كان إحياء الهوية الإسلامية التي باتت مهددة من قبل التيارات الفكرية التي اجتاحت ديار المسلمين؛ الهدف الأساسي من السعي لإقامة الحكم الإسلامي، فاتجهت الحركات الإسلامية إلى التركيز على الهوية بدل الاجتهاد والإصلاح الذي بدأ قبل سقوط الخلافة وتوقف وتضاءل مع حدوث ما هو أهم وهو هوية المجتمع والدولة، فكان السعي سياسياً اجتماعياً في آن، فقد جعل سقوط الخلافة المسلمين في مواجهة مع العالم، وظهر للمسلمين فجأة أنهم أمام تحول جذري لكيانهم السياسي والاجتماعي فكانت ردة الفعل الطبيعية عودة إلى الذات، هذا المدخل جعل الفكر الإحيائي الإسلامي يقوم على مقولة الهوية، والتي برزت بالخصوص على الصعيدين الفكري والسياسي.
فمثلاً الدراسات الناقدة للحضارة الغربية أو المجلِّية لخصائص الحضارة الإسلامية كانت تدور في فلك الهوية، لذلك ظلت ثنائيات مثل الإسلام والغرب أسيرة ثنائية الإسلام والكفر ودار الإسلام ودار الحرب، ولم تفلح المقاربات في الوصول إلى تجسير الهوة بما يخدم الهوية ذاتها أو الوعي بها، فضلاً عن تطوير الوعي السياسي أو الحضاري لمسيرة العالم، إذ أورثت القطيعة تلك تصوراً مغلقاً للهوية استبعد فيه البعد الإنساني والفطري في الهوية الإسلامية والذي يتساوى فيه الجميع ومن خلاله يخاطب الإنسان بالمبادئ والقيم الإسلامية، وحتى لم تستطع تلك الدراسات أن تستثمر ما هو مشترك من القيم لتحقيقها، إنما تجاذبت تلك القيم وحاولت إثبات الأسبقية فيها بغض النظر عن الفاعلية في تحقيقها، فإشكالية المرجعية كانت واحدة من هواجس الهوية المبحوث عنها في كل شيء.
وفي الجانب السياسي كان الهدف من الوصول إلى الحكم هو تحقيق الهوية التي تماهت مع العقيدة ومستلزماتها، فظهرت مشروطات عقدية لم تكن معروفة من قبل كالولاء والبراء، والذي جعل الحراك السياسي في المجتمعات الإسلامية مقيداً بمقولة الإيمان والكفر وهو حكم لا يقتصر على الأفراد بل يعم الدولة وأحياناً المجتمع، حتى إن التعاطي السياسي بتأويل كان كافياً لدى البعض للتصنيف العقدي، ولئن كانت هذه رؤية واضحة لدى المتطرفين من الإسلاميين الذين يستحلون دماء السياسيين على قاعدتها، فإن رؤية معظم الإسلاميين في مقاربة العمل السياسي السلمي قامت على مبدأ المصلحة أو التدرج وتقديم الأولويات، أما التنظير السياسي الإسلامي فما يزال خطابه ينقصه الكثير من الوضوح والتماسك تجاه الرؤية السياسية المعاصرة، فهو من جهة مشغول بهاجسي الهوية والشرعية ببعدهما المطلق، وكلاهما يصطدمان مع آليات العمل السياسي المعاصر المحلي والدولي، لكن ذلك لا يعكس عجزاً إسلامياً في التعامل العملي مع تلك الإشكالية، فقد أثبت التجارب قدرة الإسلاميين على التكيف مع الشروط السياسية المعاصرة بل والنجاح في تحقيق مصالح إسلامية بعيدة المدى (النموذج التركي)، وتحقيق أكبر قدر ممكن من القيم الإسلامية التي فشلت الرؤى الإسلامية المتشددة في تحقيق بعضها.
هاجس الهوية الذي التصق بفكرة الخلافة بعد سقوطها أورث رؤية أحادية لنظامها وتأويلاً مشتركاً للتاريخ يحفظ توازن النظرية السياسية، ولم يكن ممكناً طرح رؤية نقدية لهذا التصور طالما أصبح يشكل مرجعية الحركة السياسية الإسلامية ونظامها الأساسي، فكان أي طرح نقدي يعني انشقاقاً سياسياً على أرض الواقع، وهذه إحدى خلفيات الانشقاقات التي عرفتها الحركات الإسلامية المعاصرة، تلك الانشقاقات كانت تتوزع بتدرج على صعيدين الأول ينزع بالرؤية السياسية إلى الزوايا الأضيق الملتصقة بالهوية والمماهية بين جميع مفردات العملية السياسية: العقيدة والخلافة والحاكمية والشريعة والجهاد من أجلها...، كل تلك المفردات كانت كلاً لا ينفصل، وهي تكون أو لا تكون، فتمت المفاصلة بين المؤمن بهذه الرؤية وبين المجتمع الجاهلي الذي لا يجسدها، أما الصعيد الثاني من الانشقاقات فكان في الاتجاه المضاد الموسع من معنى الهوية والفاصل بينها وبين النظر السياسي وتوسَّع هذا الانشقاق أحياناً ليتماهى مع العلمانية الفاصلة بين الدين والدولة.
إن العنصر الأهم الذي فعَّل هذا الجدل هو المتغيرات القسرية التي جدَّت في حياة المسلمين في جميع ميادينها، ولم يكن هناك بد من التعاطي معها، فالتعاطي الإيجابي كان يفترض رؤية مرنة تتفهم تلك التحولات المقترنة بتحولات عالمية لا قبل للمسلمين بها، وهم لم يصحوا بعد من صدمة تحول مجرى التاريخ من مركزيتهم إلى المركزية الغربية، أما التعاطي السلبي مع تلك التغيرات ورفضها فكان يعني الاصطدام والعنف والانزواء لأن حركة التاريخ لا تسير وفق إرادات الأفراد والأمنيات إنما وفق سنن كونية، ومن لم يفهم هذه السنن ظن أن التغيير ممكناً بجهود فئة محددة ومن خلال تغيير نظام حكم في بلد معين أو إقامة نظام آخر على أسس إسلامية.
إن انشغال الفكر الإسلامي بهاجس الهوية جعل التنظير السياسي الإسلامي يغفل عن الإجابة على أسئلة كثيرة فرضها سقوط الخلافة والتحولات العالمية، وكان يمكن لهذه الأسئلة أن تجد إجابات متقدمة لو استمر فكر الإصلاح الذي بدأ في القرن التاسع عشر، وأبرز علامة على هذه الأسئلة طبيعة تصور العالم المعاصر ومقايسته إلى العالم القديم، وبناء الفقه السياسي المعاصر استناداً إلى معطيات واقع الفقه القديم، رغم الاختلاف الشاسع في طبيعة وبنية كل، مع غفلة عن حركية الفقه القديم في التعامل مع المتغيرات التي كانت تطرأ، ولعل أبسط مثال يمكن الاستشهاد به اليوم مفهوم الدولة الإسلامية ذاته، فهل تكون الدولة إسلامية بتاريخية الأرض أم بقوانين الحكم أم بدين الحاكم أو المحكوم أم بدستور البلاد أم بجميع ذلك؟ تلك أسئلة لم تكن مطروحة في ظل الخلافة، إذ كانت كل تلك العناصر مجتمعة عملياً، أما اليوم فكلها متشتتة، وبالتالي فنحن أمام مجتمعات إسلامية تحكمها دولة وقوانين علمانية، كما أننا بصدد أقليات إسلامية في مجتمعات غير إسلامية تحكمها أنظمة علمانية أيضاً، وقد يتاح للمسلم في الحالة الثانية إقامة شعائر دينه وتحقيق القيم الإسلامية بطريقة لا تتاح في الحالة الأولى، ففي أي من الحالتين ستعتبر الدولة إسلامية؟ وبالتالي مفهوم الأمة والجماعة هل سيكون مقيداً بحدود سياسية أو جغرافية؟ أسئلة كثيرة في العمق لم يسمح الزمن بالإجابة عليها نظراً لتسارع متغيراته، لكن الملفت للنظر أن الأحكام المطلقة على العالم ما تزال مستمرة في وقت يعيش أضعاف عدد المسلمين في العالم العربي في ظل حكومات وبين مجتمعات لا نصفها بالإسلامية.
إن مفهوم الدولة الحديثة التي أعقبت الاستعمار لا يمكن بحال مقايسته إلى شروط دار الإسلام والخلافة، ولا بد من مقاربة جديدة للمفهوم المعاصر للدولة وآلية التعاطي السياسي الإسلامي معها، وهذا لا يعني مفاضلة بين الحاضر والماضي، إنما لا يصح منهجياً تصور الدولة الحديث على أنها استمرار للماضي والتعاطي معها على هذا الأساس، ثم الحكم على العلاقات الدولية بناء عليه، وهذا لا يقتصر على التصور السياسي بل يستتبعه الكثير من الأحكام التعبدية والاجتماعية والاقتصادية، فمثلاً هناك من العلماء اليوم من لا يوجب صلاة الجمعة على المسلمين في الغرب لأن ديارهم ليست ديار إسلام، وهذا يستتبع حكماً آخر هو وجوب الهجرة من تلك الديار، في الوقت الذي يوفد فيه المسلمون نخبة أبنائهم إلى العرب لاستيراد العلم والطب وتطوير مجتمعاتهم .. أليست مفارقة حادة!.