّل بأحرف وكلمات وعبارات تشبه في بعض جوانبها ما تتخاطبون به. إنه يتنزّل إليك تنزّلاً من رفيع الدرجات ذي العرش الذي يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لنذر يوم التلاق - تلاقي ابن التراب مع ربّ الأرباب تنزلاً متعالياً يتجاوز حتى سماواتك الدنيا، يتنزّل فقط ليكون في تتناول فهمك ووعيك، يمكّنك من القيام بحق أمانتك، والنجاح في مرحلة ابتلائك، وعلى ثقله الشديد ظل يتنزّل إليك حتى اصطفينا له رسولاً من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم رؤوف رحيم بكم ليتلقّاه في مرحلة تنزّله الأخيرة ويجعله بين أيديكم فينفعل قبلكم حتى يصير مرآة تعكس سائر قيمه، ويمثله في سلوكه وتعامله أمامكم، ويتلوه عليكم فتسمعه آذانكم على محدوديّتها، وتفقهه قلوبكم على ضعفها، وتدركه أبصاركم على كلالها، وتخطّه أيمانكم على سذاجتها. فغركم منه هذا فتوهّم من توهم منكم أنه من جنس خطابكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، فحاولتم الهيمنة عليه بقوانين خطابكم، وقواعد لغتكم، وما تعارفتم عليه في اشتقاقات ألفاظكم وتصاريف كلامكم {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم:89،90] لقد غرّكم منه تنزّله فلم تدركوا حكمتنا في ذلك، وحال ذلك بينكم وبين الاحساس بعظمته وتعاليه وتجاوزه وهيمنته وإحاطته، فشددتموه إلى مناسباتكم، وظننتم أنه لم يتنزّل إلا إليكم، ثم جعلتم منه ناسخاً ومنسوخاً، وعاملاً فاعلاً ومعطّلاً، ومجملاً ومبيّناً، ومطلقاً ومقيّداً، ومتشابهاً ومؤوّلاً، ومتواطئاً ومشتركاً، وخاصّاً وعامّاً، وحقيقة ومجازاً، وأطلقتم ذلك في سوره وآياته دون تحفظ أو تردد، أو توكيد منكم على أن ذلك إنما هو بالنسبة لكم ولقدراتكم وأزمانكم ومحدودياتكم، وأنه لا يمثّل حقيقة القرآن في ذاته بقدر ما يمثّل زوايا النظر منكم إليه.

 

لقد قطعتموه أعضاءً وأجزاءً، ولم تنظروا إليه بوصفه يمثّل نجوماً في سماء واحدة، فهي نجوم بها تهتدون، وليست نجوماً بها تتحكمون.

لقد كانت أكبر الأزمات الإنسانية مع ما أنزل الله من كتاب إلى البشر ليست في رفض تلك الكتب أو عدم الإيمان بأنها من عند الله، فذلك أمر لا تصعب معالجته. ولكنها تكمن في تعامل من أنزلت إليهم معها تعاملاً بشرياً محكوماً بما تعارفوا عليه فيما بينهم من مألوف لسانهم، وأنه ليس شيئاً سوى ذلك، وتجاهلهم للفرق الكبير بين اللغة حين يستعملها الإنسان للتعبير عن مكنوناته، واللغة حين يستعملها خالقه ليضمّنا نوره وهداياته لخلقه.

إن الجمل والعبارات في هذه الحالة لا تكون مجرد جمل وعبارات، بل تصبح آيات كالشمس والقمر وسائر الآيات الإلهية الأخرى. وتطوي هذه الآيات في جوانحها ما تطويه من الهداية والنور والمعاني والإجابات التي تتكشف عبر العصور بتكشف وظهور حاجات الأمم والعصور وأسئلة ومسائل الحياة وأزماتها، فكأن المعاني تتنزّل مع بروز الأزمات والمشاكل والأسئلة. فإذا كانت الجاهلية العربية قد استحالت إلى إسلام خلال ثلاثة وعشرين عاماً، فإن أي عصر تالٍ وأية بيئة أخرى يمكن أن تجعل من أسئلتها أسباب نزول للمعاني الجديدة التي تنطوي الآيات عليها، ولا تبخل بتقديمها لمن يحتاجها. كل ما في الأمر أن الجاهلية العربية كانت نجوم القرآن تنزل عليها لمعالجة أزماتها وتحويلها إلى الإسلام. فالنزول القرآني يأتي بعد أن تقوم الأزمة في البيئة، وتصوغ البيئة السؤال وتنتظر الوحي. أما في العصور التالية لعصر التنزيل -على المتلقى الأول عليه الصلاة والسلام- فإن القرآن كله موجود، وعلى البيئة ذات الأزمة - أية بيئة أن تصوغ أزماتها في شكل أسئلة محدّدة وتتجه إلى القرآن المجيد بها صاغرة مفتقرة وتطّرح بين يديه وتثوّره -كما يقول ابن عباس- مرّة بعد مرّة لتحصل منه على الجواب الشافي. فقد يقودها القرآن إلى الكامن فيه والمضمر، وقد يقودها باتجاه التاريخ تستنطقه، وإلى نماذج الأمم السابقة تسألها عن أخبارها، والأشباه والنظائر لتحلّلها وتستخرج دلالاتها، ويظل آخذاً بزمامها بهدى واستناره في رحاب الكون كله، طاوياً المسافات -كلّها- حتى يمنحها حلولها، وينهي مشاكلها، هو رائد لا يكذب أهله، وقائد لا يخذل جنده، وهاد لا تلتبس عليه السبل.

كيف اكتشف العلماء (الوحدة البنائية)؟

حين ننظر في تصنيف أجيال هذه الأمة فمن الممكن أن نعدّ الجيل الأول الذي عاصر رسول الله K وتتلمذ على يديه (جيل التلقي - المباشر). فرسول الله K كان يتلقى القرآن من لدن حكيم خبير، وعنه K يتلقى الصحابة الكرام، ومنهم كتّاب الوحي وآل البيت وأمهات المؤمنين وسائر المؤمنين.

أما الجيل الثاني فقد كان (جيل الرواية) حيث انتهى عصر النصّ بوفاته K وتوقف الوحي وختمت النبوة، فكانت الروايات تنقل عن الجيل الأول للبناء عليها. واستمرت كذلك ليتسلم الراية (جيل الفقه) من التابعين وأتباع التابعين والأجيال التالية لهم.

وفي هذا الجيل الثالث - جيل الفقه انتشر تصوّر بأن أهم مقاصد القرآن وأغراضه هو بيان الأحكام الشرعية. ومع صحة ذلك من بعض الوجوه لكن الأحكام -وحدها- لا تمثّل إلا واحداً من مقاصد القرآن وأهدافه، ولكن هناك مقاصد وأهدافاً أخرى خفتت عنها الأضواء لأنها سلّطت -بجملتها- على الأحكام. فبرز جانب من الدراسات القرآنيّة عرف بـ(أحكام القرآن) حيث كتب الإمام الشافعي في ذلك، وجمع البيهقي ما كتب في كتاب مطبوع عرف بـ(أحكام القرآن) للشافعي. ونحا نحوه الرازي الجصّاص وابن العربي وابن فورك والقرطبي وغيرهم. وهؤلاء حصروا آيات الأحكام بعدد محدد تراوح بين أربعين ومائتين آية إلى خمسمائة آية تم توزيعها بين العقيدة والشريعة من المعاملات والعبادات والعقوبات وأحكام النكاح والطلاق وما إليها. فذكروا أن آيات الأحكام تقرب من خمسمائة لا تتجاوزها، وبعضهم جعلها أقل من ذلك؛ ففي العبادات بأنواعها ذكروا أربعين ومائة آية، وفي قضايا الأسرة من نكاح وطلاق وإرث ووصية وحجر ذكروا سبعين آية، وفيما يتعلق بالقضايا المدنيّة من بيع وإجارة ورهن وشراكة وتجارة ومداينة ذكروا سبعين آية، وفي الجنايات والعقوبات والحدود ذكروا ثلاثين آية، وفي القضاء والشهادة وما يتعلق بما يسمى -اليوم- بأصول المرافعات حصروا نحواً من عشرين آية(3). وقد اتبعوا طرقاً ومناهج مختلفة في عدّ الآية من آيات الأحكام أو ليست كذلك، ولذلك اختلفت أرقام هذه الآيات قلة وكثرة -عندهم- لكن الجامع المشترك بينهم جميعاً هو النظر في الآيات التي يعدّونها من آيات الآحكام نظراً جزئياً ومباشراً، فهي آية منفردة، وأحياناً جزء من آية قد يقتطع من سياقه ليؤخذ أو يستنبط منه الحكم وفقاً لقواعد ذلك القائم بالتفسير، أو قواعد إمامه إن كان من المقلدين.

ولذلك فإنه من الصعب أن نجد مفهوم (الوحدة البنائية) في الإطار الذي نقدمه دائراً على ألسنة المتقدمين؛ فـ>جيل التلقي< من أصحاب رسول الله K شغل بالتلقي والتطبيق، وهيمن ذلك على مجمل نشاط ذلك الجيل. كما إن إيمانهم بتحدي القرآن المجيد، وظهور استحالة الإتيان بمثله، أو بمثل عشر سور مفتريات، أو بسورة من مثله - كان من المسلمات البَدَهيَّة، فلم تبرز الحاجة في ذلك الجيل إلى النظر العقلي والفلسفي الذي لم يكن قد ولد -بعد- في الساحة الفكرية الإسلامية في قضية >التحدي< وحقيقته وعلام ينعكس، ولم يظهر البحث الفلسفي والبلاغي في الأوجه التي لم تعط للبشر فرصة الاستجابة لذلك التحدي أو أوجدت فيهم العجز عن الاستجابة، فتلك أمور قد تأخر ظهورها والبحث فيها إلى القرن الثالث الهجري.

أما (جيل الرواية) الذي تسلّم الراية من (جيل التلقي) فقد استغرقه البحث عن الروايات وتتبُّعها وجمعها، فذلك هو التحدي الأكبر الذي واجه ذلك الجيل وهو تحدّ لم يكن أقل خطورة من تحدي جمع الأمة -كلها- على مصحف واحد إمام. ذلك لأن القرآن المجيد كان مدوّناً محفوظاً في الصدور والسطور وسائر الوسائل المتاحة التي سخرها منزّل القرآن الذي تكفّل بحفظه من بين يديه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته. كما تكفل بإقرائه لرسول الله وإقراره في صدره فلا ينسى ولا يضيع ولا يخترق. كما تكفّل بجمعه وقرآنه. وليس كذلك المرويات والسنن والآثار التي لم يدون منها في العهد النبوي إلا القليل النادر، وكان تدويناً فردياً لم يخضع لمثل القواعد المنهجية التي خضع تدوين القرآن وجمعه لها، ذلك لأن المفروض فيها أن تدور حول القرآن دوران العلة والمعلول، والبيان والمبين، فيحفظ ما اتصل بالقرآن منها به، ويهيمن القرآن عليها، فلا تستقل عنه، ولا تنفصل عن مداره. ومع ذلك فقد استغرقت العمليات المشار إليها ذلك الجيل >جيل الرواية< بحيث انصرفت جهوده إلى جمع الروايات وتدوينها وتمحيصها وتصنيفها وجعلها ميّسرة لجيل الفقه وجيل النقد والميز والتحليل بعد ذلك.

أما >جيل الفقه< فقد انشغل بإنتاج الفقه، وتقعيد أصوله للاستجابة لمستجدات الحياة المتسارعة، وإعطاء الأحكام المناسبة للنوازل والوقائع لئلا تبقى واقعة من الوقائع دون حكم فقهي مكتسب ومستفاد من الأدلة الشرعية التفصيلية.

كما إن -هناك- من انشغل فيما عرف -آنذاك- بـ(الفقه الأكبر) الشامل لأصول الدين (علم الكلام) و (أصول الفقه) إضافة إلى (الفقه) ذاته.

لأن الفكر الفلسفي والمستجدات بدأت تفرض نفسها وتستدعي البحث والدراسة والتحديد، وجلّ تلك البحوث كانت تستدعي النظر في الدليل الجزئي التفصيلي، لا في القرآن -كله- بوصفه مصدراً منشئاً بكليّته ودليلاً كلياً، وأن أهم طرائق ووسائل النظر فيه تلك التي ترد الجزئي إلى الكلي، وتنظر في الكليّ نظراً مفاهيمياً وتحليلياً لتحقيق الاستفادة القصوى منه. ثم تربط ذلك ببيان السنة وتطبيقاتها، وبالكون وسننه انطلاقاً من منهاجية (الجمع بين القراءتين)(4). ثم تنبه العقل المسلم -بعد ذلك- إلى أنها أساس لا يستغنى عنه في فهم القرآن وحسن تفسيره، ودقة تأويله، ويتاول الجمع بين القراءتين الجمع بين القرآن والسنة من ناحية، ثم بينهما وبين الكون من ناحية أخرى. وأن هذه الوحدة البنائية خطوة منهجية وحلقة من سلسلة من المحدّدات والقواعد المنهاجية التي لو أهملت أو أهمل بعضها فليس من الممكن أن نتلو القرآن حق تلاوته، أو نرتله ترتيله.

وعن (النظر الفقهي) شاع وانتشر النظر الجزئي في آيات الكتاب الكريم. و(النظر الجزئي) لا يمكن أن يؤدي إلى إدراك المناسبات والروابط وشبكات العلاقات بين الكلمات في إطار الآية، ولا بين الآيات في إطار السورة، ولا بين السور في إطار القرآن كله. كما لا يساعد ذلك النوع من النظر على الكشف عن العلاقات بين السور في المحيط القرآني -كله- وبالتالي فقد غاب التفكير في (الوحدة البنائية) أو لم تسلط عليه أضواء كافية يمكن أن تلفت الأنظار إليه بمثل القوة التي تلتفت بها إلى الدليل الجزئي. ويمكن أن يضاف إلى ما تقدم من دوافع (النظر الجزئي) عجلة المفتي ورغبته في الإفتاء فيما يعرض عليه من أسئلة دون تأخير تجعله يسرع إلى الدليل الجزئي، أي الآية التي يراها كافية في تمكينه من الإجابة على السؤال. فإذا فعل فإنه لا يلتفت إلى ما لا علاقة مباشرة له بموضوع السؤال. لذلك فإنه حين جاء لبحث (الدلالات) فإنه لم يضع شيئاً يشير إلى ضرورة النظر في سائر آيات الكتاب الكريم، بل حصر ذلك في أحوال (النص المفرد) فبحث الخاص والعام، والمطلق والمقيد، واللفظ الموضوع لمعنى واحد أو متعدد، والأمر والنهي، وصيغ العموم وصيغ الخصوص، ومقتضى اللفظ والمفهوم، والمشترك والمؤول، والنص والظاهر والمفسر، والدال بالعبارة والدال بالإشارة، والدال باقتضاء النص، وكذلك المفاهيم - مفاهيم الموافقة والمخالفة، والشرط والغاية وكل هذه مباحث تتعلق بالألفاظ المنفردة، أو دلالاتها وسائر العوارض الذاتية المتعلقة بها، وهي لا تنبه إلى ضرورة قراءة القرآن

-كله- ثم جاءت الحدود والتعريفات، ودخل المنطق الأرسطي سائر العلوم والمعارف الإسلامية، بل هيمن عليها إلى أن صار في نظر إمام مثل أبي حامد الغزالي (505هـ.) (معيار العلم) و (القسطاس المستقيم) وبذلك صار من يريد تصور شيء فإنه يكفيه (الحد المنطقي) المؤلف من جنس وفصل. ومن أعياه الوصول إلى ذلك الحد فيكفيه (الرسم) أي أن يعرّف بالفصول أو بالجنس والفصل البعيد أو الخاصة. وقد عدّت الحدود المنطقية مفسّرات للماهيات والأجناس، خصوصاً الأجناس العالية التي عرفت بـ(المقولات). أما من أراد التصديق وإقامة الدليل على صحة مدّعاه فيكفيه (البرهان)، وما البرهان في نظرهم إلا قياس اقتراني، أو قياس تلازم، وحتى (قياس العكس) عند بعضهم كافٍ. والقياس الاقتراني له أشكال أربعة كل منها منتج. ولقياس التلازم شكلان أو أكثر. وبذلك بدأ الأصوليون والفقهاء يتسابقون لتوظيف هذه الحدود والتعاريف والأقيسة لإثبات أو نفي ما يذهبون إليه، أو يذهب إليه أئمتهم من قضايا فقهية. فتكفي أن تبنى مقدمة شرعية واحدة وتضع بجانبها مقدمة أخرى عقلية أو لغوية أو غيرها لتصل إلى نتيجة تكون (نسبة خبرية) تامة - أي حكماً فقهياً ملزماً. فإذا أردت التدليل على تحريم شراب ما -مثلاً- فلك أن تقول: هذا شراب يخامر العقل - فهو خمر. وكل ما يخامر العقل فهو حرام - أي لأنه خمر. فهذا الشراب حرام.

فالعبارة الأولى مقدمة صغرى، والثانية مقدمة كبرى، والثالثة هي النتيجة، وهذه النتيجة (حكم فقهي) يلتزم به المجتهد ومقلدوه.

ولو عكست فقلت: هذا شراب لا يخامر العقل (مقدمة صغرى)، وكل شراب لا يخامر العقل فهو حلال (مقدمه كبرى)، فهذا الشراب حلال (النتيجة).وهنا تدخل عمليات عقلية أخرى كالاستقراء والسبر والتقسيم أو الحذف والإضافة.

 

وحين شاع القول بـ(القياس) وبقية الأدلة المختلف فيها كان الأخذ بهذا المنطق من أهم أسباب الاختلاف الفقهي وتكريسه. فأنت تجد في كل قضية فقهية اجتهادية (وهي تزيد على 90 بالمئة) من القضايا الفقهية مجتهداً مستدلاً وآخر معترضاً، مهمة المعترض أن يهدم أدلة المستدل، وعلى المستدل أن يدافع عن أدلته، فإذا لم يتمكن من هدم اعتراضات المعترض وفقاً للقواعد المنطقية وآداب البحث والمناظرة فعليه أن يبحث عن أدلة أخرى يستدل بها على مدعاه. وهكذا، فأين ومتى يمكن الالتفات إلى (الوحدة البنائية) للقرآن المجيد، والناس مستغرقون في التصورات الجزئية، وهذه التصورات هي التي تتحكم في مناهجهم في قراءة القرآن؟!

فإذا تجاوزنا هذا الفريق من العلماء إلى المفسرين الذين كان شغلهم الشاغل هو تفسير القرآن المجيد، فمع أن معظمهم يقولون بأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وكان من الممكن أن يقود هذا الخيط الرفيع إلى الكشف عن (الوحدة البنائية) لو جرى الإمساك به، وتتبّعه، وتعميق النظر فيه. لكن ما حدث جاوز ذلك، وصار الحديث فيه حديثاً يضاف إلى فضائل القرآن، لا إلى محدّداته المنهاجية.

والتفسير في اللغة مصدر (فسّر) مضعّف (فَسَرَ) من باب نصر وضرب، ومصدره (الفسر) بمعنى الإبانة والكشف لمدلول كلام أو لفظ لكلام آخر - هو أوضح عند السامع. أما في الاصطلاح فقد عرّفوا (التفسير) بأنه اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن، وما يستفاد منها باختصار أو توسع. ولذلك فقد جعلوا موضوع التفسير (ألفاظ القرآن) من حيث البحث عن معانيه، وما يستنبط منه. وذلك -كله- تكريس للتصورات الجزئية لأن الأمر يدور على تفسير ألفاظ القرآن، وذلك يعد من قبيل (دلالة الالتزام) المنطقية العقلية. ولذلك اختلف العلماء في عدّ التفسير علماً، ورأوا أن وضعه بين العلوم خاصة (علوم المقاصد) تساهلاً. ليس هذا مما يهمنا هنا؛ لكن ما نودّ بيانه أنه وإن كان الانشغال بالتفسير قد يؤدي إلى تكوين ملكة لدى المفسر يدرك صاحبها بها أساليب القرآن ودقائق نظمه، لكنه رغم ذلك لم يؤد إلى الكشف عن (الوحدة البنائية) للقرآن المجيد لتحديد موضوعه في تفسير الألفاظ، والبحث عن الأحكام.

علماً بأن التفسير يعد أول العلوم الإسلامية ظهوراً؛ إذ ظهر الخوض فيه في عصر النبي K إذ كان بعض الصحابة يسألون عن بعض معاني القرآن فيجيبهم عليه الصلاة والسلام. واشتهر من قراء الصحاية في تناول التفسير علي بن أبي طالب وابن عباسH وهما من المكثرين من التفسير، يليهم زيد بن ثابت وأبيّ بن كعب وعبدالله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص G. وحين دخل في ا

 

 

12-04-2005 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=167