الحديث عن الطائفية أصبح خبز الصحافة اليومي، والمؤتمرات والمبادرات التي تسعى لتطويق الانفجار الطائفي هي الآن في تزايد، وأياً يكن الاتجاه الذي اتخذته التحليلات لأسباب انفجار الوعي الطائفي في العالم العربي والشرق الأوسط على وجه الخصوص (سواء عبر استحضار الخزان التاريخي للانقسام الديني، أو عبر التحليل الاستراتيجي وموضوع التحالفات الإقليمية والهلال الشيعي)، فإن تحليل الوعي الطائفي من منظور الاجتماع السياسي لا يزال يتسع للتفسير ومحاولات الفهم.
ابتداءً فإن التربية السياسية الرسمية التي خضعت لها شرائح المجتمع في الأنظمة الشمولية تحاول تكوين الاتجاهات والمعارف والقيم والمشاعر التي تعين على فهم وتقويم العالم السياسي الذي يحيط بهذه الشرائح، وتسهل لها الانخراط والتأثير فيها على مبدأ مضمر، هو الحفاظ على النظام السياسي وإطالة أمده حتى «الأبد» ما دام ممكناً. هذه التنشئة السياسية الجماعية قامت على إرث ثقيل صنع بإرهاب الدولة تارة، وبالتنشئة السياسية «العلمانية» القسرية عبر حقل إعلامي مغلق غالباً، لينتهي الأمر - حسب الهدف المضمر للنظام - إلى طاعة مطلقة، هي في الواقع طاعة تؤلِّه الحاكم وتستعبد المحكوم، وتحول البلاد من ملك للشعب إلى ملك للنظام، الذي كان قد أصبح «لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون»!
لا بد - جراء ذلك - أن يحصل شرخ نفسي للجماهير، ما بين قبول علني إكراهي للسياسة الدكتاتورية، ورفض فطري مكبوت لمنطق النظام المستعبِد، الأمر الذي لا بد أن يخلق تنشئة سياسية مضادَّة لا تلبث أن تكشر عن أنيابها في أحلك الظروف.
لا شك أن وجود انشقاق في التنشئة السياسية، ووجود تنشئة سياسية موازية ومضادة تتعايشان في إطار تقاسم الوجود بين «الظل» و»العلن» هو ما يميز الثقافة الاستبدادية التي خلقها النظام الشمولي الحديث، ففي السابق لم تكن هناك ثقافة سياسية على هذا الحد من التناقض، بل كانت ثقافة مشتقة بشكل من الأشكال من تجربة الحضارة الإسلامية المديدة، والتصورات التي صنعها الفقه السياسي، حيث يدين الناس للولاة بالتقدير والطاعة والولاء.
في الواقع، إن التنازع بين التنشئتين الموجود في الثقافة السياسية للمجتمعات العربية الحديثة، الرازحة تحت سقف الشمولية، يؤدي في نهاية المطاف إلى تصور الحراك السياسي والاجتماعي باعتباره حالة عنف متبادل، تركز فعلياً على مبدأي «الاستيلاء» و «الانتقام».
من المجدي، في سياق التفكير في تفاصيل البنية الثقافية السياسية المتكونة في ظل الأنظمة الشمولية البحث في المفاهيم السياسية الأساسية، إذ من خلالها نفهم كيف تتركب هذه البنية، وتنتظم في الوعي الاجتماعي.
يتم عادة تجاهل تأسيس عملي وترسيخ نظري لمفهوم «الدولة» ووظيفتها - باعتبارها كياناً سياسياً قائماً على الجماعة والأرض والقانون - يتم التركيز في الوقت نفسه على الدولة في التنشئة الرسمية المكتوبة والمسموعة على «الأمن» و «حفظ القانون» و «تطبيق النظام»، والإشارة المرائية إلى «خدمة المجتمع»، في حين يتم التركيز في التنشئة الشفاهية على «الدولة العدوّة»، التي ما إن تقترب منها حتى تضيع الحقوق! ومن ثم، تفتقد «العدالة» بأبسط صورها... فتجليات الدولة - كما يُنظر إليها من موقع الشعب في العالم العربي - تجعل «الحكومة» أو «النظام» مكروهاً عموماً، إذ يبدو في صورة «الدولة ضد الأمة».
وفيما يظل مفهوم العدالة مطلباً رئيسياً في وظائف الدولة في التنشئة الشفاهية السياسية التي يقوم بها المجتمع، حيث تبرز بغيابه دوماً وظيفة «تطبيق الشريعة»، يكون هذا المفهوم مفهوماً ثانوياً في تحديد وظائف الدولة، وإن كان ذلك لا يعني عدم الإشارة إليه.
إن عدم شعور المجتمعات العربية (الإسلامية عموماً) بالعدالة، يجعلها تُقبل على شعار «تطبيق الشريعة» (التي تختزلها بعض حركات الإسلام السياسي في مسألة «تطبيق الحدود») بلهفة ربما، إلى الحد الذي قد يجعلها أحيانا تناصر بصمت أو بالعلن حركات العنف المضاد للدولة.
وفي التنشئة السياسية الرسمية غالباً ما يجري المرور على مصطلح «الوطن» دون تحديد لمضمونه، إذ يأتي في معظم الأحيان في السياق التمجيدي على أنه «أرض الآباء والأجداد»، ويختلط بين مفهوم «الوطن» الجغرافي المحدود بأرض الدولة، وبين «الوطن القومي» المحدود بجغرافيا «جامعة الدول العربية»!، وفي كل الأحوال، يحدث الارتباك في تحديد المدلول، خصوصاً مع عدم وجود تعاريف وتحديدات مستمرة لهذا المفهوم، وهو ما يجعله في كثير من الأحيان مستعصياً على الفهم، أشبه بأيقونة يصعب فهمها من دون تأويل! لكن هذا الغموض يفصح عن مكنونه عندما يختصر الوطن في النظام، فتكون البلاد «بلاد الحزب القائد»، أو تنسب مرة واحدة للحاكم الأوحد.
لا يعود هناك مجال للتنشئة الشعبية الشفاهية على العموم الواقفة على النقيض سوى أن تصور هذا الاختزال للوطن على تعبير رسمي مُظرَّف عن الفعل العملي الذي يمارسه النظام بحق البلاد وممتلكاتها. لهذا فإن مفهوم «الوطن» يكاد يكون غائباً، فلم ير في هذا «الوطن» سوى القهر والإذلال. بعد ذلك ليس غريباً أن نرى - في بعض هذه النظم الشمولية - أرقاماً مخيفة في نسب الراغبين بالهجرة، قد تصل إلى أكثر من 90% للشباب الجامعي مثلاً، وهي أرقام كارثية بكل ما تعنيه كلمة كارثة من معنى.
يقودنا هذا لمفهوم المعارضة، الذي لا نجد له ذكراً البتة، بل إن ذكره بحد ذاته «جريمة»، فإذا كان كل من يعارض النظام «خونة للوطن»، و «منافقين»، أو «عملاء» للاستعمار أو للأميركيين (الأمر سيّان)، فإن التنشئة السياسية الشعبية المعارضة بطبيعة الحال تعتبر كل متعاون مع النظام «عميلاً» له، تكن له العداء وتضمر له الكراهية.
وفي المقابل قلّما يشرح مفهوم القانون على نحو يكرس الوعي لدى الجماهير بأهمية التعامل معه، ولكن في كل الأحوال فإن تطبيق هذا القانون الذي يخضع في معظم الدول العربية إلى محسوبيات السياسيين والحزبيين ورجال الأمن و... و... إلخ يجعل هذا المفهوم للقانون محط استخفاف، حيث «لا يطبق إلا على الضعفاء، إذ يتحول القانون غالباً إلى «أداة سطو» و «ابتزاز»، على الأقل هذا ما تكنه التنشئة السياسية الشعبية، وإذا أضفنا إلى ذلك أنه كثيراً ما يقدم مفهوم القانون من منظور العقوبة، فإن علينا أن نتصور إلى أي حد تتكرس ثقافة القانون، والإحساس بوظيفته، فقد أصبح مبرراً لعنف النظام ضد أفراد «شعبه».
أما عن مفهوم «النظام السياسي» فإنه في الوقت الذي تتنوع التنشئة الرسمية تبعاً لاختلاف نظام الحكم فإن كل الأنظمة تركز على الطبيعة «الديموقراطية» وخصوصا «الجمهوريات» الشمولية. اللعبة مكشوفة على مستوى التنشئة الشعبية، غير أن هذه التنشئة تتوقف عن وصف الأكذوبة وكيفية تمريرها، فهي لا تمتلك تصوراً بديلاً، إنها تتوقف عند تصور الواقع البائس، ولا تمدنا بتصور مضاد، إنما تكتفي بمفهومي «الحقيقة» و «العدالة» كلما مرت ذكرى الانتخابات (أو «الاستفتاءات» كما تسميها هذه النظم).
منظومة الانتماءات تتركب هرمياً، فالإنسان ينتمي انتماءً مركباً يحكم فيه الانتماء الأعلى الانتماءَ الأدنى، ودائماً الانتماء الوطني إذا كان قوياً فإنه يحكم ويتجاوز الانتماء القبلي، والانتماء الديني يتجاوز الوطني، وهكذا عندما تتعرض منظومة الانتماء للتآكل، فإن التآكل يبدأ في الطبقات العليا، أعني من الانتماءات الكبرى وليس العكس، وكل خسارة لانتماء كبير تعني نزولاً للانتماء الأدنى، اعتماداً على ذلك فإن الانفجار الطائفي يمكن تفسيره باعتباره حصيلة تآكل انتماءات كبرى.
الثقافة السياسية السوداء مؤسسة على الانشقاق القائم بين التنشئتين السياسيتين (الرسمية والشعبية) وطبيعته، والذي يتغذى من عنف الدولة وانعدام عدالتها، وهذا ما يعني أن إعادة الانسجام بين التنشئتين يبدأ من توقف النظام عن إرهابه، والتدرج بإطلاق حريات التعبير واستقرار الممارسات القانونية على نحو عادل، التي بدأت بعض هذه النظم بالعمل بها، وما أحدثته هذه الثقافة السياسية السوداء أنها دمرت الانتماء للوطن، دمرت الوطنية بالكامل، ومعها وبشكل منظم دمرت العدالة الاجتماعية، ولم يعد تحت غلالة الوطن سوى القبيلة، وتحت غلالة العدالة لم يعد سوى الدين والمذهب والانتماءات العرقية، وما بينهما تنمو الطائفية ويصبح من العسير الوقوف في وجهها من دون «وطن» ومن دون «عدالة» وتفاصيل «العراق الجديد» شاهد مؤسف على هذا.