/

 

 

في نشأة علوم القرآن وتطورها

عبد الرحمن حللي

نشأت علوم القرآن تدريجياً بحسب الحاجة لفهم معاني القرآن، فكان العرب والصحابة يفهمون القرآن كونه نزل بلغتهم وقلما يغيب عنهم معنى أو يستشكل ظاهر من القرآن، ومع شروع الصحابة في جمع القرآن بدأ يتشكل علم خاص برسم القرآن، وقد تطور هذا العلم مع تطور الخط العربي ونقط المصحف وإعجامه، كما رافق ذلك الحديث عن إعراب القرآن، ومع انتشار الإسلام وتوسع الفتوحات ودخول الأعاجم في الإسلام، وكذلك توسع المعارف والعلوم، ظهرت أنواع علوم القرآن المختلفة، فظهر مبكراً الحديث عن أسباب النزول والمكي والمدني والناسخ والمنسوخ وعلم الغريب، وكان ذلك متداخلاً مع رواية الحديث التي شكلت في واحد من فصولها نشأة علم التفسير الذي استقل فيما بعد، فكان أقدم ما وصل إلينا مستقلاً من تفسير القرآن كاملاً هو تفسير مقاتل بن سليمان (150هـ)، وأما في موضوعات علوم القرآن فألف أبو عبيدة معمر بن المثنى (209هـ) في مجاز القرآن، وأبو عبيد القاسم بن سلام (224هـ) في الناسخ والمنسوخ وفي القراءات، وعلي بن المديني (234هـ) في أسباب النزول، وينسب صاحب الفهرست إلى محمد بن خلف بن المزربان (309هـ) كتاب "الحاوي في علوم القرآن"، ولعله أقدم استعمال لتعبير علوم القرآن، وجرى بعد ذلك استعمال التعبير المركب "علوم القرآن" في القرن الرابع دون أن يحمل دلالة اصطلاحية، وجاء علي بن إبراهيم بن سعيد الحوفي (ت:430هـ) ليؤلف كتابه "البرهان في علوم القرآن"، وهو تفسير يقع في ثلاثين مجلداً يوجد ما يقرب من نصفه مخطوطاً في مصر وغيرها، وقد ضمنه علوم القرآن في تفسير كل سورة، ويرجع الشيخ عبد العظيم الزرقاني إليه بداية إطلاق علوم القرآن بالمعنى الاصطلاحي الشامل لها، لكنه تناولها تطبيقاً في التفسير لا تنظيراً، "فأتى على علوم القرآن ولكن لا على طريقة ضم النظائر والأشباه بعضها إلى بعض تحت عنوان واحد لنوع واحد بل على طريقة النشر والتوزيع تبعا لانتشار الألفاظ المتشاكلة في القرآن وتوزعها حتى كأن هذا التأليف تفسير من التفاسير عرض فيه صاحبه لأنواع من علوم القرآن عند المناسبات"، وقد ذكر مصطفى عبد القادر عطا في مقدمة تحقيقه للبرهان للزركشي، أن الزركشي نقل في كتابه البرهان ما قاله الحوفي في كتابه مختصراً إضافة إلى غيره، لكنه لم يذكر مستنده في ذلك، وأستبعد أن يكون عقد مقارنة بين الكتابين لأن كتاب الحوفي مخطوط وناقص وهو كتاب في التفسير، ولم يذكر الزركشي الحوفي في كتابه غير مرتين إحداهما في سياق تأليفه في إعراب القرآن، والثانية ينقل عنه رأياً من تفسيره حول آية القصاص وفصاحة القرآن، ولم أعثر له ذكراً في غير هذين الموضعين، مع ملاحظة اهتمام الزركشي بنسبة الأقوال إلى أصحابها، وكذلك تأريخه لما كتب في علوم القرآن، فيستبعد أن يكون الزركشي لخص كتاب الحوفي ضمن البرهان دون أن يشير إلى ذلك.

وفي القرنين السادس والسابع نجد ابن الجوزي (ت 597هـ) وله : "فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن" و"المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن"، كما صنف علم الدين السخاوي (ت643هـ) "جمال القراء وكمال الإقراء"، و ألف أبو شامة (ت665هـ) "المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقران العزيز"، وهي كتب في جوانب متخصصة من علوم القرآن.

أما في القرن الثامن فنجد بدر الدين الزركشي، (ت794هـ)‍، وكتابه "البرهان في علوم القرآن"‍، وقد كان الزركشي من علماء الأصول والفقه الشافعي، وصنف في عدة علوم كالفقه والأصول والتفسير وغيرها، وأما كتابه البرهان فهو مطبوع في أربعة مجلدات، وقد حققه محمد أبو الفضل إبراهيم، وفيه عرض شامل وموسوعي لعلوم القرآن، حيث اختصر ما ضمنه فيه من معلومات من كتب التفسير واللغة والفقه وغيرها، فجمع آراء العلماء وأضاف إليها، وقد ذكر العشرات من أسماء الكتب والمؤلفين الذين نقل عنهم، فكان كتابه عصارة لفكرهم مضافاً إليها ما رآه الزركشي أو رجحه، لذلك كان كتابه فريداً في موضوعه من حيث كونه أول كتاب يشتمل على مختلف علوم القرآن ويعرف بها، ويمكن اعتباره أول من ألف في علوم القرآن بمعناها الاصطلاحي الذي يختص بجمع ضوابط العلوم المتصلة بالقرآن الكريم من ناحية كلية عامة.

وفي القرن التاسع: نجد جلال الدين البلقيني(ت824هـ) وكتابه:"مواقع العلوم من مواقع النجوم"، ومحمد بن سليمان الكافيجي (ت879هـ)وكتابه : "التيسير في قواعد التفسير"، ومع نهاية القرن التاسع وبداية العاشر نجد جلال الدين السيوطي (911 ه‍(، المعروف بكثرة التأليف في مختلف العلوم وبالخصوص في علمي التفسير والحديث، والمتميز بالجمع والموسوعية في التأليف، وكتابه الشهير "الإتقان في علوم القرآن" الذي يعتبر من أكثر كتب الدراسات القرآنية استيعاباً لعلوم القرآن ومن أحسنها تصنيفاً وتبويباً، وهو اختصار لكتاب آخر أسهب فيه وهو" التحبير في علم التفسير"، وقد ضمن التحبير كتاب شيخه الإمام جلال الدين البلقيني (مواقع العلوم من مواقع النجوم)،كما استفاد فيه من شيخه الكافيجي، ويبدو أنه في أثناء تصنيفه "التحبير" لم يكن قد اطلع على كتاب البرهان للإمام الزركشي، أما كتاب "الإتقان" فقد صنفه بعد أن اطلع على كتاب البرهان للإمام الزركشي، فاختصره مع إضافات كثيرة، وجعله مقدمة لتفسير كبير شرع فيه ولم يتمه. ويؤخذ عليه أنه يورد الكثير من الروايات الضعيفة والأحاديث التي لم تثبت دون تعقيب، وكذلك ذكره لبعض الآراء دون ذكر أصحابها أو التعقيب عليها رغم تفردها. ويعتبر كتاب "الإتقان" أهم مصدر للباحثين والكاتبين في علوم القرآن بل إن معظم ما ألف حديثاً في علوم القرآن مقتبس منه. ويعتبر من أوائل الكتب التي طبعت في القرن التاسع عشر فطبع في كلكتا (1271هـ/1854م)، وقد توالى طبعه، ولم يحظ بتحقيق يليق بأهميته.

ثم بعد ذلك لا نجد تأليفاً متميزاً في علوم القرآن إلى أن ظهرت النهضة الحديثة في التأليف في القرن الرابع عشر الهجري، فظهرت عشرات المؤلفات الحديثة التي اختصرت ما تقدم وأضافت إليه، وكان من عوامل تجديد التأليف فيها ظهور موضوعات جديدة وتطور أساليب التدريس، وكانت جهود المستشرقين وما أثاروه من أهم المحفزات لإعادة النظر وتمحيصه في علوم القرآن، كما ظهرت محاولات جديدة تعيد النظر في علوم القرآن من منطلق إعادة النظر في الوحي والقرآن نفسه كمصدر ورسالة وتاريخ، كمحاولات نصر حامد أبو زيد.

وتجدر الإشارة أخيراً إلى أهم ثلاثة كتب حديثة شكلت إضافة في التآليف الحديثة في علوم القرآن وكانت مرجعاً لمعظم المؤلفات الحديثة، وهي:

- مناهل العرفان في علوم القرآن، تأليف الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، وهو كتاب جامع يعتمد أسلوباً سهلاً، ضم الكثير من المادة العلمية من كتابي الزركشي والسيوطي، وأضاف إليهما مباحث جديدة لاسيما حول شبهات المستشرقين، وترجمة القرآن.

-مباحث في علوم القرآن، للدكتور صبحي الصالح، وهو بالإضافة إلى الاختصار والجمع من المصادر عني بالتدقيق في مسائل جمع القرآن ووجوه الإعجاز والبلاغة، وتطرق إلى مسائل مثارة في عصره.

- النبأ العظيم، للدكتور محمد عبد الله دراز ، وهو طريقة جديدة في تناول القرآن الكريم تركز على خصائص القرآن ومزاياه المعجزة، يتناول بعض علوم القرآن بمنهج جديد، رقيق الأسلوب والتعبير.

ولا تزال علوم القرآن بحاجة إلى جهود علمية أكثر تسد النقص في جوانب من مباحثه، وتعيد النظر في جوانب أخرى، فعلوم القرآن فيها الكثير مما يحتاج إلى المراجعة والدرس.

 

 

 

05-11-2007 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=203