تمهيد:
قبل اضطراري إلى محاورة بعض الطلبة في قضايا الفكر الاسلامي الحديث خلال تدريس الفلسفة في قسم أصول الدين بالجامعة العالمية الاسلامية بماليزيا كنت أحاول جهدي تجنب مناقشة زعماء المدارس الفكرية الجدد. ذلك أني كنت أرى زادهم من العلوم الأدوات لا يناسب انتفاخ أوداجهم. فليس ما عندهم هو دون ما هو مطلوب من مختص في الميدان بمعايير العصر الحالي فحسب بل هو دون ما كان عليه الحال عند زعماء المدارس الكلامية في عصور فكرنا الوسطى مع قلة التواضع وتقديم المشروعات النهائية لتغيير العالم.
لم أقل شيئا في مضامين فكر المحدثين من متكليمنا لانها عندي أقاويل تتجاهل المعطيات الأساسية لفهم النص القرآني وتقتصر على ردود الفعل استجابة لما يطالب به من يعتبر القرآن من أساطير الاولين مهما تبرقع كلامهم بمحسنات التقية سواء صدقت النية أو تزورت الطوية. لذلك فإن مضامين الكلام الاسلامي الحديث كلها ليست من الحجم ولا من التعقيد بحيث تستحق التعليق إذ يمكن للمرء تعلمها في أقل من نصف سنة لفرط خوائها وبساطة حبكتها وعقدتها إن صح التعبير: فهي تعود كلها إلى محاولة صوغ التشريع الاسلامي بصورة ترضي نزعة النزول عند مطالب التماثل مع قيم المستعمر التي صارت تعتبر بوعي أو بغير وعي قيما مطلقة ينبغي تأويل القرآن في ضوئها.
لكني لا أفهم كيف يمكن لمن يريد أن يخلص التشريع الاسلامي من سلطان الفقهاء أن ينفي حجية الاجماع ويبقى على حجية القياس. فهل سيحررنا سلطان المثقف من سلطان الفقيه وهما من طبيعة واحدة إذا كان جوهر السلطة مستمدا من جمع غير مدرك لشروطه بين المصدر النصي والاداة القياسية ؟ أليس سلطان مؤسسي المدارس الفقهية مستمدا من البديل الذي يبقى عليه صاحب العالمية الثانية قصدت القياس الفردي غير المعدل باجماع العلماء كما هو شأن أي معرفة علمية حيث يكون رأي أهل الاختصاص الضمانة الوحيدة لجدية البحث ؟ هل يبقى بينه وبين رؤساء المدارس الفقهية التي استبدت بالسلطة التشريعية خلاف في ما عدا دعواه أن لغة القرآنية علم رياضي غني عن اجماع العلماء في فهم معانيها فضلا عن اجماع الامة في تطبيقها على نحو من الانحاء دال على فهم اجماعي او جملي لها ؟ أليس ذلك مجرد تأسيس لمدرسة فقهية جديدة عندما يصبح لمذهب صاحبها ذرية فكرية؟
سأقتصر على الكلام في الأدوات المنهجية المستعملة وفي الفرضيات التي ينطلق منها التحليل في محاولات صاحب العالمية الثانية نموذحا مما أعنيه من الوهاء الاداتي والمنهجي في علم الكلام الاسلامي الجديد. وإذ أسمي مسلماتهم فرضيات فإني ادخل على فكر أصحابها بعض التواضع: إنما هي عندهم معتقدات بل هي حقائق لا يتطرق إليها الشك. لأنهم جميعا يقولون بوجود القطعي في المعرفة عامة وفي المعرفة الدينية خاصة. وإذ أسمي أساليبهم أدوات منهجية فإني ادخل على فكرهم بعض الترافع: إنما هي مجرد مغالطات لسحب التصورات التي باتت حقائق مطلقة على المعاني القرآنية بالتحكم التأويلي. وحتى لا يطول الكلام فيتفرع ويتفنن بلا حد سأقتصر على فرضيتين وردتا في نص واحد ( محمد أبو القاسم حاج حمد-رحمه لله-: التدوين بالدونية المرأة والتشريع بالعرف العربي مجلة الوعي المعاصر العدد الثالث عشر خريف 2004 ص.111-156 ) يلخص فيه صاحبه فرضياته واستعمالاتها العينية في اعماله كلها قصدت:
1- فرضية لغة القرآن التي يراها بدقة اللغة العلمية والرياضية وسوء فهم العرب للقرآن لانهم حاولوا استعمال علوم لغتهم وآدابهم في الفنون التفسيرية.
2- وفرضية اعتبار تدوين السنة تحريفا جنيسا لتحريف اليهود للتوراه بالتلمود وارجاع استبداد الفقهاء لمجرد تدوين الحديث.
وحتى لا يتحول الكلام إلى جدل حول خيارات الكاتب العقدية أو الشرعية فلن أناقش اجتهاداته لتخليص التشريع الاسلامي من سلطان الفقهاء وكل ما نتج عنه من تحريف توسيعي أو تضييقي لشرع الله. لما كان الكاتب يقدم دعويين حول لغة القرآن وحول التحريف الناتج عن كتابة السنة فإني سأقصر بحثي عليهما في مستويين:
1- مبدإي أناقش فيه الفرضيتين ( عندي ) أو العقيدتين ( عنده): مسألتان.
2- وتطبيقي أناقش فيه بعض الامثلة التي ضربها لغة وتحريفا: مسألتان.
3- لاختم بمسألة أخيرة تجمع المستويين في مناقشة قضية المرأة التي هي هدف بحثه كله. ومرة أخرى فإني لن أناقش آراءه في قضية المرأة من باب الدفاع عن الموجود فقد كتبت مقالا كنت فيه أكثر منه تحررية. ما سأناقشه هو صحة الاستدلال سلبا لدحض الموجود وإيجابا لاثبات ما يدعيه. فيكون مضمون البحث خمس مسائل:
المسألة الأولى: لغة القرآن الكريم
المسألة الثانية: تدوين الحديث
المسألة الثالثة: التحريف ومدلولاه
المسألة الرابعة: مثال المس واللمس ومثال الضرب والجلد.
المسألة الاخيرة: طبيعة التشريع القرآني والنسخ من خلال منزلة المرأة.
المسألة الأولى: لغة القرآن الكريم
فلنفترض حسن النية وراء الدعوى بأن لغة القرآن علمية رياضية أعني أنها دعوى صادرة عن سذاجة الظن بأن في ذلك رفعا من شأن لغة القرآن الكريم إلى مقام العلم الذي هو عند صاحب مثل هذا الكلام أرفع كلام. ولننظر بتمعن في لوازم ذلك في حالتين ينبغي تصورهما عقلا مقامين لكلام صاحب الدعوى:
المقام الأول يتعلق بالتسليم بصحة هذا التصور حول لغة علمية قرآنية هي غير اللغة العلمية التي يحققها التاريخ العلمي ويستعملها العلم المعلوم: فكيف سيتحقق المؤلف بأن ما فهمه من القرآن هو تلك اللغة العلمية التي يزعم أن القرآن يتكلم بها ؟
المقام الثاني يتعلق بالتسليم بصحة هذا التصورحول لغة علمية هي اللغة العلمية التي يحققها التاريخ العلمي ويستعملها العلم المعلوم: فكيف سيكون تصرف المؤلف عندما يتحاوز العلم الشكل الحالي من الفهم العلم للموضوعات التي وجد فهمها العلمي الرياضي ؟
بعبارة أوضح كيف نحرر اللغة العلمية القرآنية المزعومة من نسبوية اللغة العلمية العادية (المقام الثاني) وكيف يمكن أن ندرك اللغة العلمية المزعومة إذا كانت لغة علمية مطلقة (المقام الاول) من جنس لغة اللوح المحفوظ؟ فيكون صاحبنا أمام خيارين أحلاهما مر: فإما أن يدعي ما هو أكثر من النبوة أعني الولاية الاكبرية لكي يقرأ في لغة اللوح المحفوظ فيدرك الغيب أو أن يقبل بالنسبوية العلمية فيزعم أكثر مما يزعم العلمانيون حول تاريخية القرآن لانهم ما زالوا يتشبثون على الاقل بمطلقات التنوير التي تتعالى على نسبية حقائق العلم.
سنقصر الامر على بيان صحة السبر والتقسيم الذي نعتمد عليه في اعتراضنا على نظرية اللغة العلمية القرآنية قبل محاولة تحديد طبيعة اللغة القرآنية كما استنبطها كبار المنظرين من القرآن نفسه مدخلا ضروريا لكل من يحاول أن يكون علميا على الأقل في دعواه حول علمية اللغة القرآنية. ولتحقيق ذلك يكفي أن نثبت امتناع الحل الثالث الممكن عقلا وتاريخا بمقتضى تطور نظريات المعرفة. فيمكن تصور حلا بين الامرين كما هو شأن نظرية العلم الكلاسيكي الذي كان يعتقد أن حقائقه نهائية. وعلى هذا التصور الكلاسيكي بنيت إيديولوجية التنوير التي لا يزال مثقفونا متشبين بها بحيث إنهم يسيرون في اتجاه معاكس لاتجاه تطور الفكر البشري: المثقف الغربي يريد أن يخلص الحضارة الغربية من أمراض الذاتية والتنوير وهم يريدون أن يزرعوها في حضارتنا.
لكني أربأ بأي مفكر أن يكون غير مطلع على تجاوز الفكر الفلسفي في نظرية العلم هذه العقيدة بعد أن تخلص منها العلم في أكثر مجالاته صلابة. فالرياضيات أصبحت متعددة ونسبية فتجاوزتها إلى مفروضات النسق الرياضي. والطبيعات تبينت محدودية الفيزياء الكلاسيكية فتجاوزتها إلى معادلات الريب التجريبي. وإذا صح ذلك في أكثر مجالات العلم صلابة فكيف به لا يصح في أدناها صلابة قصدت العلوم الانسانية وأقلها علمية أعني الدراسات الدينية التي هي أقرب إلى الدراسات الادبية والتاريخية منها إلى الدراسات الانسانية التي من جنس علم الاجتماع او علم النفس حتى عند اعتمادها عليهما ؟
وإذن فمسألة لغة القرآن الكريم تتفرع إلى قضيتين: قضية البديلين الممكنين في المقامين أولا ثم قضية ما هو مجمع عليه حول لغة القرآن في كل تاريخ الفكر الاسلامي فضلا عن تأييد ذلك الاجماع باجماع كل التقاليد الدينية حول طبيعة لغة نصوصها المقدسة:
1- فرضية علمية اللغة القرآنية بين الاطلاق والنسبية بمقتضى المقامين اللذين يمكن ان يكون بديل صاحب العالمية قد قصدهما بمفهوم العلم: اللدني أو التجريبي.
2- ثم طبيعة اللغة القرآنية كما فهمها علماؤنا الذين استقرأوها من القرآن الكريم بالتدريج خلال توالي الفهوم والتفاسير أعني خلال مراحل التفسير الخمسة المضاعفة وكما تؤيدهم نظريات الهرومينوطيقا التي هي أكثر المناهج ملاءمة مع طبيعة الظاهرة الدينية في بعدها النصي.
فمراحل التفسير الخمسة المضاعفة هي كما بينا في مقال مناهج الفهم والتفسير: 1- التفسير بالأثر ونقده 2- والتفسير بعلوم اللغة ونقده 3- والتفسير بالمضامين الفلسفية ونقدها 4- والتفسير بالمضامين الصوفية ونقدها 5- ثم نقد التفسير بها جميعا وتقديم البديل تفسيرا بأصلها جميعا أي بتحديد طبيعة العلاقة بين النص المقدس وهذه الادوات التفسيرية باصنافها الخمسة. والأول والثاني بفرعيهما معلومان. والثالث بفرعيه هو عين الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين. والرابع بفرعيه هو عين الخلاف بين المتصوفية والفقهاء. وكلاهما معلوم بفرعيه. أما النوع الاخير فهو العصي على التحديد. لكننا يمكن أن نعتبر محاولتي ابن تيمية وابن خلدون ممثلتين له لانهما تبدءان بالسلب وتنتهيان بتقديم البديل إما من منطلق الفهم العقدي للقرآن ( ابن تيمية) أو من منطلق الفهم الشرعي( ابن خلدون). وللمزيد فليعد القارئ إلى المقال المشار اليه.
إن صوغ القضيتين بهذه الصورة يغني عن مناقشة المؤلف في الفرعين. لذلك فسنمر مباشرة إلى أصل القصة كلها أعني تحديد طبيعة لغة القرآن الكريم. لكن ذلك يقتضي أن نشير إلى التعارض البين بين نوع الآيات التي يعتمد عليها المؤلف في هذا المقال ووصفها بأنها ذات صياغة علمية أيا كان المعنى الذي نعطيه للصياغة العلمية. فنسأل المؤلف عن جنس القضايا التي يعالجها هل هو قابل لان تعد تصوراته علمية؟ فآيات الاحكام أوامر ونواه وتعبير عن ارادة وليست نصوصا قابلة لان تعتبر خبرا يوصف بالعلم الصحيح أو غير الصحيح ‘لا من حيث بحثنا في الاستعلام التاريخي عن وقوع نزولها وعن صحة روايتها لنا عن الرسول.
لم يبحث المؤلف في الآيات الخبرية بل في آيات تتعلق بأحكام شرعية. وآيات الاحكام يمكن أن تكون مادة لقول علمي لكنها هي ليست من طبيعة القول العلمي. وقد اعتمد ابن خلدون على هذا التمييز بين نوعي الخطاب ليبين أن الغالب على الشرائع الخطاب الانشائي الذي لا يدرسه العلم من حيث مضمونه- لان مضمونه ليس معرفة موجود أو معدوم بل إرادة موجود أو معدوم- ومن ثم فهو يقتصر على دراسته من حيث حدوثه بوصفه احدى الواقعات التاريخية: أي إن المؤرخ ينظر في حصول أمر أو نهي كحدث تاريخي حصل أو لم يحصل لكن لا يجعل الامر والنهي مادة للتاريخ.
فيكون العالم مؤرخا للحدث اللساني والتشريعي في المؤسسة المدنية وليس لمضمون القانون. فإذا أرخ للحدث القانوني فإنه سيؤرخ لتوالي الأوامر والنواهي في شرع معين وعلاقاتها بعضها بالبعض فلا يكون علمه متعلقا بالاوامر والنواهي من حيث مضمونها القانوني بل بنظام تواليها وترابطها من حيث هي نصوص حدثت في الواقعات التاريخية أيا كانت طبيعة مضمونها. ذلك أن الاوامر والنواهي تعبير عن ارادة المشرع والمشرع عندما يشرع لا يقف موقف العالم بل هو يقف موقف العامل الذي يحدث شيئا غير موجود ولا يكتفي بعلم شيء سابق الوجود على علمه.
هذا بالمعنى الأول للعلم أي العلم الوضعي الذي يبحث في الخبري دون الانشائي. فهل يكون المؤلف يتكلم عن العلم اللدني؟ هنا أيضا يمتنع ذلك سواء اعتبرنا آيات الاحكام من المحكم أو من المتشابه ولا ثالث بينهما. وهي عادة تعتبر من المحكم. ويعني ذلك أنها ينبغي أن تكون مما لا يحصل حوله كبير اختلاف بين علماء الامة وإلا لما امتاز المحكم عن المتشابه. ثم إن جعل الاحكام من المتشابه يفقدها دورها فضلا عن كونه يجعل النهي عن تأويل المتشابه من العبث إذ إن ذلك يلغي التشريع من أساسه في تلك الحالة. لذلك فالعلم اللدني الذي يجعل المحكم متشابها إلى حد التحلل من كل الاجماع الحاصل طيلة اربعة عشر قرنا لا يمكن ان يكون علما بل هو جهل وجهالة. ولكن لنفرض جدلا أنها من المتشابه. ألا يكون العلم اللدني في هذه الحالة نفيا للغيب لأن المتشابه لا يفهم باطلاق إلا إذا اطلقنا العلم فجعلناه محيطا ومن ثم إلا إذا نفينا الغيب باطلاق؟ وهو أمر لم يقل النبي إنه مطلع عليه بل هو محجوب على الجميع لاستفراد الله به كما يتبين من السؤال عن الروح.
لذلك فلا بد أن نحدد طبيعة النص الديني لنعلم جنس القول الذي يتضمنه لنحسم الامر قبل الكلام في أي مسألة أخرى. وذلك لا يتم من غير تنزيله في الظاهرة الدينية. فهو في نفس الوقت أحد ابعادها ومرآة كل أبعادها أو عبارة الوعي بها. والمعلوم أن أبعاد الظاهرة الدينية من حيث هي مادة للمعرفة البشرية علمية كانت هذه المعرفة أو حتى مجرد ادارك عادي تقبل الحصر الدقيق سواء انطلقنا من تحليل المفهوم نحو تعيناته في الوجود الفعلي أو من استقراء التعينات التاريخية نحو المفهوم في الوجود الذهني.
وجمعا بين نوعي التعريف الاستنباطي من المفهوم الذهني والاستقرائي من الوجود العيني فإنه يحق لنا القول: إن الظاهرة الدينية هي تصوريا واستقرائيا- وهذا هو التعريف الغالب على فكر المتكلمين في الدين في تقاليدنا- عقد بالقلب وعمل بالجوارح في مستويي الفرد والجماعة بصرف النظر عن مصدره سماويا كان أو من وضع حكماء مقدسين كما في الاديان الشرقية التي ليس لها أنبياء ورسالات سماوية: ولهذا كان علماء الملل والنحل عندنا يدخلونهم في دراستهم للاديان لما كان العلم متحررا من تحكمات الفقهاء إذ القرآن نفسه يتكلم على الاديان غير السماوية نفس الكلام عن الاديان الاخرى خلال تعريف التجربة الدينية الفطرية.
والعقد في القلب فكر يمكن أن يعبر عنه صاحبه بالأقوال أو بالاعمال أو بهما معا. والعمل بالجوارح يمكن ان يكون جوارح فكر (تأمل وتدبر وتفكر إلخ...) أو نطق (قول بعض العبارات) أو بقية الجوارح العاملة كما في الجوارج المتحركة (الصلاة) أوالخاضعة لعمل الطهارة الكبرى أو الصغرى وما يتبع القلب والجوارح من المكتسبات والممتلكات (مثل الزكاة والجهاد) وما يتصل بذلك كله من المؤسسات (مثل الزواج والحكم). فيكون بعد الدين النظري أو العقد متعينا في الفكر والقول والعمل فرادى أو جماعة. ويكون بعد الدين العملي أو الشرع متعينا في القول والعمل والفكر فرادى أو جماعة. وكل ذلمك غير مقصور على سلوك الفرد منفردا بل هو ضرورة في سلوك الجماعة مجتمعة أو متفرقة.
ومن ثم فالظاهرة الدينية هي: 1-تصورات 2- وأقوال 3- وأفعال 4- ومؤسسات جماعية ذات طابع معلمي مقدس من نوعين: رمزية هي الشعائر ومادية هي المشاعر الجماعية التي تقع فيها تلك المشاعر 5- ويجمع ذلك كله الكتاب من حيث هو نظام تصوراتها وتاريخ مقدس لأحداثها ووعي بالكائنات التي منها بعض البشر كالأنبياء والاولياء والصديقين يؤدون فيه دور الوسيط بين العالمين العالم الذي تخبر عنه التصورات الكتابية سواء كان وجودها متقدما على الوجود الدنيوي أو تاليا عنه وعالم الوجود الدنيوي.
لذلك فإن البعد الكتابي أهم ما في الظاهرة الدينية لانه هو العنصر الجامع في مستوى الادراك المعرفي لكل الابعاد المتقدمة عليه ثم ذاته (مثال ذلك أن القرآن يتكلم على القرآن). فالكتاب هو كل الظاهرة الدينية في مستوى التصور لأنه تصور الدين لذاته أو إن شئنا الوعي الاساسي بالذات لكل دين. إنه في نفس الوقت فينومينولوجيا ذاتيه للدين وهو فينومينولوجيا التجربة الدينية عامة ونظرية تلك الابعاد فضلا عن تضمنه بالضرورة سيرة ذاتية وتحليلية دازاين لله و سيرة وتحليلية دازاين للوسطاء وخاصة للنبي (في الاديان النبوية) ونظرية في الوجود الطبيعي وما بعده وعلمهما ونظرية في الوجود التاريخي وما بعده وعلمهما ونظرية في طبيعة العلاقة بين العوالم نزولا وصعودا وتقدما وتأخرا مع تشريعات تتعلق بكل تلك الابعاد من حيث تصورها والتعبير عنها بالقول أو بالفعل: لذلك فهو دستور عقدي وجودي وشرعي قيمي للامة التي تؤمن به.
ولما كاننت اللغة هي أرقى وسائل التواصل التصوري بين العقول البشرية بات فهم النصوص وتحديد طبيعة لغاتها أو ضروب تعبيرها عما تعبر عنه أهم علوم الدين. ويؤخذ ذلك كله في الاتجاهين كما يعالجه الكتاب من حيث ما يتضمنه من فلسفة نظرية وفلسفة عملية:
فإذا اخدناه من الباطن إلى الظاهر كان عقيدة وفلسفة نظرية.
وإذا أخذناه في الاتجاه المقابل أي من الظاهر الى الباطن كان شريعة وفلسفة عملية.
وفي الحالة الاولى تكون الظاهرة الدينية نابعة من الفكر. وفي الحالة الثانية تكون الظاهرة الدينية واردة إلى الفكر. فإذا أخذنا المسألة في المستوى الفردي كان تقديم العقيدة على الشريعة تقديما للوزع الداخلي على الوزع الخارجي. أما إذا أخذنا المسألة في المستوى الجمعي فإن التقديم يصبح للشريعة على العقيدة أو للوزع الخارجي على الوزع الداخلي. وفي الحقيقة فإن الوزع الداخلي هو الفطرة المبدعة والوزع الخارجي هو التربية المكونة لشروط الابداع عندما لا يكون الوزع الخارجي عنيفا ومتسلطا.
فهل يعقل أن يفهم أحد هذا التعريف الذي قل أن يختلف حوله اثنان ممن درس النظريات الدينية ثم يزعم أن النص الديني يتكلم لغة العلم ؟ أي علم يمكن أن يحوي كل هذه الاجناس من القول في كل هذه الاجناس من الامور والظاهرات ؟ وأي فائدة من كلام العلم بالنسبة إلى نص يعتبر العلم احد عناصر التجربة الدينية دون أن يكون أهمها فضلا عن أن تكون مقصورة عليه؟ وإذا كان النص الديني يتكلم لغة العلم فما الحاجة إلى البحث في مناهج للفهم والتفسير ولغة العلم غنية عن ذلك لانها تواضعية ومن ثم متحررة من اللبس باطلاق ؟ مثل هذا التصور سيغنينا عن التأويل والهرمينوطيقا ويعيدنا إلى سذاجة فكر العصر البائد من الوضعية العلموية. فلنمر إلى فرعي الاشكالية إذ لا فائدة من الخوض في أمور قد لا تكون خطرت على بال المتسرعين في بناء مشروعات التغيير بديلا من الفهم والتأويل بين مفكرين يغلب عليهم طلب الزعامة والنجومية بالتدجيل.
المسألة الثانية:علاقة التحريف بالتدوين
لما كانت جل حجج المؤلف حول التحريف تعود إلى تعليله بتدوين الحديث بات من الواجب أن نبحث العلاقة بين الامرين من منطلق عقلي صرف ليس للعقيدة فيه دخل. ساقتصر على وجه القضايا عند علاجها وكأنها ليست من العقائد بل مجرد موضوعات للبحث العلمي المجرد حتى لا اجادل في طاعة المدونين للرسول أو عصيانهم نهيه عن التدوين من منظور فقهي. فلو كان صاحب هذه الآراء حول العلاقة بين التدوين والتحريف ذا تواضع علمي لنظر في المسألتين التاليتين بعين بصيره:
الاولى هي قابلية القرآن نفسه للتحريف عقلا وحصول التحريف فعلا وإلا لما اضطر الخلفاء الراشدون للحسم بالابقاء على مصحف موحد واعدام ما عداه. فلم لا يكون سعي العلماء إلى تدوين الحديث بوصفه جزءا من السيرة ناتجا عن نفس السبب أي إنهم رأوا ضرورة التدوين بعد ما شرع أصحاب القصص الشعبي في التحريف المقصود وغير المقصود للحديث والسنة بمنطق تزيين الاحداث التخريفي لئلا يتحول الاسلام كله إلى قضية قصص شفوي شعبي فيمتنع التاريخ العلمي للرسالة ؟ لماذا يسيئ الظن بالعلماء فيتصور دوافعهم تحريفية وينسب التحريف إلى التدوين وليس إلى ظاهرة القصص الشعبي الذي لا تخلو منه حضارة والذي جاء التدوين للتقليل من أثره السيء ؟
إني أومن بأن الله حافظ قرآنه. لكن ذلك لا يعني أنه حافظه في الدنيا. كما أن التحريف الدنيوي ليس حائلا دون الحفظ في مستوى أرقى هو عينه الذي جعل القرآن يثبت تحريف الكتب السابقة. فلو كان تحريفها الدنيوي حائلا دون حفظها الالهي لاستحال علينا معرفة ذلك. ثم إن التحريف خصل كما يشير إليه الكاتب نفسه بتوسط طغيان الحديث على القرآن في التشريع. فيكون التحريف في مستوى تحريف المدلول على الأقل ممكنا أي إن تحريف الدال أو النص المادي للقرآن محفوظ لكن معانيه شوهت بهذا التحريف المادي للحديث. ثم أليس مفهوم النسخ الحكمي مع بقاء التلاوة يمكن ان يعد نصف تحريف مادي أي ان الآيات التي هذا شأنها لم يعد لها فائدة شرعية فيكون بقاؤها ذا فائدة أثرية أو معلمية لا غير؟
ولكن ما غاب عن المؤلف هو أن القرآن لو لم يكن نصا متناهيا ومتنا محدود الكم لكان مستحيل التدوين المستغرق مثله مثل الحديث سواء بسواء. فيكون التعليل العلمي للفرق بين سلوك المسلمين مع الحديث وسلوكهم مع القرآن في بداية عهدهم ناتجا عن محدودية القرآن وشبه لا محدودية الحديث. ويكون سلوكهم الموالي ناتجا عن نفس الدوافع بعدما بدأ يعم تحويل السيرة وغزوات الرسول إلى خرافات شعبية: الخوف من تحريف القرآن المادي أدى إلى تدوينه الموحد والخوف من تحريف السنة أدى إلى تدوينها النقدي بعد تعذر التوحيد.
فمن الصعب أن يدون كل ما قال الرسول وكل ما فعل خلال أكثر من عشرين سنة. وهذه علة موضوعية لا دخل فيها للفرق بين النصين من حيث المنزلة الوجودية. والدليل هو أن نوع الحديث القدسي الذي هو محدود قل أن تجد فيه الوضع. لكنه من الصعب أن يبقى العلماء بلا حراك أمام ما بدأ يحل بتاريخ الاسلام وخاصة بمرحلته الأولى من تخريف شعبي قد يجعله من أساطير الاولين. فكان تجاوز نهي الرسول طاعة للرسول بالمعنى العميق للطاعة لأنه فهم لمقصده العميق. فمرحلة الخلط الممكن مع القرآن لم تعد موجودة وخطر تحويل حياة الرسول وتاريخ الاسلام الاول إلى خرافات شعبية أصبح أمرا لا بد من علاجه. فعالجوه ليس بالتدوين الغفل بل بابداع طرق للنقد التاريخي الخارجي والداخلي وإن بدرجات متفاوته. وذلك هو المفهوم الحقيقي للسنة: أي إن الامة ذات قدرة مفتوحة على السن وليست خاضعة لتقليد السنن السابقة. وهذا مبدأ عام في القرآن الكريم الذي كان أكبر نقد يوجهه للامم هو قولها: هذا ما وجدنا عليه أباءنا ونحن لهم تابعون !
الثانية تتعلق باستحالة عدم تدوين الحديث في لحظة ما من لحظات تاريخ الامة حتى وإن كان النهي عنه في البداية ضروريا. فلا يمكن ألا يدون المسلمون سيرة الرسول قولا وعملا لعلتين: فهي تعد أول تفسير عيني للقرآن في الممارسة الفعلية وهي عين التأسيس المقدس لتاريخ المسلمين الديني والسياسي. وكلاهما مهدد بخطر التحول إلى خرافات شعبية إذا لم يدون ما هو ممكن منه ليكون قابلا للنقد ويرفض كل ما عداه. لذلك فلا يمكن ان يكون الرسول قد نهى عن تدوين الحديث بصورة مطلقة بل إن النهي كان مقصورا على لحظة عدم الحاجة إليه أو على لحظة خطر الخلط بالقرآن في أمة ما تزال أمية. فيكون النهي مؤقتا فضلا عن كون الرسول لا يمكن أن يجهل بأن التدوين آت لا محالة ما دام قد دعا أمته لكتابة كل شيء: فكيف لا تكتب أسمى ما عندها من حكم وتكتب أي معاملة مهما ضؤلت كما يوصي القرآن الكريم ؟ ثم أليس القرآن نفسه في أغلب آياته قول في سير الرسل وحيوات الامم وفلسفة تاريخ أم إن كاتبنا يعتبره قصصا بالمعنى الادبي للقص؟
وإذن فالنهي كما فهمه المسلمون ليس هو في الجوهر نهيا عن التدوين بالمعنى المادي للكلمة بل هو نهي عن التقيد بالمعنى الحرفي لنص الحديث لكونه تفسيرا للقرآن ولا يمكن أن يكون بمنزلة نص القرآن: ومعنى ذلك أن الرسول الكريم يعتبر تفسيره للقرآن اجتهادا بشريا لا ينبغي أن يرفعه المسلمون إلى منزلة النص المفسر. ذلك أن تدوين السنة ليس مقصودا بذاته رغم أهميته بل هو علم أداتي ينقسم إلى جزئين:
1- جزء أول هو أداة في محاولات تفسير الاحكام وكيفيات تطبيقها وأخلاق التشريع عامة
واجراءات التقاضي.
2- وجزء ثان في محاولات تفسير الرسول للاخبار وكيفيات تأويلها وأخلاق التعامل مع تاريخ
الرسل والامم.
ويجمع بين الجزئين مفهوم السنة أعني علم اللحظة المؤسسة من حيث هي الأصل المقدس لتاريخ الامة العملي والنظري. ولما كان التاريخ خبرا وكان الرسول لا يجهل أن الخبر يصح فيه التكذيب والتصديق وأن الانتحال والكذب سيكثران فيه فإن قصده من النهي ليس نفي التدوين باطلاق بل حصر وظيفة الأداة التفسيرية ووظيفة النموذج التاريخي في روحهما العامة وليس في اعيان الأقوال والافعال والأحداث. ومن ثم فأبعد الأمور عن قصد الرسول أن يكون نهى عن التدوين بسبب الخوف من التحريف أو من الخلط بالقرآن في كل الاحوال لأن القرآن بعد أن تكون الامة قد انتقلت من الأمية الى الكتابية يصبح واضح المعالم غير قابل للخلط بأي شيء آخر.
وإذن فدافع المسلمين لتدوين الحديث هو جوهر البحث عن الاجماع بمعناه الذي لا يخلو منه علم رغم تحقير المؤلف منه بحجة علم لدني يزعمه غنيا عن اجماع العلماء لان لغة القرآن علمية باطلاق ومن ثم لا حاجة في فهمها للاجتهاد والاصابة والخطأ. لست أدري كيف يمكن لأمة كتابها في جوهره فلسفة نقدية للتاريخ ألا تكتب تاريخ تجربتها الدينية وخاصة أهم مراحلها قصدت مرحلة الممارسة الرسولية التي هي مرحلة التأسيس للدين والدولة معا. وأخيرا كيف ينفي صاحبنا الحاجة إلى تدوين الحديث ويبني الأمر كله في النكير عليه على حديث ما كان ليعلم به لو لم يدون: حديث النهي عن كتابة الحديث؟
أليس من المفروض أن يفهم صاحبنا أن النهي عن كتابة الحديث من جنس النهي عن التشبيه في القرآن الكريم رغم أن كل آياته تشبيهية؟ لماذا غاب عنه أن النهي عن الكتابة يعني النهي عن التقيد بالنص الحرفي للحديث مثلما أن النهي عن التشبيه يعني النهي عن التقيد بالمعنى الحرفي للتشبيه الذي لا تكاد تخلو منه آية قرآنية تتكلم في الذات الالهية وصفاتها ؟ فيكون قصد الرسول النهي عن التقيد بالدلالة الحرفية للحديث من حيث هو تفسير اجتهادي للقرآن وليس قرآنا وهو ما يمكن ان يصدر عن الكتابة بعكس الرواية الشفوية التي لم نسمع أنه نهى عنها: وكان أولى ان ينهى عنها لو كان سبب النهي ما قصده صاحبنا لأن الرواية الشفهية أقرب إلى التحريف من الرواية المدونه خاصة إذا صاحب التدوين كل المحاذير والحروز المنهجية التي استنبطها علماؤنا الافاضل.
عجبي من امرء يعجب من أن تكون عائشة (رض) قد روت عشرة آلاف حديث عن الرسول وهي لم تعش معه إلا تسع سنوات. فلو حاول المرء أن يدون بمعناه لا بلفظه ما سمع ممن يعيش معه اسبوعا واحدا لكان ما يدونه أكثر من هذا القدر خاصة إذا كان كلامه معدودا من جنس كلام الرسول ! فعائشة لم تكن تروي الحديث من أجل الفقه بل كانت ترويه خلال الكلام عن الرسول بعد وفاته. وهل كان للمسلمين من كلام آخر غير الكلام في حياة الرسول الخاصة والعامة الارضية وما بعدها ؟ ثم هل من الضروري ألا تروي عائشة إلا ما عاشته مع الرسول فلا يكون لها سماع من غيرها وهي صبية قبل الزواج به ولا من بعد وفاته ممن عرفوه قبلها فتكون راوية عن سماع وليس بالضرورة عن معايشة ؟
وعجبي من امرء يتصور احمد ابن حنبل قليل الورع لدرجة أن يكون سببا في تحريف شبيه بتحريف اليهود. لو حاول امرء أن يؤسس للتشريع في أي امة تأسيسا مستمدا من أخلاقها الموضوعية فهل كان يلجأ لغير تدوين سير رجالاتها العظام وأقوالهم في المجال؟ ثم هو لو أراد أن يستمد ذلك من التاريخ الموضوعي للامة هل كان يمكن أن يجد مصدرا آخر غير الرواية قبل أن تدون سنن الامة وتقاليدها ؟ وأخيرا إذا كان ذا موقف علمي نزيه يحاول فهم القرآن وموقف قضائي موضوعي يحاول تطبيق أحكامه هل كان يمكن أن يجد طريقتين غير اللتين اختارهما أحمد ابن حنبل؟
فعلميا: كل المناهج العلمية الحالية تعتبر تأويل النصوص مرهونا بالمنظور المستمد من تدوين التقاليد التي تعطينا تعينات فهومها التاريخية: وذلك هو المنظور الموضوعي الوحيد الممكن للعقل الانساني إذا كان متعقلا. لا يتسطيع المرء إلا إذا كان دعيا أن يقفز مباشرة إلى نص القرآن فيدعي أنه يفهمه بتخطي فهوم من عاش مع الرسول وكل اللغويين العرب وكل المحدثين وكل المفسرين المتقدمين عليه فيكون غنيا عن المرور بهم مرورا محتوما ليفهم ما فهموا ثم ليثبت ما غاب عنهم فهمه من منطلق حاضره هو. فمن دون هذا الشرط لا تكون المعرفة علما بل ادعاء لسلطة مطلقة ينسبها الفكر لتصورات العقل القبلية. وذلك هو أصل الشمولية الميتافيزيقية التي تأسست عليها الايدولوجيات التي تزعم تغيير العالم بدل فهمه وتأويله فتنسب إلى النخب المزعومة عقلانية دور رجال الدين والكنسية التي تقود العامة قيادة الراعي للانعام: وذلك هو مصدر كل المغامرات التي قضت على ثروة الامة المادية وهي بصدد القضاء على ثورتها الروحية باسم معركة مؤخرة ميتافيزيقا التنوير بعد اندحارها في موطنها.
فالعودة بالنظر من الحاضر إلى الماضي لتقويمه Hindsight فيها دائما شيء يتعذر عمن يتوقع المستقبل Foresight من الماضي أن يتوقعه: وذلك هو الامر الوحيد الذي يمكن أن يعتبر جديدا في كل المحاولات التأويلية المتوالية أعني إعادة فهم الفهوم الماضية من منطلق حاجات الحاضر من دون الغائها أو زعم الاستغناء عنها أو تخطئتها. لذلك فالموقف الحنبلي هو الموقف العلمي السليم الوحيد في قراءة النصوص وفي الرد على العقلانية الميتافزيقية للفكر الاعتزالي الذي يعتبر التصورات الذهنية بديلا كافيا عن تعيناتها الفعلية في حقيقة الممارسة العلمية والقضائية كما فهمها ابن حنبل. فذلك ليس ضامنا للموضوعية العلمية والقضائية فحسب بل هو شرط حكم الجماعة نفسها بنفسها من خلال الاعتماد على أخلاقها العامة في تقاليدها وليس من خلال فرض تصورات ميتافزيقية قبلية لم يأت الله بها من سلطان.
وقضائيا: كل قاض لا يمكن أن يكون قاضيا نزيها إذ قضى في النوازل بمجرد رأيه ولم يعد إلى النصوص التي تتنزل على تلك النازلة ليكون حكمة مستندا إلى نص موضوعي وليس لمجرد التحكم والرأي الشخصي. وفي هذه الحالة هل كان يمكن لقاض أن يجد مصدرا يستند إليه أكثر من أقوال الرسول وأفعاله ليس بالضرورة كما حصلت فعلا ولكن كما رواها ثقاة الامة بعد غربلة الرواة ؟ ففي القضاء الوضعي هل يمكن لقاض أن يقضي إذا كان جاهلا بسجل القضايا التي قضيت سابقا فضلا عن العلم بالنصوص القانونية وبالنظرية القانونية ليكتفي بما يزعمه الجهلة من أن رأي القاضي وضميره وحدهما كافيان متناسيا أنهما يتعلقان بكيفية استعمال النص وليس بالتحول إلى بديلين منه ؟
المسألة الثالثة: التحريف ومدلولاه
قبل الانتقال من المناقشة المبدأية إلى المناقشة الفرعية ببيان قصور الاستقراء الذي يعتمد عليه المؤلف في تحديد معاني الكلمات التي ظنها تصورات علمية لا حاجة فيها للمفسرين العالمين باللسان العربي اريد أن أمد جسرا بين الامرين فأعرف مفهوم التحريف وأعلله منطلقا من تحديد القرآن الكريم وتعليله. ودون أن أوغل في التحليل والتأويل سأكتفي بالاشارة إلى نوعي التحريف وعلتيه وثمرتيه كما يمكن استقراء ذلك من القرآن الكريم. ويمكن لتحديد هذه العناصر بصورة سريعة يقتضيها المقام الاقتصار على سورة آل عمران وبالاشارة دون العبارة تسليما مني بأن القراء يعرفونها كما يعرفون أولادهم. فإن لم يكن جلهم من دارسي القرآن فكونهم مسلمين يجعلهم على الاقل من قرائه. لكن التوسع للنظر في غيرها من السور يمكن أن يزيد الامر وضوحا. وسنترك ذلك للقاريء المجد.
فأما النوع الأول من التحريف فهو ما يمكن ان نطلق عليه اسم التحريف المادي للنص بالزيادة أو بالنقصان. فآل عمران تتحدث صراحة عن التحريف المادي بالزيادة (آل عمران 78). أما التحريف بالنقصان فيمكن تعريفة بمثال حذف النصوص المبشرة بالرسالة المحمدية. وهذا كاف بخصوص التحريف المادي لأنه ليس إلا العلامة الفاضحة للداء الحقيقي.
فالنوع الثاني من التحريف هو يمكن ان نطلق عليه اسم التحريف المعنوي. إنه التأويل المنهي عنه في الآية السابعة من آل عمران. وهو كذلك قسمان: فهو قابل لأن يكون بالزيادة أو بالنقصان مثل التحريف المادي كما سنرى. وكلا القسمين مضاعف بالجوهر بخلاف قسمي التحريف المادي اللذين يتضاعفان بالعرض تبعا لقسميه. ومن ثم فالتحريف المعنوي هو العلة الحقيقية للتحريف المادي. لذلك فتعليله تعليل للتحريف المادي لتبعيته له كما تبين سورة آل عمران.
فالتحريف المعنوي أو التأويل يمكن أن يكون متعلقا: 1- بالعقائد أي بالآيات الخبرية 2- أو بالشرائع أي بالايات الانشائية. ففي الشرائع يمكن للتأويل من حيث هو تحريف أن يوسع تنزيل أحكام الله فيحلل ما هو حرام ويمكن أن يضيقها فيحرم ما هو حلال: فيكون في الحالتين عدوانا على حدود الله بالزيادة أو بالنقصان. أما في العقائد فالتحريف المعنوي يمكن أن يتعلق بالمنزلة الوجودية للامر المخبر عنه في آيات القرآن الخبرية أو بمنزلتها القيمية فيها: وذلك يكون بالزيادة أو بالنقصان (فما يزاد للانسان ينقص لله وجوديا أو قيما). وذروة هذا التحريف المعنوي هو الموضوع الرئيس لآل عمران وهو كذلك موضوع الحوار مع نصارى نجران والمباهلة: لتعلقه بالتحريفين الوجودي المطلق (حقيقة الله والانسان: تأليه عيسى) والتحريف القيمي المطلق ( لمن التشريع لله أو للانسان: تشريع رجال الدين بدل النص الديني). ويتضاعف التحريف المادي بالتبعية أي إن المحرف المعنوي بعد أن يحدد نوع المعنى الذي يريد ايجاده في النص أو اعدامه منه يحقق ذلك ماديا في متن النص زيادة أو نقصانا ماديين.
فما هي العلل الآن؟ الجواب حددته سورة آل عمران: القيمون على الدين يبيعون الباقي بالفاني فيحرفون الدين من أجل المصلحة المادية بالتحالف مع رجال الدولة الحاكمين أو المعارضين جاعلين الدين إيديولوجيا تحقق لهم مصالحهم ومصالح من تحالفوا معه (آل عمران 77). وهذا هو الطاغوت ببعديه الروحي (سلطة رجال الدين) والزماني (سلطة رجال الدولة). ويمكن التعبير عنه بلغة رمزية فنسميه التحالف بين هامان وفرعون لأن الاول يمثل الطاغوت الروحي والثاني الطاغوت الزماني. وقد قرنت الاية 256 من البقرة الكفر بالطاغوت بالايمان بالله واعتبرت ذلك ثمرة لتبين الرشد من الغي ودليلا على الاستمساك بالعروة الوثقى أي بالدين الذي يحرر ولا يستعبد (آل عمران 80).
والآن فما هو التحريف الوجودي وكيف رفضه القرآن الكريم ؟ آية واحدة من آل عمران تكفي: " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله بل كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون" ( آل عمران 79).
وما هو التحريف القيمي وكيف رفضه القرآن الكريم ؟ آية واحدة من آل عمران تكفي:" أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها وإليه يرجعون" (آل عمران 83).
تأليه الانسان واستبدال شرع الله بالشرع الوضعي ذلكما هما التحريفان اللذان يمثلان الطاغوت: فالأول يجعل القوي يستعبد الضعيف والثاني يجعل الهوى شرع البشرية. ومن ثم فالدين لم يعد دين الله بل يصبح ايديولوجيا في خدمة الطاغوت سواء كان في الامة الواحدة أو في المعمورة كلها كما نرى حولنا. فكيف يمكن لأحد أن يزعم أن علماءنا كانوا يسعون بتدوين الحديث إلى تحريف القرآن وهم إنما فعلوا ذلك للحيولة دون تركه للخيال الشعبي يحرف ليس أحكام القرآن فحسب بل وكذلك كل الحقائق وخاصة هذين التحريفين اللذين كان الاسلام اصلاحا دينيا شاملا بمقتضى كونه أراد تحرير البشرية من سببيهما ليحول دون ثمرتيهما.
فما هما الثمرتان؟ أو بصورة أدق ما هي الثمار الخمس لان التحريف الوجودي يؤثر في التحريف القيمي ثم ينعكس الامر فينتج ذلك ثمرتين أخريين ثم تتحد الثمرات في داهية الدواهي فيكون المجموع خمس ثمرات ؟
1- ثمرة التحريف الوجودي: اطلاق نظرية شعب الله المختار. لم يعد اليهود شعبا مختارا اصطفاه الله بالنبوة والرسالة فحسب بل أصبحوا أبناء الله من دون الخلق. لذلك فلا مانع من أن يكون كل من ليس يهوديا عبدا لليهود. وهذا المعنى هو عينه ما فهمه مؤسس حركة الاصلاح: لوثر.
2- ثمرة التحريف القيمي: اطلاق الهوى مصدرا للتشريع. فما يريده القوى هو الشرع ويسمي ذلك حقوق طبيعية وعلى الآخرين ان يخضعوا له. فكل ما حصل في الامريكيتين وما يحصل في حركات الاستعمار علل بالرسالة التحضيرية أو بفرض القيم في مدلولها الغربي.
3- ثمرة أثر 1 في 2: الإنسانية والدين ليسا أمرا فطريا بل هما أمر مكتسب بالانتساب إلى المسيح من خلال الخضوع لشرائع ممثله الشرعي الوحيد الكنيسة. لست انسانا إلا إذا صرت مسيحيا. فيصبح تمسيح العالم رسالة تحويل العالمين لعبيد بني اسرائيل.
4- ثمرة أثر 2 في 1: كل ما يجري في التاريخ الخاضع للهوى هو إرادة الرب كما تعينت في الابن وتلك هي فلسفة التاريخ المسيحية كما صاغها هيجل. فتصبح نهاية التاريخ تحقيق النموذج الهيجلي للرأسمالية الفتاكة التي تتنكر بزي الديموقراطية المخادعة.
5- والحصيلة هي العولمة الغربية: التاريخ يتوقف عند تغريب العالم كله بمعنى تمسيحه تمسيحا صهيونيا.
فمن يا ترى يتصدى اليوم لهذه الثمرات؟ أليسوا هم بالاساس هؤلاء الذين يتهمهم مؤلفنا بالتحريف أعني أهل السنة والجماعة أو الحديثيين؟ فهل نرى غيرهم يسعى إلى تحرير البشرية من التحريف الوجودي والتحريف القيمي وثمراتهما المرة الخمس؟ أليست النزعة التي تدعي فصل القرآن عن الحديث تبحث عن كل الذرائع لتمسيح الاسلام وللقبول بهذين التحريفين وبثمراتهما. ليس فك الاسر والتيسير الاسلامي بالقياس إلى التشريع اليهودي من حيث هو مبدأ عام قابل لأن يتحول إلى تشريع الهوى المستند إلى التحكم بمجرد مدح في شكل ذم للقرآن الكريم: فوصف لغة القرآن بأنها لغة علمية صارمة ليس مدحا بل هو عين الذم لو كان صاحبنا يعلم.
المسألة الرابعة: مناقشة بعض الامثلة
يوجد مبدأ عام في المنطق التقليدي والحديث لا أتصور أحدا يجهله. فليس أسهل من تكذيب القضايا الكلية إذا كانت تتكلم في ما يقبل الاستقراء من الظاهرات. فإذا كانت القضية كلية موجبة فمثال عيني واحد سالب يدحضها. وإذا كانت القضية كلية سالبة فمثال عيني واحد موجب يدحضها. ومعنى ذلك أن كل قضية من القضايا التي قدمها صاحب البحث يكفي لدحضها آية واحدة يكون فيها معنى الكلمة التي ضربها المؤلف مثالا مخالفا للمعنى الذي اعتبره معنى علميا صارما سلبا إن كان قوله موجبا وإيجابا ان كان قوله سالبا.
وليكن مثالنا الأول الفرق بين المس واللمس ومثالنا الثاني الفرق بين الضرب والجلد. ولنبدأ بالقول إن وجود كلمتين في الحالتين يعني ضرورة أنهما يؤديان معاني مختلفة في غالب الحالات. لكن الترادف بينهما ممكن في بعض الحالات كذلك. وذلك هو شأن كل الكلمات ذات المعاني المتقاربة. ولا يحدد المعنى المقصود بالدقة التامة إلا السياق الداخلي أو الخارجي أو كلا السياقين. والحكم النهائي في المسألة عملا بنظرية ابن تيمية اللسانية هو الاستعمال. وهذا شأن كل اللغات عامة وكل النصوص خاصة وليس خاصا بالعربية عامة أو بلغة القرآن خاصة.
المثال الأول:
هل صحيح أن المس معنوي واللمس مادي؟ لسوء حظ المؤلف فالقضية طرحت في حالة يكون فيها الاستقراء التام ممكنا ويسيرا. فلو تكلم عن الكلمتين في الآداب العربية كلها لكان الخطأ في كلامه قابلا للتفسير بعسر الاستقراء أو بنقصانه. لكن الآيات التي وردت فيها الكلمتان معدودة وقابلة للمراجعة. فكيف يجرؤ على الجزم ولا يتهيب من التكذيب اليسير في مثل هذه الحالات؟ فهل رأيتم أتعس من حظ مفسر تكذب أقواله أيتان متواليتان من نفس السورة كحال مؤلفنا؟ فليقرأ أي منكم الآيتين المتواليتين 3 و4 من المجادلة ولينظر هل يبقى عنده شك أن معنى المس فيهما هو الجماع ومن ثم فالمس يمكن أن يكون ذا دلالة مادية؟ أم هل إن الكفارة مشروطة في التماس الروحي بين الزوجين في حالة الظهار ؟ أم لعل المشاركة في الفعلين تغير المعنى فيصبح المس لمسا بدل أن يكون مسين روحيين !
المثال الثاني:
هل صجيج أن الضرب مجرد شدة لا تفيد العمل المؤلم الذي نسميه ضربا ومن أنواعه الجلد واللطم والصفع إلخ... لا شك أن الضرب له عدة معان وأن مدلوله غير الجلد لأن الجلد أحد أنواع الضرب بمعناه المتعلق بايلام المضروب باليد أو بأي أداة اخرى تستعملها اليد كالعصى (ضرب موسى الحجر والبحر) أو السيف (ضرب الرقاب). فضرب الرقاب ليس مجرد الشدة على العدو بامساكه من رقبته مثلا بل معناه قطع رقبته بالسيف. والآيات الثلاث التالية كافية لدحض فكرة مؤلفنا من الاساس: فواحدة تشير إلى اداة الضرب (الصافات 93) والاخرى إلى الحيز المضروب من الجسد (محمد27) والثالثة تشير إليهما معا لكونها تتعلق بالقتال في الحرب (الأنفال 12).
والمعلوم أن الفرق بين الجلد والضرب هو في العموم والخصوص أولا وهو ثانيا في أمر آخر أهم. فالجلد ينبغي أن يمس الجلد لانه يعني ضرب الجلد الذي يمثل حامل الالم الأساسي في الجسد الحي عامة والحسد الانساني خاصة حتى إن الخلود في النار يرمز إليه بتبديل الجلد في حين أن الضرب لا يقتضي المس المباشر للجلد. وهذا يعني أن الجلد في الاسلام ينبغي أن يكون على الاطراف أو على ما لا يعد عورة حتى يكشف الجلد للجلد. كما يعني أنه أداة للتربية بالإيلام الجسدي جزاء ذنوب سببها اللذة الجسدية (عقاب الالم جزاء اللذة الحرام) وليس للاهانة (الصفع واللطم وضرب الادبار) أو للقتل (ضرب الرقاب) كما في حال الضرب.
وبعد فما الداعي إلى كل المحاولات التأويلية التي لا يحكمها إلا التحكم من غير أدنى شروط التفسير والتأويل؟ هل لمجرد تبرير أخذ التشريعات الوضعية واضفاء الطابع الشرعي عليها ؟ ما الداعي إلى ذلك وكان يكفي أن يأخذوا التشريع الوضعي بكل شجاعة ويريحونا من هذا الهذيان تسليما منهم بأن التشريع السماوي ليس سماويا بحق بل هو تشريع وضعي متنكر ؟ هل لهذا التزوير تعليل آخر غير الجبن من الاعلان عن الموقف الحقيقي أعني موقف كل القائلين بأن الامام الباطني يحق له أن يلغي التشريعات التي جعلت لمن لا يعلم الباطن من العامة ؟ أم هل إن قوله بعلم الباطن علما رياضيا هو جعله يستغني عن المفسرين والمحدثين والفقهاء الذين يعتبرهم قد فرضوا التقاليد العربية على معاني القرآن؟
المسألة الاخيرة: مسألة التشريع القرآني
إذا كان التعليل في حالات الفصول السابقة عند افتراض حسن النية هو تجاهل شروط القول العلمي في مجال تأويل الظاهرات التاريخية وفي تفسير النصوص الدينية وفي طبيعة اللغة التي تستعملها النصوص الدينية فإن التعليل في هذه الحالة مضاعف:
فهو إما تبعية لا واعية عند أغلب المثقفين الذين يزعمون تطوير الاسلام بمنظور علماني متنكر تنتج محاولة لاستخراج تبريرات لاضفاء الشرعية على التقليد التشريعي. وفي هذه الحالية فإن الامر يتعلق بتبرير محاكاة منزلة المرأة التي يحددها التشريع الوضعي الغربي بتأويلات لنصوص من القرآن الكريم واعتبار كل ما يخالف هذا التشريع من تقاليد العرب وليس من التشريع الالهي رغم أن في ذلك شيئا من الصحة لا نزاع فيه. فما من تشريع يخلو من ذلك وإلا لكان تشريعا اجنبيا: كل الامم تفهم نصوصها في أفق تراثها وتقاليدها دائما.
أو سوء فهم لأساسيات التشريع والقانون سواء كان وضعيا أو منزلا. وسنكتفي للدلالة على ذلك بمسألتين: 1- سوء فهم لشروط قابلية القانون للتطبيق في علاقتها بروح القانون الشارطة للانطباق وطبيعة الفرق بين الالزام القانوني والالتزام الخلقي 2- وسوء فهم لطبيعة النسخ في الاحكام عامة وفي القرآن خاصة.
لن أناقش التعليل الأول فقد كتبت فيه الكثير. وفي مسألة المرأة بالذات التي تمثل مدار مقال المؤلف سبق أن كتبت بحثا مطولا حول منزلة المرأة بين الفلسفة والدين صدر في كتاب الندوة التي نظمتها دار الفكر بدمش سنة2003 محاولا النظر في المسألة بصورة تحرر ارادة المسلمين ليكون تشريعهم نابعا من قيمهم الذاتية. سأكتفي بالتذكير بأن كل أمة صار تشريعها محكوما بقيم غيرها ليست أمة حرة لانها فقدت أول ثمرات الحرية وعلاماتها: التشريع الذاتي هو علامة استقلال الارادة المشرعة وثمرتها. فإذا أصبحت الامة تستمد تشريعها من قيم غيرها وتكتفي بتبريره