/
صورة الدولة وظل الخلافة: الإسلاميون والبحث عن النظام السياسي الإسلامي
عبد الرحمن الحاج
على الرغم من الجهود الكبيرة التي أنفقها الإسلاميون في الفكر السياسي الحديث لبناء "نظام إسلامي سياسي" منذ سقوط الخلافة العثمانية إلا أنهم لم يستطيعوا حتى الآن تحقيق ذلك، ومن إيران إلى السودان إلى نيجيريا وغير ذلك من البلدان والتجارب التي أقيمت على أرض الواقع تحت مسمى "الدولة الإسلامية" فإن جميعها عانت من أزمات سياسية واجتماعية وقانونية خانقة. والسبب ليس قائماً فقط في طريقة عمل الجهود المبذولة لبناء هذا النظام الطموح، بل في أن فكرة "النظام الإسلامي السياسي" ذاتها كانت فكرة أيديولوجية وليست مشروعاً معرفياً نهضوياً حقيقياً، مما جعلها تخضع كلياً لردَّات فعل متأتية من الصراع الاجتماعي والفكري والسياسي مع النخب الحداثوية والماركسية التي أطبقت على صدور المجتمع العربي واستوصت نفسها عليه. غير أن السبب الأهم هو أن الوعي بالتحول العميق للفكر السياسي الذي أنجزه الفكر الأوربي بولادة فكرة الدولة (الحديثة) لم يكن بذلك القدر الذي يسمح لهم بتوليد فكر سياسي معاصر، وزادت الأوهام الأيديولوجية في سياق الصراع مع النخب المحدثنة في عدم الوقوف طويلاً أمام مفهوم الدولة الحديث وما حصل من تغيرات عميقة بسببه في مجال الفكر السياسي الإنساني، مما جعل الفكر السياسي الإسلامي الحديث مطبوع عموماً بنزعة تلفيقية، تستخدم كل الإرث السياسي الماضي في صورة الدولة الحديثة دون إحداث تطويرات عميقة عليه. فمن السهل أن نعثر على مطابقة متكررة بين مفاهيم تنتمي إلى نظام الخلافة مع مفاهيم تنتمي إلى الدولة الحديثة، فرئيس الدولة يساوي تماماً وبالضبط الخليفة أو الإمام، ونظام الاستئمان يساوي الجنسية، وأهل الحل والعقد هم أهل الشورى أو اللوبي وجماعات الضغط، والديمقراطية هي الشورى، والذمية هي الأقليات، وهكذا سلسلة طويلة من المصطلحات والتصورات التي تلفِّق مفاهيم الخلافة الإسلامية لمفاهيم الدولة الحديثة، ولولا أن هناك عدم وضوح في تمايز مفهومي "الدولة" و"الخلافة" لكان للفكر الإسلامي ربما مساراً آخر. لم يتم التداول في التراث الفقهي السياسي والأحكام السلطانية مفهوم الدولة بمعنى الكيان السياسي الجغرافي المتضمن لعناصر: الأرض والشعب والسيادة، بل الدولة كانت تستخدم دوماً أقرب ما يكون إلى معناها اللغوي، أي من الديالة أو الدولان، أو بمعنى قريب مما يطلق عليه الآن "الأنظمة السياسية"، وفي هذه الحدود تصف عبارات مثل: دولة بني مروان، دولة بني الأحمر، ودولة بني العباس، دون أن تتجاوز هذا المعنى. في حين نجد المفاهيم التي تصف الكيان السياسي في مسميات "مملكة"، و"ولاية"، و"أمارة"، و"سلطنة"، و"الخلافة"، و"دار الخلافة"، و"دار الإسلام"، أما تعبير "الوطن" فهو مفهوم شخصي شِعري ليس له علاقة بالمجال السياسي إلا من هذا الباب. "الخلافة" (وغير ها من المسميات الآنفة الذكر) كما تبدو من خلال أبواب الفقه المختلفة ومؤلفات الأحكام السلطانية هي صورة لكيان سياسي السلطة فيه ذات تحيز مركزي يتجمع في شخص الإمام (الخليفة)، ومن شخصه تتناسل السلطات فما يقرره الإمام (الأصل أنه مجتهد) يرفع الخلاف، ورأي الإمام ملزم "شرعاً" حتى في العبادات، والقاضي ليس إلا نائباً عن الإمام، والأجهزة التنفيذية (الولايات) هي نيابات عن الإمام، فليس منصب الإمامة ـ والحال هذه ـ مؤسسة، وإنما هي شخص واحد يدبِّر مصالح المسلمين في سياسة الدنيا ورعاية الدين. وفي إطار نظام الخلافة فإن علاقات "الرعيَّة" الاجتماعية السياسية في نظام الخلافة قائمة على أساس الفرز الديني، عبر مفهوم "الجماعة" وهي جماعة المسلمين في الفقه السني، أو "أهل السنة والجماعة"، وهم أهل السلطان، و"الذمية" هم الطوائف الدينية من أهل الكتاب ومن في حكمهم (على خلاف بين المذاهب) والفرق الإسلامية "الضالة"، وهم فعلياً في وضع سياسي واجتماعي مختلف عن أهل الجماعة، فالإمامة العظمى (أو الكبرى) لا حق لهم فيها؛ لأنها ستكون بمثابة ولاية مليَّة للكافر على المسلم فلا تطلق يدهم في المسلمين، وإن كان لهم الحق في أنواع الولايات مما لا يدخل في القضاء أو التشريع. الجغرافية المستند إليها الكيان السياسي المسمى بالخلافة يقوم على مفهوم "الدار"، ومفهوم الدار هذا ليس جغرافيا ذات حدود مرسومة، بل جغرافيا غير قارة، قابلة للتمدد بتمدد النفوذ، أو بعبارة أدق ببسط سلطان الخلافة، الذي يعني بسط الشريعة الإسلامية، فالدار مفهوم متحوِّل شديد المرونة، مرتبط بالنظام السياسي والعقدي في آن واحد، والرعية هم كل من يدخل في إطار الدار. ولأن المسألة تتعلق بحفظ "بيضة المسلمين" وحفظ مصالح الجماعة و"استقرار" الخلافة، فإن الإمامة ـ التي لم تكن في صورة مؤسسة سياسية بالمعنى المتعارف عليه اليوم ـ لها وظيفة "حراسة الدين" أو بتعبير ابن تيمية "إصلاح دين الخلق"، أي أن العلاقة مع الدين علاقة جوهرية، مما يجعل طرح فصل الدين عن الدولة أمراً غير ممكن التفكير قيه البتة، خصوصاً وأن مفهوم الخلافة ذاته قام على أساس الارتباط بالدين منذ اللحظة الأولى التي أسس فيها، أي في عهد الخليفة أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه. هكذا يبدو واضحاً أن مفهوم الدولة مفهوم مفارق إلى حد بعيد لمفهوم الخلافة، فالدولة الحديثة ذات وظيفة سياسية بحتة، ورهاناتها متعلقة بالتالي بمصالح الجماعة (الأمة) في إطار جغرافي محدد (التراب وطني)، وعلاقتها مع أطياف المجتمع علاقة اتفاقية تعاقدية لتحقيق مصالح الأمة، وهكذا يكون من مقتضياتها أن تكون على مسافة واحدة من الإثنيات والملل والطوائف في إطار مفهوم "المواطنة"، ومن مقتضيات ذلك أن تقف حيادية تجاه الدين، ولأن الدين سلطات ونفوذ ذات شأن عام، تمتلك رصيداً في الفعل الاجتماعي فإن العلاقة مع الدين أصبحت إحدى إشكاليات الدولة الحديثة. ولأن الدولة تقوم لرعاية مصالح الأمة، فإن الأمة من المفترض أن تحدد هي مصالحها، وعلى الدولة تحقيقها، وهكذا يكون مبدأ فصل السلطات أمراً بدهياً ولازماً لمفهوم الدولة، ويكون السلطة الوحيدة لـ"حكومة" الدولة هي "السلطة التنفيذيةط والتنسيق بين السلطات والقوى السياسية لتنفيذ ما يمكن من مصالح الجماعة، وباعتبار أن الدولة مسؤولة أمام الأمة عن تنفيذ مصالحها فإن وجود السلطة القضائية هي سلطة مستقلة نائبة عن "الشعب" في السهر في تحقيق مصالحه التي تتبدى عبر القانون. ولأن التعبير عن مصالح الشعب لا يتأتى إلا عبر نظام فقد كان لابد من فكرة "القانون" الذي يتوافق عليه الشعب عبر "نواب" عنه يختارهم في مجلس النيابي. هكذا تتضح الدولة الحديثة بوصفها راعية لمصالح الشعب بالنيابة عنه، ولأن هذه النيابة هي نوع من التعاقد، فإن الحكومة مفترض أنها اختيار الشعب؛ إذ لا تعاقد بالإكراه، وهكذا يكون من لوازم مفهوم الدولة الاختيار و"الانتخاب" من الشعب لشغل وظائف مؤسسة "الرئاسة" في الدولة، في مقابل مفهوم "البيعة" الذي يمثل أسلوب الاختيار في منصب الخلافة. إن وجود خلل في فهم طبيعة كل من الدولة والخلافة أدى إلى التباس بينهما منذ ظهور الدولة الوطنية وانهيار الخلافة الإسلامية العثمانية، وهكذا ظهر مصطلح جديد هجين هو "الدولة الإسلامية" نجد الشيخ حسن البنا يرفع شعاراً مثيراً "الإسلام دين ودولة"، ويدرس عبد الوهاب خلاف نظام الخلافة باعتباره "نظام الدولة الإسلامية"، ويكتب أبو الأعلى المودودي عن نظام الدولة الإسلامية باعتباره "نظام شمولي"! ولم يتوقف الالتباس بين المفهومين عند بداية ظهور الدولة الوطنية، بل إن هذا الالتباس ما يزال قائماً وفعالاً إلى هذه اللحظة، و الأمثلة أكثر من أن تحصى، وتشمل هذه الأمثلة بيانات حركات الإسلام السياسي ولوائحها. إن محاولة الفهم لاستعصاء تشكيل نظري لنظام سياسي إسلامي من هذه الزاوية تبدو مفهومة إلى حدٍّ ما، وبالتالي فإن الخطوة الأولى والأهم في السعي للتوصل إلى نظام تبدأ دون شك في الفصل بين المفهومي، وتمييز صورة الدولة عن صورة الخلافة، فلا تبقى في وضع صورة الأولى وظل الثانية.
|
08-03-2005 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=234
|