/
مفهوم السننية بين الدلالة القرآنية و التوظيف الحداثي
محمد عادل شريح
تنوء الدراسات الإسلامية الحديثة تحت وطأة مجموعة من المقاربات التاريخية والفكرية التي تقيّد هذه الدراسات و تحرمها من القدرة على الإبداع ، فتربط منهج البحث الفكري بالمناهج الغربية، و تربط صيرورة الفعل الحضاري الإسلامي بالأفق الحداثي الغربي. و يعود هذا النهج في بداياته إلى ما صار يعرف باسم "عصر النهضة" هذه التسمية التي تحمل بذاتها دلالات كبيرة على المنهجية في التعاطي الحضاري العام ، المنهجية التي تهدف إلى تحقيق محاكاة تاريخية حضارية مستحيلة. و من جهة أخرى ففي هذه الفترة بالذات تم إنتاج أبرز نماذج هذه المقاربات الفكرية حيث نرى مثلاً تحول السننية إلى السببية و المصلحة أو المقاصد إلى المنفعة، و الشورى إلى الديمقراطية البرلمانية، و الإجماع إلى الرأي العام و هكذا. من بين هذه المقاربات جميعاً تمثل تحولات مفهوم السننية في الفكر الإسلامي الحديث واحدة من أخطر المفاهيم، ذلك أن مفهوم السننية هو أولاً و قبل كل شيء مفهوم قرآني مما يعطيه هالة من القداسة التي تمنحه قدراً من المقبولية المسبقة لدى المسلمين، أما ثانياً فإن مفهوم السننية يرتبط بالمستوى العقائدي من مكونات المنظومة الإسلامية العامة، و من المعلوم أن العقائد كما هي الشرائع و الأحكام لها في الإسلام أصول و ضوابط، و بالتالي فإن أي تعديل أو تغيير لمحتوى و دلالة مفهوم السننية القرآني هو اختراق للمنظومة العقدية الإسلامية تحت ظلال المصطلح القرآني، أما ثالثاً فلأن مفهوم السننية يرتبط بواحدة من أكثر القضايا التي دار حولها الجدل في علم الكلام و أصول الدين، و هي الشكل الذي تبدت فيه الإرادة الإلهية في الطبيعة و الحياة الإنسانية و قد تمحور الجدل في هذا الموضوع حول مفاهيم عدة كالعلة و السبب و الجبر و الاختيار و التأثير الذاتي و ا لكسب و غيرها. حتى بداية "عصر النهضة" كانت هذه المفاهيم جميعها واضحة في سياقها الأصلي على الرغم من استمرار حالة الجدل حولها، لكن الذي حدث مع بداية "عصر النهضة" أن مفهوم السننية القرآني صار يطرح كأنه مقابل لمفهوم السبب الكلامي ومن ثم ليصار إلى تقديمه على أنه العلية السببية الطبيعية، مما خرج بالمصطلح القرآني عن سياقاته و أدى لتحميله عدداً من المعاني الجديدة المستحدثة. و على الرغم من دقة الفروق بين المصطلحين و تداخلهما النسبي ، إلا أن المزج بينهما و عدم التفريق يمكن أن يقود إلى العديد من المغالطات العقدية الهامة و الخطيرة.
الفرق الدلالي بين السنن و الآيات في النص القرآني
لا شك في أن مفهوم السننية هو مفهوم قرآني، فقد ورد في القرآن الكريم بصيغة " سنة" في ثماني سور، ثلاثة عشرة مرة، كقولة تعالى (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)(1) (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)(2) (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً)(3) كذلك وردت بصيغة "سنتنا" مرة واحدة في سورة الإسراء بقوله تعالى: (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً)(4) و كذلك وردت في صيغة سنن مرتين في سورة آل عمران بقوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(5) و كذلك في سورة النساء (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(6) (النساء:26) من الواضح أن القرآن لا يتحدث عن سنن كونية لها علاقة بخلق الكون و الإنسان أو بالقوانين الطبيعية، بل هو يستخدم مفردة السنة و السنن في حديثة عن الأمم و الشعوب و مصائرها تبعاً لاقترابها أو ابتعادها عن تعاليم دينها و أنبيائها.أما ما يسميه البعض سنن الآفاق و سنن الأنفس فهو يرد في القرآن تحت لفظة آية، بل إن الآية القرآنية التي يستدلون بها واضحة حيث تقول: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(7) . إن اختلاف الألفاظ هذا ليس اختلافاً شكلياً بل هو اختلاف له دلالاته و معانيه. إن ما يسمي بالآيات في كتاب الله، يشير إلى قوانين كونية ثابتة لها علاقة بالوجود المادي الدال بذاته و دقة إحكامه و ثبات حركته على مبدأه الإلهي : ( وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)(8) و من هذه الآيات أيضاً ما يشير إلى خلق الإنسان ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين ) " (9) إن أهم سمه لهذه الآيات أنها تمثل قانوناً ثابتاً يمثل قوانين الحياة الأساسية التي وجدت لخدمة الإنسان (وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) (10) (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )(11) هذه الآيات التي تمثل قوانين ثابته يشير القرآن إلى سبل معرفتها (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )(129 فالسمع و البصر و العقل هو السبيل إلى معرفة قوانين الكون الطبيعية، و العلوم المحصلة نتيجة لذلك هي علوم كسبية. إن هذه الآيات الكونية الثابتة و إن كانت تخضع لقانون السبب و المسبَبَ، و بغض النظر عن الجدل الكلامي الذي دار بين الشاعرة و خصومهم حول وجود المسبَبَ بالسبب أو عند حصول السبب ، فإن الفرق الجوهري بين السبب كمفهوم كلامي و كجزء من العقيدة الإسلامية و بين السبب كمفهوم طبيعي هو أن الأسباب و المسبَبَات هي من خلق الله عز و جل و ليست قانوناً طبيعياً محضاً. و بالتالي لا يمكن أن نخلط بين المفهومين و نزيل الفوارق بينهما تحت مسمى العلم و التفكير العلمي كما حصل في الفترات المتأخرة.
دلالة السنن في القرآن الكريم.
أما بالنسبة لمفهوم السنن، فكتاب الله يقتصر في إطلاق هذه التسمية، كما أشرنا، على الشأن الإنساني و يظهر بجلاء أن هذه السنن لها قانونية مختلفة و منطق مغاير للآيات الكونية، فهي و إن كانت تتسم أيضاً بالثبات،( و لن تجد لسنة الله تبديلاً) لكنها تخضع لمقتضيات الحكمة التي تحدد الزمان و المكان و التفاصيل التي سوف تتبدى بها هذه القانونية، فليس الكفر بالله و الخروج على شريعته موجب بشكل مباشر للعقاب الإلهي، و إن كان من حيث المبدأ موجب لذلك، لهذا فإن السنن الإلهية التي يتحدث عنها القرآن هي أبعد ما تكون عن السبب و النتيجة كقانون لا يقبل الانفكاك، و لا هو بالمبدأ الذي يخضع للمنطق الإنساني في فهم الأمور ، إن السنن الإلهية ترتبط بالإرادة الإلهية التي تدبر الكون على مقتضى الحكمة الإلهية، و هناك الكثير من الأمثلة التي تستوقفنا في القرآن الكريم، يقول الله تعالى في سورة الأنعام (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)(13) و من الإشارات القرآنية ذات الدلالة و التي تتحدث عن ظاهرة طبيعية معهودة و معروفة من حيث أسبابها الطبيعية ( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)(14) و كذلك ما ورد في سورة هود: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)(15) وكذلك : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً)(16) من الواضح أنه ليس هناك أي علاقة سببية طبيعية بين الاستغفار و نزول المطر، و لا بين الاستغفار و الإمداد بالأموال و البنين، كذلك فإنه ليس هناك تفسير منطقي أو تاريخي لأن يفتح الله أبواب كل شيء على الذين نسوا ما ذكروا به عهوداً من الزمان حتى يفرحوا به ثم ليأتيهم العذاب بغتة فإذا هم مبلسون، في حين أن المنطقي في القياس الإنساني هو أن يتنزل عليهم العذاب مباشرة. إن كل هذه الأمثلة لا تخضع لقانون طبيعي أو تاريخي أنما هي تمثيل للسنن الإلهية التي تخضع لمبدأ الحكمة في التدبير. و أن كتاب الله الحكيم مليء بمثل هذه الأمثلة التي تتحدث عن سنن إلهية كسنن النصر و الهزيمة و سنن صعود و هبوط الأمم و غيرها و هي أمثلة جديرة بالدراسة و الإتباع، لكن دراستها لا تعنى ردها إلى معادلها الإنساني سواء كان ذلك المعادل قانوناً طبيعياً أو تاريخياً وضعياً. إن دراستها تعنى ردها إلى معادلها الإيماني و أن ندرك المغزى العقائدى و البعد القيمي و السلوكي في هذه الحوادث التي تجعل الوقائع التاريخية تسير إما لصالح الجماعة الإنسانية و إما عكساً لهذه المصلحة و ذلك تبعاً لتحقق مبدأي الوجود الإنساني و غاية الخلق في كل حادثة مفردة و هما مبدأ العبودية و مبدأ الاستخلاف. إن الفعل الإنساني في الرؤية السننية لا يكتسب قيمته من مجرد إتباعه للقانون ، بل هو يكتسب قيمته مما يحمله من قيم و دلالات إيمانية . القضية الأخرى هي أن طرق معرفة هذه السنن هي كتاب الله و سنة رسوله و الاعتبار بتجارب الشعوب و الأمم في موقفها من هذه السنن كما قصها علينا كتاب الله، و ليست إعمال العقل، كما هو شأن الآيات الكونية، أو لنقل أن الأولوية في معرفة هذه السنن هو تلقيها عن الشارع نفسه، على الرغم من عدم نفي أمكانية معرفتها بالعقل، كما هو الشأن في معرفة الله عز و جل، فهو ممكن عقلاُ لكن معرفته عن طريق الأنبياء و الرسالات أولى و أضمن و أقرب للصواب. و بالتالي فإن سعينا لفهم هذه السنن و تأطيرها وضبطها يجب أن ينصب أولاً على دراسة كتاب الله و ما يقدمه لنا من عبر في سير و أحوال الشعوب و الأمم. إن السننية كمفهوم قرآني تقول إن حياة الأمم و سعادتها في الدارين ترتبط بمستوى تقيد هذه الشعوب بقوانين الحياة الأكثر عمقاً و أصالة و أهمية في حياة بني البشر المرتبطة بمفاهيم الاستخلاف و التسخير و العبودية ، إن السننية كما يقول عماد الدين خليل في كتابه " التفسير الإسلامي للتاريخ" هي " إثارة الفكر البشري و دفعة إلى التساؤل الدائم و البحث الدائب عن الحق، و تقديم خلاصات التجارب البشرية عبراً يسير على هديها أولو الألباب.. و إزاحة لستار الغفلة و النسيان في نفس الإنسان، و صقل ذاكرته و قدرته على المقاومة لكي تظل في مقدمة قواه الفعالة.. تقديم الدليل على علم الله الواسع الذي أحاط بحركة التاريخ ماضياً و حاضراً و مستقبلاً.. ثم تأكيد البرهان على الحق الواحد الذي جاء به الأنبياء السابقون جميعاً و سعوا إلى أن يقودوا أممهم إلى مصدره الواحد الذي لا إله إلا هو.. و الوقوف على السنن و النواميس الثابتة و القائمة على أن الجزاء من جنس العمل، و ضرورة تحرك الجماعة ( المدركة الملتزمة) متجاوزة مواقع الخطأ التي قادت الجماعات البشرية السابقة إلى الدمار .. من أجل بناء عالم لا تدمره تجارب الخطأ و الصواب"(179
السنن بين العقيدة و الفلسفة و الكلام
ترتبط سنن الحياة الإنسانية في القرآن الكريم بالغرض الأصلي لوجود هذه الحياة، فالباري سبحانه و تعالي لم يخلق الخلق لينصر بهم حق لم يكن ممكناً إحقاقه بدونهم، و لم يخلقهم ليمنعوا باطلاً لم يكن ممكناً منعه بدونهم، إنما الحق و الباطل في الحياة الإنسانية هما ظرفان اختباريان يتحدد تبعاً لهما مكانة الإنسان الفرد في سلم الوجود، و دور الجماعات و الأمم في التاريخ، و حقيقة هذا الاختبار ذاته لا تضيف شيئاً إلى علم الله، فعلم الله بهذا الإنسان سابق لوجوده في الحياة، إن الغرض من هذا الاختبار هو إقامة الحجة على الإنسان. فغاية و جود الإنسان و حياته على الأرض مرتبط بحقيقتين أساسيتين هما العبودية (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ )(18) و الاستخلاف (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(19) و هاتان الحقيقتان مترابطتان متكاملتان، فالخلافة الحقيقية لا تتحقق إلا بالعبودية لله، و العبودية لا تتحقق إلا بخلافة الإنسان، أي بتحقيق الإرادة الإلهية في الحياة عبر الفعل الإنساني الحر و المختار. بالتالي و لكي ندرك حقيقة هذه السنن لا بد لنا من فهمها في سياقها الحقيقي و ذلك من خلال ربطها بالمنظومة العقدية الإسلامية و من خلال رؤيتها في علاقتها بتحقيق هدف الحياة البشرية و غايتها. لقد خاض علم الكلام الإسلامي و الفلاسفة المسلمين من بعدهم سجالاً طويلا حول حقيقة الحوادث الطبيعية منها و الإنسانية و علاقة السبب فيها بالمسبَبَ، و الرأي السائد عند أهل السنة و الجماعة هو ما قرره الأشاعرة(20) من أن كل ما يحدث من الممكنات مستند إلى الله سبحانه و تعالى ابتداءً و بدون واسطة، و بالتالي لا علاقة ضرورية بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة،و لا تلازم بين الأسباب و مسبَبَاتها إلا أن الله يخلق بعضها عقب بعض مع الإقرار بإمكانية التخلف.(21) و قد خالف المعتزلة هذا و أقروا أن الأسباب تؤثر على الحقيقة بقوة أودعها الله بها، و أن الإنسان فاعل مُحدث مُخترع و منشئ على الحقيقة لا المجاز، و أن الفعل الصادر عنه يكون بالمباشرة كما يكون بالتوالد، و معنى التولد عندهم أن يوجب فعل لفاعله فعل آخر، كحركة اليد و المفتاح، فإن حركة اليد أوجبت لفاعلها حركة المفتاح، فكلتاهما صادرتان عنه، الأولى بالمباشرة و الثانية بالتولد. إن هذا القول للمعتزلة يوجب التسليم بتلازم الأسباب و مسبَبَاتها و ذلك خلافاً للأشاعرة. أما فلاسفة المسلمين فقد أكدوا كذلك على التلازم الضروري بين الأسباب و مسبَبَاتها و أسموها بالعلل و قد ذهب أكثرهم مذهب أرسطو في تقسيم العلل إلى أربعة أنواع، فالكندي في رسالته " في الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون و الفساد" يشير إلى أن العلل الطبيعية إما أن تكون عنصرية و إما صورية و إما فاعلة و إما تماميه "غائية" و كذلك نجد القول بالعلل الأربعة ( المادية و الصورية و الفاعلة و الغائية) عند ابن سينا و ابن رشد. إن مدار الخلاف الذكور، على الرغم من تشعبه الكبير، ينحصر في قضية واحدة هي شكل الفعل الإلهي في الموجودات مع إقرار كل الأطراف من حيث المبدأ بهذا الفعل كأصل لكل موجود و معدوم، ففي حين يذهب جمهور أهل السنة و الجماعة إلى إقرار الفعل الإلهي كحالة من المباشرة الدائمة التي يسميها البعض " الإمداد " يذهب الطرف الآخر إلى إقرار التدرج و الوسائط المختلفة بين الإرادة الإلهية و حوادث الحياة المختلفة. السؤال الذي تثيره عقيدة جمهور أهل السنة كونهم نسبوا التأثير مباشرة إلى الباري عز جل هو السؤال عن حقيقة السنن و حقيقة فعلها و تأثيرها،و كيف يمكن لنا أن نجد فيها العبرة ؟ و الجواب على ذلك أن السنن، والتي هي، كما ذكرنا سابقاً، تشير إلى قانونية الفعل الإلهي في التاريخ و الأمم لا إلى قوانين الطبيعة و لا المجتمع، و بالتالي فإن الاعتبار بهذه السنن أو عدم الاعتبار بها هو فعل إنساني يصدر عن إنسان عاقل و حر و مختار و ليس حركة فيزيائية طبيعية تخضع لمبدأ التسخير، و هو كباقي الأفعال الإنسانية يكتسب وزنه و قيمته من خلال دلالاته الإيمانية، و هو يوافق و يحقق السنن بما يحمله من دلالات إيمانية، فالصلاة كفعل و حركات مجردة لا تكتسب صفة العبادة إلا إذا حملت هذه الدلالة في نفس المصلي، و بالتالي فإن إصابة هذه السنن و تحقيقها مرتبط بالدلالة العقائدية و البعد القيمي الإيماني الذي يضعه الفرد أو الجماعة في نمط السلوك المتبع، و خلافاً للقانون الطبيعي فإن المعول عليه ليس هو القانون الجامد الميت، أو الأثر الذي يتركه الفعل في المحيط الخارجي، أنما هو الدلالات الإيمانية لسلوك الأفراد و الجماعات، فالتغيير السنني و التأثير يحدث أولاً في الأنفس ثم يتحقق في المحيط الخارجي، و هذا ما تشير إلية الآية القرآنية: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )(22) و لذلك فإن دراسة السنن تعني أن ندرك المغزى العقائدى و البعد القيمي و السلوكي في هذه الحوادث الإنسانية التي تجعل الوقائع التاريخية تسير إما لصالح الجماعة الإنسانية و إما عكساً لهذه المصلحة و ذلك تبعاً لتحقق مبدأي الوجود الإنساني و غاية الخلق في كل حادثة مفردة و هما مبدأ العبودية و مبدأ الاستخلاف.
أما مقارنة بالسببية الطبيعية فإن السننية كمفهوم قرآني لا يمكن أن تفيد معنى السببية لعدة أسباب، أولاً لأن هذه السببية لا تلحظ إلا الفعل ذاته دون أن تلحظ الفاعل و دلالات الفعل، فقانون السبب و النتيجة هو قانون ثابت لا يتغير في كل الأحوال و يمكن للبر و الفاجر أن يسير علية فيحصّل ذات النتائج. و ثانياً لأن السببية الطبيعية كواقعة فردية تأكد على التلازم الحتمي في كل الحالات بين السبب و النتيجة و لا تقبل أبدأً مبدأ التخلف الذي تقره العقيدة الإسلامية و الذي يجعل كل ما هو متعلق بالوحي و المعجزات النبوية و مجموعة كبيرة من العقائد الإسلامية الغيبية ممكنة ، و قد رأينا كيف أن الخلط بين السببية كمفهوم فلسفي حديث و السننية كمفهوم قرآني قد قاد أصحابه إلى الإنكار و التأويل الذي يخرج بالوقائع عن سياقاتها في تفسير محمد عبده للطير الأبابيل. من ناحية أخرى فأن العلية الطبيعية أو السببية كمفهوم حديث تؤدي إلى إيجاد مشكلة فلسفية على مستوى الفهم التاريخي للواقعة التاريخية المفردة و على مستوى التاريخ بشكل عام، ذلك أن السببية الطبيعية أو التاريخية الوضعية لا تفترض أي مغزى أو دلالة غائية أو حكمية للواقعة التاريخية و كذلك تجرد التاريخ عن افتراض غايات لحركته و بالتالي تقود حتماً إلى فقدان المعنى من الحياة الإنسانية، و هذا حقيقةً ما أنتجته الحضارة الغربية نتيجة تكريسها للنظرة الوضعية في الدراسات التاريخية. تبعاً لذلك نقول أن السننية التي يتحدث عنها القرآن لا يمكن رؤيتها إلا في سياق الفهم العقائدي الذي لا يسقط الصلة بين المشيئة الإلهية و الواقعة على مستوى التحقق سواء بالنسبة للواقعة التاريخية المفردة أو التاريخ الإنساني العام. إن العليّة الطبيعية أو التاريخية العمياء لا يمكن لها أن تنسج مجموعة من الأسباب و المقدمات لتصنع انتصار بدر، كما أن جهد الإنسان وحدة و أخذه بالأسباب دون إدراك الإرادة الإلهية أو مخالفتها كاد أن يؤدي بالمسلمين إلى الهزيمة يوم حنين (إذ أعجبتكم كثرتكم)(23) . و بالتالي فإن السننية كمفهوم قرآني لا يمكن إدراكها إلا من منظور قيمي يدرك الحقائق الإيمانية المتمثلة في الفعل الإنساني، هذه الحقائق التي تجعل من مجموع الوقائع حدثاً تاريخياً ذو معنى و وجهة محددة.
السننية في الفكر النهضوي.
إن أول من قدم مفهوم السنن والسننية كمفهوم مركزي هو محمد عبده،حيث أن منظومته الفكرية و التي عرفت بالإصلاحية تقوم على مجموعة من المرتكزات و المبادئ التي يأتي على رأسها مفهوم السننية، و قد سعى محمد عبده إلى تكريس هذا المفهوم كمبدأ في فهم الظواهر الكونية و الطبيعية كما في فهم التاريخ ، يقول محمد عبده في رسالة التوحيد التي هي رسالة في العقيدة " كشف الإسلام عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من حوادث الكون الكبير ( العالم ) و الكون الصغير ( الإنسان ) فقرر أن آيات الله الكبرى في صنع العالم إنما يجرى أمرها على السنن الإلهية التي قدرها الله في علمه الأزلي لا يغيرها شيء من الطوارئ الجزئية"(24) أما فيما يتعلق بسنن الله في حياة الأمم و الشعوب، فهو يقرر أن الاعتبار بسنة الله فيمن مضى من الأمم و الشعوب، أصل من أصول الدين أقره الله عز و جل في كتابه في آيات كثيرة منها قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران:137) (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً) (الإسراء:77) (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) (فاطر:44) ثم يعلق عبده على هذه الآيات بقوله" في هذا يصرح الكتاب أن لله في الأمم و الأكوان سنناً لا تتبدل، و السنن- الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون و على حسبها تكون الآثار، و هي التي تسمى شرائع أو نواميس، و يعبر عنها قوم بالقوانين. مالنا و لاختلاف العبارات؟ الذي ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية و ما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير و لا يتبدل، و على من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يرد إليها أعماله و يبني عليها سيرته و ما يأخذ به نفسه. فإن غفل عن ذلك غافل فلا ينتظرن إلا الشقاء، و إن ارتفع إلى الصالحين نسبه، أو اتصل بالمقربين سببه. فمهما بحث الناظر و فكر، و كشف و قرر، و أتى لنا بأحكام تلك السنن، فهو يجري مع طبيعة الدين، و طبيعة الدين لا تتجافى عنه، و لا تنفر منه، فلم لا يعظم تسامحها معه؟"(25) ، لا بد لنا هنا من أن نشير إلى أن السنن و الشرائع و النواميس أو ما يعبر عنه قوم بالقوانين، ليست شيئاً واحداً، و أن الخلاف هنا أكبر من كونه اختلاف عبارات لا شأن له،إنما هو اختلاف في المضمون و الدلالة . و يبدو غريباً هنا هذا الخلط البيّن بين المعاني في نص يعالج قضايا التراث الكلامي الإسلامي الذي يمتاز بدقه معانية و وضوح بيانه. و مع عبده تبدأ مصطلحات من نو ع السبب و النتيجة و القوانين و الشرائع و النواميس تتداخل بشكل جلي مع مفهوم السننية و تضفي عليه أبعاداً جديدة.
إن إقرار السننية كمبدأ في حياة الأمم هو إقرار لمبدأ قرآني، لكن تأويل هذا المبدأ و توظيفاته المختلفة هي التي خرجت به، عند محمد عبده، عن معناه القرآني ، فلو استقرأنا كنه هذه السننية في ما كتبه محمد عبده لوجدناه لا يعدوا كونه تطبيقاً لمعنى السببية العلمية الحديثة التي تختلف، بدون أدني شك عن مفهوم السببية كما تقره العقيدة الإسلامية و بالتالي يختلف حتماً عن معنى السننية القرآني، و دليل ذلك موقفه من المعجزات النبوية و إنكارها، و تفسيره للطير الأبابيل بجرثومة الطاعون و التوسل بنظرية التطور و الارتقاء لتفسير خلق الإنسان. إن الكلام عن السننية هو الذي أسس لنزعة "العلموية" و نعني بها محاولة التوفيق بين مقولات الدين و معطيات العلم الحديث حتى و لو كانت هذه المعطيات افتراضية. أما على المستوى التاريخي فإن السننية في مدرسة محمد عبده تتحول إلى معادل لمبدأ التقدم الذي هو قانون الوجود و الحركة التاريخية الذي لا يمكن تجاوزه.(26)
السننية في كتابات مالك بن نبي و جودت سعيد
إذا كان مفهوم السننية يبدوا عند محمد عبده معادلاً لمفهوم السببية الوضعي في الطبيعة، و مبدأ التقدمية في التاريخ، و يهدف في المحصلة النهائية إلى جسر الهوة بين الحضارة الغربية و الإسلامية، فإن مفهوم السننية عند مالك بن نبي يأخذ منحى آخر لكنة يقود إلى ذات النتيجة، فالسننية عند مالك بن نبي تشير إلى سنن الحضارة و البناء الحضاري، التي سنتوقف عند أحدها و هو الدورة الحضارية أو التداول الحضاري الذي يجد بن نبي مصداقه في قوله تعالي ( و تلك الأيام نداولها بين الناس)(27) يرى بن نبي أن الحضارة تنتقل و تهاجر من منطقة إلى أخرى تبعاً لقانون الدورة الحضارية الذي لا يفيد عند مالك بن نبي سوى مفهوم الانتقال على صعيد الحركة الخارجية، و مفهوم النمو عبر مراحل على مستوى الحركة الداخلية، و لكي تنتقل الحضارة، التي هي في طور الأفول في الغرب إلى الشرق الإسلامي الذي هو في طور النهوض، يجب على الشرق أن يحسن الأخذ عن الغرب و أن يترك قشور الحضارة الغربية ليأخذ أصولها الحقيقية، و بذلك يحرق المسافات الزمنية و يلحق بركب الحضارة، إن هذه الدعوة تعني في جوهرها إلحاقاً حضارياً بالغرب، و مصداق ذلك هو المثال الذي يقدمه بن نبي للاحتذاء به، ألا و هو النموذج الياباني.(28) إن مالك بن نبي يتحدث عن " التأمل في سنن التاريخ التي لا تغير لها " المستمدة من " النص المبدئي للتاريخ التكويني ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما في أنفسهم) "(29) ليخلص من هذا الحديث إلى فكرة القانونية الثابتة الحاكمة لحركة التاريخ و المجتمع، لكنه يقدم بعد ذلك تصوره الخاص لهذه القانونية لا التصور القرآني، وسواء أصاب مالك بن نبي في هذا التصور أو أخطأ، فهذا شأن منفصل لا علاقة له من قريب أو بعيد بمفهوم السننية القرآني. على هذا المنحى سار جودت سعيد في تطوير مبدأ السننية عندما أصدر في الستينيات سلسة كتب تحت عنوان سُنن التغيير في النفس والمجتمع، كان منها: حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومفهوم التغيير ورياح التغيير وغيرها من الكتب. لكنه لم يخرج عن النهج العام الذي يهدف في المحصلة النهائية إلى جسر الهوة بين عالم الإسلام و الحضارة الغربية. إن مفهوم السننية عند جودت سعيد يتسع إلى أقصى مدى ممكن، فهو يمتد ليشمل القانون الناظم للحركة الكونية و كذلك قانون الحركة الاجتماعية و التاريخية، فعلم الفلك هو " سنن الآفاق" و علم الاجتماع " سنن تغير المجتمع" و كذلك علم النفس الحديث والوضعي فهو " سنن تغيير ما بالأنفس"(30) ، بل إنه يرى في قوانين الماركسية إثبات للسنن مع إقراره بأن تفسير الماركسيين لهذه السنن كان جزئياً. من الواضح أن مفهوم السنن يعادل عند جودت سعيد مفهوم القانون الطبيعي و الاجتماعي ، لكن هذا لا يتفق بأي حال من الأحوال مع سياق النص القرآني ، و هذا الفهم هو الذي يؤدي به إلى مجموعة من المغالطات من نوع الحديث عن السنن في صفات المادة " فصفة الذرة و صفة مركباتها، هذه الصفات و السنن من خلق الله" (31) و كذلك حديثه عن كون السنن عامة " لأن السنة لا تكون إلا سنة إلا إذا كانت عامة "(32) و كذلك حتمية هذه السنن – كما هو حال القوانين- و استشهاده بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم لإثبات هذه الحتمية" لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة"(33) مع أن سياق الحديث يشير إلى معنى التحذير و التنيه و وجه الحتمية في كلام النبي عليه الصلاة و السلام( في الحديث المذكور و في حديث القصعة و تداعي الأكلة إليها) أن الله قد أطلعه على مستقبل أمته فأخبر بما علم، و ليس مؤداه ما خلص إليه جودت سعيد من " أن الرسول كان يرى المستقبل من خلال السنن .. و أن ليس هناك نظر اجتماعي تاريخي سنني، مثل نظر الرسول صلى الله عليه و سلم إلى المشكلة الاجتماعية"(34) إننا نؤكد مرة ثانية أن مفهوم السننية هو مفهوم قرآني يستمد معناه و دلالاته من النص القرآني و طريقته في إدراج و استخدام هذا المصطلح في السياقات المختلفة و النماذج و الأمثلة التاريخية التي يقدمها، أنه يختلف عن معنى القانون الطبيعي الذي يحكم حركة الوجود المادي في الكون و الإنسان و الذي يسمى في النص القرآني بالآيات، و هو يختلف عن معنى القانون التاريخي و الاجتماعي بالمعنى الذي يتحدث عنه ابن خلدون و الذي يتوسل به كل من مالك بن نبي و جودت سعيد لتحويل مفهوم السننية إلى قانون اجتماعي تاريخي ثابت و دائم التأثير في كل الأزمنة و العصور بذات الطريقة و في ذات الوجهة، إذ أن ابن خلدون لم يذكر مفهوم السننية و لا مرة في مقدمته و لم يتحدث عنه، إنما كان يتحدث عن قوانين الدولة و الملك و الحضارة، لكن جودت سعيد يعيد تفسير النصوص من مقدمة ابن خلدون ليحشر فيها حشراً كلمة "سنن" و هو ينطلق في حديثة عن ابن خلدون بقوله" إنه كشف السنة كشيء حتمي لا كسنة يمكن السيطرة عليها" (35) ثم يورد نصاً لابن خلدون لكنه يرى أن من الواجب تصحيح العبارة للمؤلف و تقويمها فيقول" فهذا الذي يسميه ابن خلدون باطن التاريخ، هو الذي سميناه الخاص بالأقوام في تغير ما بالأنفس مما أقدرهم الله عليه"(36) و في موضع آخر يقول " و لابن خلدون العذر في أن تكون عباراته غير دقيقة، حيث جعل مرد ذلك إلى العوائد المترسخة، التي يمكن أن تمثل ما نطلق عليه نتائج ما بالأنفس" (37) ما نود تأكيده هنا هو أننا لا ننكر أن حياة البشر و حياة الكون بأكمله تستند إلى قانون و هذا القانون له صفات الثبات و الشمولية و غيرها ( مع إقرارنا بالتخلف ، كما يقرر علم العقيدة الإسلامي ) لكن مفهوم السننية هو مفهوم قرآني له مدلولاته الخاصة المستمدة من النص القرآني في حديثه عن علاقة الخالق عز و جل بخلقه، إننا نرى أن السننية بالمعنى القرآني لا يتحقق معناها إلا إذا فهمناها في سياق العلاقة الإيمانية التي تربط المجتمع و أفراده بالخالق، إنها ليست قانوناً أرضياً عاماً، بقدر ما هي تمثيل لخصوصية تدخل السماء في الشأن الإنساني على مقتضى الحكمة الإلهية في التدبير. و إن تأكيد النص القرآني على طابع الحتمية و الثبات الذي يصبغ السنن ( و لن تجد لسنة الله تبديلا) هو تأكيد على حتمية هذا التدخل مهما طال الزمن و تباعدت المسافات دون أن يكون هذا التدخل مشروطاً بظروف زمنية أو مكانية أرضية لتجعل منه قانوناً طبيعياً أو تاريخياً. و حتى لو افترضنا أن مفهوم السننية يشمل في معناه الواسع القانون التاريخي، أو حتى الطبيعي، لأن هذه القوانين في المحصلة لا تخرج عن إطار التدبير الإلهي للكون ، لكن ذلك لا يمكن أن يقودنا إلى قصر هذا المفهوم على معنى القانون السببي لأن دلالاته في مصدره الأول الذي هو كتاب الله أوسع من مجرد كونه قانوناً تاريخياً، إنه يشير إلى التدبير الإلهي للحياة على مقتضى الحكمة الإلهية، و لا يمكن للحكمة أن تكون قانوناً حتى لو توافقت مع القانون. إن مفهوم السننية في القرآن لا يربطنا مع القانون ذاته بقدر ما يربطنا مع مبدع القانون ، و لا يقصر اهتمامنا على الفعل ذاته ، بل على الدلالات الإيمانية لهذا الفعل . و هذا فرق قد يبدو ظاهرياً لكنه في غاية الأهمية، وهو المعول عليه في إصابة السنن الإلهية.
الإحالات: 1) الأحزاب/62 2) الحجر/ 13 3) الكهف/ 55 4) الإسراء/77 5) آل عمران/ 137 6) النساء/26 7) فصلت/53 8) يس/ 37،38،39 9) الحج/ 12،13،14 10) يس/ 33 11) البقرة/ 164 12) النحل/78 13) الأنعام/44 14) الجن/ 16 15) هود/ 52 16) نوح/ 10-11-12 17) عماد الدن خليل، التفسير الإسلامي للتاريخ( دار العلم للملايين، بيروت، 1975) ص 106-107 18) الذاريات/ 56 19) البقرة/30 20) مذهب في العقيدة عند ينسب إلى إبي الحسن الأشعري ، إمام أهل السنة و الجماعة، و قد طور المذهب و سار على هدية مجموعة من كبار علماء المسلمين في الكلام و أصول الدين أمثال الفخر الرازي و الباقلاني و الآمدي و الإيجي و الشهرستاني و الغزالي و غيرهم. 21) يشير مبدأ التخلف إلى إمكانية عدم حصول المسبَب مع و جود السبب، كعدم الاحتراق مع وجوده في النار. 22) الرعد/11 23) التوبة/25 24) محمد عبده، رسالة التوحيد( دار إحياء العلوم، بيروت، 1992) ص 141 25) محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، تحقيق طاهر الطناجي، ( القاهرة، كتاب الهلال، 1960) ص 103 26) انظر: ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة( بيروت، دار النهار، ط4: 1986) ص 202. 27) انظر: مالك بن نبي، و جهة العالم الإسلامي( دار الفكر، دمشق، 1981) ص21 28) انظر : مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص 57 و ما يليها , و ص 157 29) انظر : مالك بن نبي، شروط النهضة ( دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر ، دمشق ، 2000) ص 54. 30) انظر: جودت سعيد، حتى يغيروا ما بأنفسهم (دار الفكر المعاصر، بيروت،1993)ص 110 31) جودت سعيد، مرجع سابق ص 87 32) جودت سعيد، مرجع سابق ص 55 33) جودت سعيد، مرجع سابق ص 53 34) جودت سعيد، مرجع سابق ص 149 35) جودت سعيد، مرجع سابق ص 73 36) جودت سعيد، مرجع سابق ص 76 37) جودت سعيد، مرجع سابق ص 143
|
01-10-2007 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=199
|