/

 

 

الدولة الدينية وحاكمية الله

عبد الرحمن الحاج

لا يمكن النظر إلى التاريخ السياسي الإسلامي على أنه تاريخ حكم ثيوقراطي (دولة دينية)، ذلك أن لا أحد كان يحكم باسم الإله، بل يحكم بوصفه نائباً عن الأمة، أو مفوضاً عنها، وباستثناء أبو الأعلى المودودي - وربما أيضاً حزب التحرير- فإن ثمة إجماعا بين الإسلاميين على أن الدولة الإسلامية لم تكن قط دولة ثيوقراطية، لكن مرجعية النظام هي مرجعية نصوص دينية مثبَّتة، ومؤسسة فقهية مفارقة (على الغالب) لولاة الأمر، تشكل هذه النصوص عموماً مرجعية متوافقا عليها، يخضع لها الجميع، وبالرغم من أنه جرت محاولات عديدة في التاريخ للتحايل عليها، غير أنها في صميم فكرة "الخلافة" مرجع مفارق يخضع له أولو الأمر ورعاياهم على السواء، وكان ذلك سبباً جوهرياً في انفصال المؤسسة الدينية عن أولي الأمر بشكل مبكر.
ليس لنا أن نُبسِّط نظام الخلافة إلى الشكل الإمبراطوري الذي سبق عصر الإسلام، كما ليس لنا أن نقول: إن نظام الخلافة مطابق تماماً للدولة الحديثة وإن كان مع فروق تاريخية قابلة للتعديل، ليس لنا ذلك أبداً، والواقع أن الباحثين وقعوا ضحية هاتين الرؤيتين المختزلتين، ففيما ذهب إلى الأولى الحداثيون ذهب إلى الأخرى الإسلاميون! ويبدو لنا أن "الخلافة الإسلامية" مفهوم وسيط، بين المفهومين؛ الإمبراطورية، والدولة الحديثة، وهو يمثل حالة انتقالية باتجاه الدولة الحديثة، ولا أستبعد أبداً أن تكون تصورات الخلافة الإسلامية في الأندلس كانت ملهمة للأوربيين ومساعدة لهم للانتقال نحو الدولة الحديثة، على كل هذه مسألة تحتاج إلى بحوث خاصة، لكن المؤكد بالنسبة لنا أن نظام الخلافة يحمل أشياء بني عليها مفهوم الدولة الحديثة، وأخرى تشكل جزءاً من الإرث الإمبراطوري الفارسي واليوناني، ولم يكن بالإمكان حصول هذه النقلة لولا مفهوم الشريعة المكتملة والملزمة المفارق للوضع الإنساني، وذلك ما يضع علاقة الدين بالدولة والدولة بالدين في حيز الالتباس خصوصاً مع ملاحظة تأثيرات الجزء المتعلق بالمنطق الإمبراطوري على نظام الخلافة.
لا يوجد في النصوص الإسلامية (القرآن الكريم والسنة الشريفة) ما يمكن أن يكون أساساً لفكرة أن الكيان السياسي للجماعة وظيفته "حراسة الدين وسياسة الدنيا به"، فهذه المقولة التي تعرَّف بها الإمامة في مؤلفات "السياسة الشرعية" والأحكام السلطانية وآدابها - وكما تشير مراجعتنا لمصادر التراث السياسي- تعود بشكل قاطع إلى أصول فارسية كسروية، وإذا أضفنا إلى ذلك التطابق الذي حصل في الوعي الإسلامي بين استعادة الدين والخلافة الذي تجلى في مفهوم "الدولة الإسلامية"، فإننا سنكون أمام مجموعة جديدة من التحويرات لمفاهيم من ملازمات "الدولة الحديثة" التي أجراها الفكر الإسلامي السياسي الحديث، على رأسها مفهوم "الحاكمية".
إن دور الدولة الوظيفي باعتبارها "حارسة للدين" جعل مسألة "حاكمية الله" باعتبارها سيادة الشريعة الإسلامية مساوية لـ"سيادة الأمة" باعتبار الأمة مسلمة، فسيادتها يجب أو "يفترض" أن تساوي "سيادة الإسلام"، ويصبح من السهل بعد ذلك تشكيل تقابل تناقضي بين "حاكمية الشعب" و"حاكمية الله"، الذي وصل أحياناً إلى تعبير "حاكمية الطاغوت" مقابل "حاكمية الله"!
ظهور مصطلح "الحاكمية" -الذي صكه أبو الأعلى المودودي وتلقفه سيد قطب- بحد ذاته كان وليد مفهوم "الدولة الإسلامية" وتصوراتها -التي تمتح من نظرية الخلافة- وصراعها مع الدولة العلمانية -بالمعنى العقدي لا السياسي وحسب للعلمانية-، لهذا السبب ظهر شعار "تطبيق الشريعة" باعتباره تحقيقاً للحاكمية، ومن هنا فإن حساسية النخب العلمانية من الإسلاميين وتشككهم المستدام من صدقهم في ممارسة يبدو كما لو أنه يمتلك بعض المسوغات، غير أن الإسلاميين أيضاً رغم إيمانهم جميعاً بضرورة تطبيق أحكام الشريعة يختلفون بالوسائل للوصول إليها، بين تمسُّك بالديمقراطية، والقبول بنهاياتها وأن تكون خياراً شعبياً لا خياراً سلطوياً نازلاًَ من أعلى مواقع الحكم، وبين من لا يقبل بأن تكون مكان مساومة وخيار أمة لا تعرف مصالحها، والمنطق الأخير عموماً تنزع إليه معظم الحركات الجهادية، وكثير من حركات الإسلام السياسي.
ولا شك أن النخب العلمانية المستفيدة من السلطة كانت دوماً تستثمر هذه الفكرة للانقلاب على الديمقراطية، أو حرمان الإسلاميين من الاستفادة منها، وقد أثبت التاريخ السياسي لكثير من حركات الإسلام السياسي والإسلاميين المستقلين أنهم - وعلى الرغم من إيمانهم بحاكمية الشريعة - إلا أنهم كانوا في أحايين كثيرة ملتزمين بالعمل الديمقراطي حتى نهايته، وربما الآن نشهد التزاماً واضحاً بالديمقراطية لدى معظم حركات الإسلام السياسي البرلمانية، لا بل إنه في بعض الأحيان كان الإسلاميون يمارسون السياسة تحت مظلة أحزاب علمانية كما هو الحال في سورية في فترة الخمسينيات.
لقد كان لتصور دور الحراسة الدينية للدولة الإسلامية أن تخلق شعاراً تعبوياً صاغه الإمام البنا، أعني تعبير "دستورنا القرآن"، وهو تعبير تحشيدي، لكنه أيضاً يوحي باستخفاف بالعمل الدستوري التوافقي، أدى هذا الشعار - الذي سهل لشعار الحاكمية ليسود خطاب الإسلام السياسي - إلى نوع من غياب النظرة الاحتفالية بالدستور، بوصفه وثيقة توافق، فقد أدى التحشيد الأيديولجي لمفهوم الحاكمية إلى سيادة نظرة وصائية للحركات الإسلامية وهي نظرة مقابلة تماماً للنظرة الوصائية الثورية في العالمين العربي والإسلامي، الذي كانت ضحيته دوماً الأمة ذاتها؛ لهذا قلما يتحدث الإسلاميون عن الدستور، وفي المقابل هم دوماً يتحدثون عن الشريعة.

 

 

17-08-2006 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=240