/

 

 

الإسلام والعلمانية في عالم متغير: الخروج من العلمنة والعلاقة بالحداثة

معتز الخطيب

بات أي حديث في الشأن العام يتصل بالحديث عن الإسلام من أي النواحي أتيتَه، من الإرهاب أو الإصلاح، أو الديمقراطية أو الحديث عن الدولة وسلطتها ومسار العلمانية ومستقبلها وصولا إلى الوفاق الوطني وغيره. ومع تزاحم الأحداث وتعاقبها، سنشير إلى مختارات منها، لنتوسل بها في مناقشة جملة من الأفكار. 
مشهد الأحداث 
الخروج من العلمنة 
علاقة الدين بالحداثة والديمقراطية 
عودة الدين ومعناها 
مشهد الأحداث 
في سنة 2000 تحدث جون إسبوزيتو وجون كين وآخرون ضمن كتاب "الإسلام والعلمانية في الشرق الأوسط" عن فشل تيار العلمانية في بلدان الشرق الأوسط، وأنه في انحسار مستمر لصالح تيار الفكر الإسلامي. غير أن هذه الأطروحة ربما كان عليها أن تنتظر حدثا جللا كأحداث سبتمبر وما أحدثته من تحولات لتصبح أكثر بروزا، فقد كان العنوان العريض لحروب الولايات المتحدة الأمريكية هو نشر الديمقراطية، وكتب فوكوياما في ديسمبر/ كانون الأول 2001 أن "مسيرة التاريخ العريضة" ستتقدم بناء على نتيجة الحرب العسكرية (في أفغانستان والعراق)، و"التطور الثاني والأهم ينبغي أن يأتي من داخل الإسلام نفسه، فعلى المجتمع الإسلامي أن يقرر ما إذا كان يريد أن يصل إلى وضع سلمي مع الحداثة، خاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية والتسامح الديني". ومع سقوط نظام صدام حسين تساءل بعض الكتاب عن "مستقبل العلمانية في المنطقة" (الحياة 28 سبتمبر/ أيلول 2003)، في حين أوصت مؤسسة "راند" البحثية (2004) -ضمن ما أوصت - بدعم العلمانيين في العالم الإسلامي وتعزيز فكرة فصل الدين عن الدولة في الإسلام. 
غير أن ما أسفرت عنه الطبخة الأمريكية للعملية السياسية في العراق هو حكومة دينية طائفية، وكان رئيس الحكومة العراقية افتتح كلمته في مؤتمر القاهرة (19 نوفمبر 2005) حول الوفاق الوطني العراقي بالحديث عن مفهوم الوحدة في القرآن وهو بهذا يحاول أن يستقوي على مخالفيه بالعودة للمرجعية القرآنية. 
وحينما حضرنا الجلسات الخاصة لمؤتمر "الديمقراطية والإصلاح في الوطن العربي" (الدوحة 3 يونيو/ حزيران 2004) قال صلاح عيسى في موقف يعكس رأي أصوليي العلمانية: "إن الدولة الديمقراطية لا بد أن تكون علمانية، ووجود حزب ديني يعني وجود دولة دينية، والدولة الدينية استبدادية". 
الخروج من العلمنة 
من خلال هذا المشهد الموجز أقل ما يمكن أن يقال: إن العلمانية باتت موضع نظر، وبات حضور الدين في الشأن العام أمرا ظاهرا ومنتشرا. حتى إن الملتقى الثاني للمثقفين الأمريكيين والعرب الذي انعقد مؤخرا (7 -11 تشرين الثاني/نوفمبر) كان حول "الدين في المجال العام في التجربتين الأمريكية والعربية"، وهو عنوان دال، خاصة في كلمة "التجربتين" تلك، فقد كتب "بيتر بيرجر" و"هارفي كوكس" الأبوان الروحيان لمقولة سيادة العلمانية، كتبا عن "المدينة العلمانية" ثم عادا واعترفا بعد ذلك بأنهما أخطآ فكتب "بيرجر" يقول: "إن العالم ما يزال متدينا"، وكتب جون فول (أستاذ التاريخ الإسلامي بجورج تاون) مقالا (بتاريخ 9-7-2004) يتحدث فيه عن "الإسلام ونهاية العلمنة"، ولأن حديث النهايات ذو نَفَس أصولي/أرثوذكسي لا بد من توضيح أن "فول" يعني أننا نشهد نهاية حقبة كانت تعتبر فيها العلمنة معطى لازما في تطور المجتمعات الحديثة. فهو يركز على أن علمنة المجتمع واستحسان العلمنة هي مجرد جزء من عالم الرؤى والأفكار المتنافسة، وليست ببساطة توصيفا سوسيولوجيا علميا لما يسمى بالحقيقة الواقعة. ومن هنا يمكن أن نلمح التعامل مع العلمانية بوصفها أيديولوجيا منافسة في الفكر الإسلامي المعاصر، إذا ما استثنينا الخطاب السلفي الذي تحدث عن تكفيرها عقديا. 
ما أود قوله هو ما أقر به باتريك ميشيل من أن هناك في الوسط الأمريكي تيارا مضادا لمقولة سيادة العلمنة، ويقول بالخروج منها. وفيما مضى كان الحديث يتم عن الاستثناء الأمريكي، بمعنى أن هناك بلدا -الولايات المتحدة الأمريكية- سيظل متدينا في عالم تغلب عليه العلمانية، بينما يمكن الحديث الآن عن الاستثناء الأوربي العلماني الذي يعيش في وسط الأغلبية المتدينة. 
في الواقع أن الحديث عن "عودة الدين"، ليس جديدا، فقد دفعت جملة من الأحداث العالمية في منتصف السبعينيات إلى الحديث عنه، وعلى وجه التحديد ألف جيل كيبل كتابه "يوم الله" (الطبعة العربية الأولى 1992) ورصد فيه ما سماه "التجدد الديني" في الأديان الثلاثة الإبراهيمية، وأدرج ذلك كله في سياق واحد هو سياق "فقدان الحداثة الخاصة بالسبعينيات لمصداقيتها"، من خلال سياقات أربعة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات وهي: الإسلام المتوسطي (الثورة الإسلامية، حماس، جبهة الإنقاذ) والبروتستانتية الأمريكية (دور الجماعات المعمدانية والإنجيلية في انتخاب كارتر، وريجان، وبوش الأب) والكاثوليكية الأوربية (دور الكنيسة في بولندا) واليهودية (نفوذ الأحزاب التوراتية في السلطة وصعود الليكود). 
ولم يكن كيبل وحده، فقد كتب هارفي كوكس كتابه "عودة الله"، وكتب بيتر بيرجر كتابه "العودة إلى سحر العالم" أي الدين، وكذلك تحدث أوليفيه روا عن "إعادة الأسلمة". وهذه العودة للدين كانت دعوة سابقة وتم التنظير لها في الفكر الإسلامي، وعلى سبيل المثال نذكر كتابات سيد قطب عن الجاهلية وضرورة إقامة المجتمع المسلم، وصولا لكتاب البوطي "على طريق العودة إلى الإسلام" في الثمانينيات. مع ضرورة الإشارة إلى أن (جزءا) من "عودة الدين" كان ما بين 1980-1995 بدعم حكومات استبدادية (علمانية) لموازنة خصومها مما يسمى "الإسلاموية" أو "الإسلام السياسي". 
غير أن الجدل هنا يحدث في الأساس حول مسألتين: علاقة الدين بالحداثة ومدى اعتبار أن التحديث سيؤدي إلى إقصاء الدين عن الحياة، والثانية: هو تلك العلاقة التي يراها أصوليو العلمانية حتمية بين العلمانية والديمقراطية. وفي ضوء هاتين المسألتين: يمكن الجدل حول عودة الدين، وبأي معنى يعود؟. 
علاقة الدين بالحداثة والديمقراطية 
فيما يخص المسألة الأولى، فقد ساد اعتقاد في أوساط المثقفين وعلماء الاجتماع الغربيين بأن التحديث هو المحرك الذي سيتسبب بصورة حتمية في إقصاء الدين عن الحياة، ومن ثم دأب هؤلاء على مدى ما يقرب من ثلاثة قرون على التأكيد على "أفول الدين". غير أن تلك العودة للدين التي تحدثنا عنها، زعزعت تلك التصورات الصلبة وأدت إلى وجود مقولات تبدو مسرفة في المقابل، مثل مقولة رودني ستارك (أحد أبرز علماء اجتماع الدين): "حري بمبدأ العلمنة أن يُلقى في مقبرة النظريات الفاشلة"، أو مقولة "نهاية العلمنة" بالمطلق. 
غير أن تجربتنا مع التحديث خلال نصف قرن كافية للاعتقاد بخطأ فكرة إقصاء الدين، أو أن التحديث سيؤدي إلى إقصائه، أو أن العلمنة وإقصاء الدين توصيف سوسيولوجي لسياق تطور المجتمع واندحار المجتمع التقليدي، وبالنظر إلى الأحداث القريبة ودور الولايات المتحدة في شؤون العالم، جدير بنا أن نتقبل فكرة نهاية العلمنة كأحد أبعاد عملية التحديث. 
وفيما يخص الإسلام تحديدا، فقد قدم الأنثربولوجي أرنست غلنر أطروحته بعد أن شغله سؤال "لمَ يكون دين واحد بعينه [الإسلام] على هذه الدرجة الملحوظة من مقاومة العلمنة؟"، وخلص إلى أن في الإسلام إيمانا دينيا عميقا، بمعنى الدين المؤسس العقيدي القادر على تحدي أطروحة العلمنة بشكل كلي ومؤثر. وقال: إن "عالم الإسلام يُظهر بوضوح أن من الممكن إقامة اقتصاد عصري -أو على طريق العصرنة- تخترقه بشكل معقول المبادئ التكنولوجية والتعليمية والتنظيمية المناسبة، ويعمل على ضمها وتوحيدها مع الإيمان الراسخ والتماهي في الإسلام، بكل ما يملكانه من قوة وانتشار وقدرة قادرة على الاندماج في الذات". 
وإذا كان إقصاء الدين ليس شرطا للحداثة فإن العلمانية ليست شرطا للديمقراطية أيضا لأنها لا تعدو سوى أيديولوجيا منافسة ولم تعد الحقيقة الواحدة و"الخيار" الوحيد الذي لا بد منه للمجتمعات، والتجارب الحالية تؤكد ذلك، وكان جون كين (بروفيسور السياسة في جامعة وستمنستر)، بحث "حدود العلمانية" طارحا التساؤل الذي يراه مثيرا لاستفزاز العلمانيين وهو في ما إذا كانت العلمانية تحول دون حرية التفكير في الديمقراطية نفسها، وبأنها تحولت إلى دوغما سياسية. 
إلى ذلك إن العلمانية تحمل جملة من التناقضات، أبرزها دعوتها إلى حرية الاجتماع الديني، الذي يقود في نهاية المطاف، كما هو الحال الراهن، إلى زيادة رقعة الدين والدعوات الدينية للتدخل في الشأن العام والسياسة باعتبار أن للدين دورا مهما يمكن أن يؤديه في السياسة. وهذا التناقض أدى إلى تقارب العلمانية مع الدكتاتورية تحت مسميات عديدة، يمكن لمسها بوضوح في تركيا وفي فرنسا فيما يخص الحجاب والتعددية الثقافية والاندماج، هذا إذا لم نعتد بالتجارب العربية العتيدة. 
عودة الدين ومعناها 
وبناء على المسألتين السابقتين، نعود لمناقشة "عودة الدين" وبأي معنى يعود؟ 
يلح عدد من الفرنسيين على النظر إلى هذه العودة إلى الدين من منظار العلمانية نفسها، فمن السهل استخلاص الأفكار وصياغة المفاهيم التي بها يتم التفكير فيما يحدث خارج عالمنا أو عالم تصوراتنا، وبناء عليه يمكن عزو هذه العودة ببساطة إلى "تنامي الأصولية"، غير أن هذه الترجمة الآتية من سياق فكري وديني مختلف لا تصلح للتفسير هنا، فحتى جيل كيبل رأى أن هذا المصطلح "تبسيطي يختزل الظاهرة ويحرفها، ويعيق معرفتنا بتلك الظاهرة في مجملها"، وكثيرا ما يكون العجز عن الفهم بسبب تلك النظارات القديمة والتقليدية التي ننظر بها إلى الأمور. 
فمثلا يرى باتريك ميشيل أن هناك استمرارا للعلمانية باعتبارها تقليص سلطةِ أو تأثيرِ المؤسسات الدينية على الفرد وعلى رؤية المجتمع الكبرى وعالمه الرمزي، وأنه لا يوجد ارتداد عنها، فهناك (ظهور جديد) للدين، والقضية هنا هي كيف نفسر هذا الوجود الديني المتعاظم والمؤثر بشكل كبير في فضاء السياسة والاجتماع الإنساني؟ 
هذه الاستمرارية للعلمانية يراها منبنية على ثلاثة ديناميكيات رئيسية هي: (الفردنة) بمعنى تأسيس علاقة فردية بين الإنسان والمعاني الدينية، والجديد في هذه العلاقة هو شرعية الفردنة وقبولها اجتماعيا، وهذه هي الصفة السائدة الآن للتدين في أوربا. والديناميكية الثانية: الابتعاد عن المؤسسات الدينية حيث تفتقد هذه المؤسسات احتكارها لتعريف ما هو الدين الصحيح، وهو ما حدث في أوربا؛ إذ لم تعد المؤسسة الدينية هي الجهة التي تقول ما هي الكاثوليكية الصحيحة أو البروتستانتية الصحيحة. أما الديناميكية الثالثة فهي استهلاكية العلاقة بالدين؛ أي إدخال بعد استهلاكي للدين. 
غير أن ما يلاحظ على هذه الرؤية أنها تعزل مفهوم الدين نفسه، لتقتصر على الممارسات فقط القابلة للتوصيف، وكذلك هذه الرؤية محكومة بشكل خاص بالكاثوليكية، ولو قلنا إنها تنطبق بشكل عام على الشأن الديني في أوربا، فإن عالم الإسلام مختلف تماما عن ذلك، فالعلاقة بالدين في الأساس هي علاقة فردية لها أبعادها الاجتماعية الظاهرة أيضا وليست هي علاقة بمؤسسة، وتلك العلاقة المركبة هي أساس التكليف، ولا يمكن الحديث عن مؤسسة دينية بالمعنى الحديث إلا مع الدولة الحديثة التي جهدت في إيجاد مؤسسة رسمية للإمساك بالدين والتحكم بمنطوقه عبر المؤسسة تلك؛ ما نتج عنه مشكلات كبيرة، فالابتعاد عن المؤسسة هو في حقيقته ابتعاد عن الدولة نفسها، حيث يتم منح الشرعية وتعريفها بمقدار العداء للدولة العلمانية المستبدة!. 
أما استهلاكية الدين وأن اللجوء إليه يكون فقط لجوءا لممارسة (مريحة) فهذا توصيف لتلك "الصرعات" الدينية السائدة في الغرب، ويتم التفكير بها بمنطق المجتمع الرأسمالي وتحقيق الرفاه، فالعلمنة لا تتم في عقول الممارسين بقدر ما تتم في عقول المحللين للظاهرة من العلمانيين ومن هنا نفهم كيف يقول باتريك إن الحرية الفردية التي أتاحت ارتداء الحجاب هي من مبادئ الجمهورية، وليست من مبادئ الإسلام، ويرى أن الحجاب في فرنسا إحدى وسائل الفردنة إذ عن طريق الحجاب والعودة إليه غالبا ما تكون البنت أكثر استقلالية عن أسرتها!!. ما يعني أننا هنا أمام مقاربة لعودة الدين بنظارة علمانية من جديد. وفي هذا السياق نفسه يندرج ما يطرحه أوليفيه روا حين يعتبر صيغة ما بعد الإسلام السياسي التي طرحها ليست أفول الدين، وإنما صيغة من علمنة الفضاء الذي تنم فيه الممارسات الدينية، لنجد أن القاعدة وهجماتها لديه هي احتجاج على العولمة. 
باتريك ميشيل يرى أيضا أن تفسير عودة الدين يجب أن يتصل بنهاية الاستقطاب بين الشيوعية والرأسمالية كنظم قيم وليس كدول فقط؛ وهو ما أدى إلى إعادة طرح فكرة الدين من جديد. ومع إعادة تشكيل العالم فإن هناك مشكلة وأزمة في الهوية، فقد أدت خلخلة الهوية لنوع من الحماس الديني؛ لأن الأحاسيس والمشاعر اتجهت لأهم الموارد الرمزية التي ما تزال باقية والتي تعطي معنى للعالم: وهي الأديان بحسب رؤيته. لكن في المقابل: من طبيعة الأديان الكبرى أنها تقدم موردا رمزيا وتحاول أن تجيب على الأسئلة الكبرى. والعلاقة مع الأديان السماوية ليست طارئة، بل تلك الأيديولوجيات هي الحادثة، وبعد الاستقطاب تركت فراغا بفقدانها لمصداقيتها، وتم الرجوع من قبل بعض النخب إلى الدين، ولا أعتقد "بالعودة" إلى الدين على المعنى الذي يشير إليه باتريك على مستوى عامة الأفراد، فضلا عن أن العودة في المظاهر يدخلها جملة من العوامل مما لا شأن للاستقطاب به. هذا فضلا عن أنه حين يتم الحديث عن "عودة الدين" فهي مقولة نشأت ردا على مقولة كانت سائدة حول "أفول الدين"، والقول بشكل جديد للدين، وليس بعودة، هو التفاف على الرسالة الأساسية التي جاءت لأجلها العلمانية وهي إقصاء الدين عن الشأن العام. 

 

 

19-12-2005 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=244