/

 

 

الاجتماع الإسلامي: اجتماع أمة، أم اجتماع ملة؟

أنـور أبـــو طه

هل الاجتماع السياسي الإسلامي هو اجتماع ملي عقدي خالص، لايتضمن من هم على غير ملته وعقيدته؟. أم هو اجتماع عموم من ارتضى العيش طواعية في جنباته، وفي ظل قانونه العام الناظم لعلاقات من فيه من عموم الأفراد والجماعات؛ أياً كان دينها أو عرقها أو لونها؟

قد يبدو هذا السؤال للبعض مثيراً لإشكالية ليست ذات موضوع، وذلك بلحاظ ما عليه وقائع الاجتماع الإسلامي التاريخي عبر عصوره المختلفة من تواتر أخبار اجتماع وتعايش كافة الجماعات الملية والأثنية داخل هذا الاجتماع التاريخي ونظمه السياسية الحاكمة له.

ولا أعترض على ما أُشكل عند البعض، بل أوافقهم على ما تحصل لديهم من وعي تاريخي صائب بماضي الاجتماع السياسي الإسلامي.

ولكن السؤال الذي طرحناه كإشكالية؛ يتمتع في نظرنا بمشروعية النظر المعرفي والسوسيولوجي راهناً لاعتبارات عدة من أهمها:

أولاً: ظهور صيغ وأطوار حديثة من الاجتماع البشري تقوم على خلاف ما تعارفت عليه المجتمعات قديماً، وأقصد بذلك على وجه التحديد نظم الليبرالية العلمانية كما تجلت في الغرب المعاصر.

ولبيان أثر التحوُّل التاريخي في التنظيم السياسي والاجتماعي نكتفي بمقابلات سريعة بين ما "اشتُهر به" كلا النظامين الليبرالي والإسلامي. فنجد الفصل بين السلطتين الروحية (الدينية) والزمنية مقابل تأسيس الثانية على الأولى، والعقد الاجتماعي مقابل الميثاق الإلهي، ووطن الجمهور مقابل ديار الإسلام، والرؤية الفردويّة مقابل التصور العضوي للمجتمع، والانتخاب الحر مقابل البيعة الشرعية، والأكثرية مقابل الإجماع، والمواطن الصالح (القانوني) مقابل الإنسان الخيِّر، وحقوق الإنسان مقابل واجبات المكلَّف، وقضايا الحرية مقابل فروض الطاعة.... إلى ما هنالك من متقابلات في فلسفة الاجتماع أو آلياته الإجرائية والتنظيمية.

يأتي سؤالنا/ الإشكالية في ضوء هذا التحوُّل التاريخي، وفي متن التساؤل الأكبر المدفوع بثقل هذا التحوُّل وتحدياته حول طبيعة الاجتماع السياسي الإسلامي الذي ينشده المسلمون في عالم اليوم؟



ثانيا: ظهور خطاب عقائدي "إسلامي" متطرف داخل بعض حركات الإحياء الإسلامي في نظرته إلى ما تجب أن تكون عليه صورة وحال غير المسلمين في بلدان العالم الإسلامي من كتابيين (يهود ونصارى ومجوس) أو وضعيين (علمانيين وملحدين).

ومبنى هذا الخطاب قائم على قضايا الاعتقاد لا مقتضي الاجتماع البشري أو التشريع الإسلامي. ذلك أن الناس لديه صنفان لا يتصور لصنف ثالث أو رابع... بينهما مقام، وتدور العلاقة بهذين الصنفين بين ((موالاة واجبة: هي موالاة أهل الإيمان بحبهم ومعاونتهم ومناصرتهم والتقرب منهم. ومعاداة واجبة: هي معاداة أهل الكفر والفسوق بمجانبتهم وهجرهم وزجرهم ومقاتلة الكافرين والإغلاض عليهم وبغضهم وبغض كفرهم وضلالهم وتحذير المسلمين منهم))(1). وبذلك تتميز لدى صاحب هذا الخطاب الصفوف؛ فيصير المؤمنون في جانب والكافرون في جانب(2) .

وهذا التصور على ما فيه من خَلْط سرعان ما يصطدم بواقع التشريع القرآني والحديثي الذي ينظِّم وجود غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، فيلجأ إلى أحكام وتصورات تحتفظ بشحنة المعاداة المتوترة، ويقيم أحكاما لهم أقرب ما تكون إلى "مساكنة اللدود" منها إلى "تجاور الودود". وعلى أهل الذمة والحالة هذه إخفاء شعار دينهم ومنكرات دينهم، وتأكيد بل ووجوب الغَيَار والتميُّز عن المسلمين في اللباس والشعور (جمع شعر) والمركب، و ((ترك إكرامهم وإلزامهم الصَّغَار الذي شرعه الله تعالى))(3) .

ويصر هذا الخطاب على اعتماد الهوية الدينية في تقسيم السكان، رافضا اعتماد مبدأ المواطنة الذي قامت عليه ((الدساتير العلمانية الكافرة)) قائلا: ((ولا شك في كفر من قال بهذا القول لإنكاره المعلوم من الدين بالضرورة الثابت بالكتاب والسنة والإجماع))(4) ? وهذا المعلوم هو ما فهمه من أحكام أهل الذمة.



ثالثا: إصرار بعض الفقهاء والباحثين المسلمين على التمسك بالفقه السياسي الموروث؛ الخاص بأهل الذمة جملةًً وتفصيلاًً دون تفريق بين الأحكام القرآنية الثابتة وبين اجتهادات الفقهاء السابقين أو أئمة المسلمين وحكامهم.

وهذا النهج يُسقط في موقفه هذا ما آل إليه الواقع العربي والدولي من تغيرات وتحولات تحتاج بدورها إلى اجتهاد جديد يحافظ على المشروطية التاريخية للواقع الراهن بعيداًً عما كان يَشْرُط واقع الاجتماع الإسلامي القديم من عوامل ثقافية واجتماعية وسياسية، كما أنه نهج يُهدر جوهر النص الثابت المؤسسة أحكامه على تفاعله مع الوقائع المتجددة بحسب حال الأفراد والجماعات أو مجالهم المحيط بهم، أو طبيعة العصر بما هي طبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها المجتمعات رهناًً(5) .

فما زال البعض يعتمد الشروط العُمرية (نسبة إلى عمر بن الخطاب)، التي إن صحَّت فليست إلا اجتهاد خاص بصحابي جليل، ونقول إن صحَّت لأن هناك من تحدث في صحة إسنادها. وأما مَن اعتمدها فقد اعتمدها لشهرتها في كتب العلم لا لصحة سندها(6) . ولكن وبالرغم من ذلك نجد من يقول: ((أنها متفقة مع الخطوط العامة للفقه الإسلامي في موقفه من أهل الذمة)) مع اعترافه أنها ((أكثر تشددا من غيرها من العقود التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من أعوانه وأمرائه الخلفاء لكثير من أهل الذمة))(7) .



رابعا: تخوّف بعض الكتابيين "والاقليات" الدينية الاخرى ، وتيارات علمانية مختلفة من الموقف الاسلامي من "الأقليات" الدينية داخل المجتمعات الإسلامية، وتكوّن صورة سلبية عن هذا الموقف بفعل بعض الأحداث المتفرقة التي تقع في البلاد العربية والإسلامية، وبعض تصريحات قادة إسلاميين متطرفين. وقيام جهات غربية استغلال هذا التخوف ، وتضخيمه متوسلين بذلك الإعلام الغربي، ومراكز القوى داخل بعض البلدان لسن قوانين الحماية وفرض العقوبات، مع تحريض جمعيات حقوق الإنسان والرأي العام. بل قد يصل الأمر إلى طلب التدخل العسكري الأجنبي .

ونتيجة لهذا الاستغلال الغربي تصبح دعوى الحفاظ على القيم الدينية والأخلاقية تآمراًً على النظام العلماني، وتمسك البعض بخصوصيته الايمانية اعتداء على حقوق "الاقليات" والتمسك بالهوية حرباًً على العَصْرَنية والحداثة.



وبعد:

إن جملة الاعتبارات المتقدمة هي التي دفعتنا إلى إعادة النظر في طبيعة الاجتماع السياسي الإسلامي إن كان اجتماعاًً لأمة أم اجتماعاًً لملة؟

إن استئناف الأمة لحضارتها ودورها في التاريخ، والسعي للتواصل بالرسالة الإسلامية مع العالمين لا يمكن أن يتم بإعادة إنتاج المنظومة التقليدية كما هي عليه، بل بتأسيس جديد يتنزل بالنص المقدس ضمن الشرط التاريخي والموضوعي الذي يتضمن الوعي بما وصلت إليه المجتمعات البشرية من تقدم وقدرة فائقة في التنظيم وحل النزاعات، وتأليف المختلف، وتسيير شؤونها كافة.

واستقرار الاجتماع الإسلامي وتحقيق العدالة والمساواة المقررة فيه شرعاً لا تتم بالقبول الخَجِل أو المتردد للمخالفين لنا دينياً أو إثنياً، أو بالبحث عن القيود، والمزيد من الكوابح التي ستزيد من الفجوات بين أبناء الأمة الواحدة ((أمة المؤمنين)). إنها قيود ستساعد البعض على التحرر من المسؤولية الاجتماعية، وتصرفه عن الاشتغال بالشأن العام، ليصبح الداخل جُزُرَاً معزولة، وهشاً وضعيفاً أمام أي تحدٍ خارجي. هذا إن لم يكن قابلاً للانفجار في وجه فرقائه ونزاعاتهم ومصالحهم المختلفة.



فرضيتنا المقررة في إجابتنا على سؤالنا / الإشكالية هي:

إن الاجتماع السياسي الإسلامي هو اجتماع الأمة الإسلامية حضارياً لا دينياً. أي أنه اجتماع كل من ارتضى طواعية من الأفراد والجماعات الانتظام ضمن هذا الاجتماع بغض النظر عن أصوله الإثنية أو الدينية أو الفكرية.

إنه اجتماع الوحدة من خلال التعدد، والمشترك من خلال التنوع، ولا يقر بالتعددية ويعترف بها فحسب؛ بل يقوم على حمايتها والحيلولة دون الاعتداء عليها. اختلاف العقائد والآراء فيه مؤسس على مشروعية مقدسة من قبل الله، وليست عطاءً أو مِنّةً من أحد، وعلاقات التراحم والوصل والإحسان مع المخالفين ليست تسامحاً فردياً، بل واجبات شرعية.

الدولة في هذا الاجتماع دولة رعاية، رعاية لكل مواطنيها، وهي بذلك ليست كليَّةُ القُدرة متسلطة، لأن القُدرة والسلطة تتوزع في الاجتماع الإسلامي على جميع الفئات والطوائف والجماعات، سواء كانت قدرة سياسية تتمظهر في التمثيل السياسي والمسؤولية الاجتماعية، أو قدرة اقتصادية تتمظهر في حرية التملك والتصرف مع توزيع عادل للثروة من قبل الدولة.

إنه اجتماع لا يُستبعد من المشاركة في بناءه أحد بدعوى دينية أو ثقافية أو أثنية، إنه لكل من يخدم صالحه العام ويمتلك الأهلية لذلك.

إنه اجتماع وفق القانون الذي ينظم علاقات الكل بالكل وفق أسس تشاركية تشاورية دونما تهميش أو إقصاء، مع حفظ الخصوصية التشريعية الداخلية التي تقتضيها الديانة أوالمذهب.

إن صورة الاجتماع السياسي الإسلامي التي قدمناها مكثفة موجزة، وركزنا من خلالها على بيان ماعليه "الأقليات" الدينية فيه من أهل الذمة(8) من كتابيين وغيرهم؛ يتضمنها الإسلام في وحيه وشرعه ونهجه.

وأما مصاديق هذا التصور السابق فسنعرض لأبرز ركائزه دون الاستغراق فيما يتضمنه من تفريعات وموضوعات إلا لماماً وعلى سبيل الاستئناس والاستشهاد، آملين أن نوفق في بيان تفصيلاتها في دراسات لاحقة.



أولا: الوحدة الانسانية:

الوحدة الانسانية كرابطة تأسيسية مركزية لعلاقات بني الانسان فيما بينهم، وهي رابطة غير مهملة في الوحي الاسلامي، بل رابطة معتبرة جاء ذكرها في أكثر من موطن في القرآن الكريم والسنة النبوية.

في وصف عملية الخلق الالهي للانسان يشير القرآن إلى أصل الخلق الواحد، والذي يُطْلَق عليه بـ ((نفسٍ واحدة))، حيث يقول تعالى{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذين تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً} (النساء،1). ويقول عز وجل {وهو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها} (الاعراف، 189). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم "أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب". ووحدة الخلق من النفس الواحدة هي مصدر الكثرة والتنوع (رجالاً كثيراً ونساء) ولكنها كثرة لايلزم لكثرتها صراع وتناحر، بل تستوجب قرآنياً تعارف وتآلف، وهذا هو المعنى القرآني الأبرز في ذكر الوحدة فالكثرة فالوحدة، فهو بيان قرآني لا للأخبار فحسب، بل لدفع الانسان أن يألف أخيه الانسان ويتواصل معه بالتعرف إليه والتواصى على منهج الخالق الحق، وفي هذا يقول القرآن {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن اكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات، 13).

إن ذكرنا لهذه الرابطة الانسانية كركيزة من ركائز تقبُّل غير المسلمين داخل الاجتماع الإسلامي هي لبيان خطأ من يحصر قاعدة الاجتماع على العقيدة دون غيرها من الأواصر والروابط. فقد شاع الحديث داخل بعض حركات الإحياء الاسلامي خصوصاً عن آصرة العقيدة ورابطة الدين كرابطة وحيدة تجمع بين الناس، ووفقها تُبنى المجتمعات، وعلى أساسها يتم التناصر والولاء، والحب والبغض، والمنح والعطاء، وسائر مناشط الحياة.

وتم في هذا السياق تسفية كل الروابط الأخرى والحط من قدرها، من قومية، أو وطنية، أو مواطنية (9) ? أو اجتماعية (أسرية)، أو حزبية.... إلى ما هناك من روابط. وتم نعتها بأنها روابط غير اسلامية ولا وزن ولا قيمة لها في الاسلام، وأنها روابط "أرضية جاهلية" كما لدى سيد قطب، بل روابط "حيوانية" كما نعتها حزب التحرير الاسلامي(10) . 

ويتم الاستشهاد في سياق الدفاع عن وجهة النظر هذه بحوادث من السيرة النبوية والقصص القرآني، كحادثة سعد بن أبي وقاص مع أمه، وموقف أبو بكر الصديق (رض) من ابنه حين أَبلغه انه لو كان لقيه في المعركة لقتله، ومثال نوح مع ابنه، وزوجة فرعون مع فرعون، ولوط من زوجته، وابراهيم من أبيه، وغيرها من الحوادث والوقائع.

ولا يخفى أن هذه الحوادث تَرِدُ في معرض علاقة أهل الاسلام مع أحد صنفين أحدهما: محارب، والآخر: صادٌ عن سبيل الله متربص بالمؤمنين، وهما بذلك ليسا ممن استُأْمنوا أو دخلوا في ذمة المسلمين فأصبحوا ((أمة من المؤمنين)). ولا تتأسس العلاقة الطبيعية لأهل الاسلام بغير المسلمين داخل الاجتماع الإسلامي على صورة هذه الأمثلة. ثم إن رابطة الوحدة الانسانية المفضية إلى التعارف والتعايش المشترك لا تناظر علاقات الصراع التي تتكشَّف من خلال الأمثلة السابقة.

إن هذا الخطاب ينفي كل وشيجة أخرى غير وشيجة الملة الواحدة والعقيدة الواحدة، وهو بذلك ينتج شخصا يحمل بذور العداء دون تفريق بين الفئات إن كانت محاربة متربصة بالمؤمنين، أو مسالمة مستأمنة. ودون تفريق بين الحالات إن كانت حالات صراع، أم منافسة، أم موادعة، أم مسالمة، أم تعايش. ويصبح هذا الخطاب دائر بين قطبي الاسلام والكفر. يضع المسلم في حالة عداء واستعلاء وشعور بالطهرانية، ويتحرك بروح الحَكَم والقاضي لا الداعية والرحمة المهداة للعالمين.



ثالثا: حرية العقيدة:

كفل الاسلام حرية الاعتقاد لغير المسلمين داخل المجتمع الاسلامي، وحال دون اكراههم على غير ما يعتقدون وقرر ذلك قرآنا يتعبد بتلاوته حيث قال {لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي...} (البقرة: 256). كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرشداً أن الاعتقاد مسألة تقبل ذاتي طوعي لا يمكن أن تفرض بالقوة أو الاكراه بل بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال الأحسن؛ قال تعالى: {إنما أنت مذكِّر، لست عليهم بمسيطر}، وقال تعالى: {وما عليك إلا البلاغ المبين} ، وقال تعالى ‎: {أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، وقال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.

وهذا الآدب القرآني هو ما سار عليه رسول الله (ص) في سياساته مع غير المسلمين ففي كتابه إلى أهل اليمن ((إنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها وعليه الجزية)).

وحرية الاعتقاد كانت سَنَن من بعده من الخلفاء الراشدين إذ جاء فيما كتبه عمر بن الخطاب (رض) إلى نصارى بني تغلب ((.... أن لا يكرهوا على دين غير دينهم)).

وحرية العقيدة التي كفلها الاسلام للمخالفين ليست قصراً على الكتابيين فحسب بل تشمل الوضعيين أيضاً من علمانيين وملحدين، وهو ما تفيده كافة الأدلة الشرعية والسير التاريخية لدولة المدينة والخلافة الراشدة وعموم التاريخ الاسلامي(11). وهو الأمر الذي يؤسس لحرية الرأي والاجتماع والتنظيم في العصر الراهن. 



ثالثا: سُننية الاختلاف:هأهل أهل 

تتأسس سُننية الاختلاف في الاسلام على ما تقدم من جَعْلِ الكثرة بعد الخلق من النفس الواحدة، وحرية الاعتقاد. اضافة إلى ذلك ما أفاض فيه القرآن من تصوير للاختلاف ومظاهره ودلالاته.

فالاختلاف ظاهرة كونية بارزة عيناً وعلماً بين كل مظاهر هذا الكون وما فيه، يوحده نسيج القدرة والخلق الالهي، وهو اختلاف دال على قدرة الله المطلقة في الخلق والانشاء كيفما يشاء.

ففي اختلاف ألوان الثمار وأكلها والشراب ومذاقاته، والناس وألوانهم وألسنتهم، والدواب والأنعام في صفاتها، واختلاف الليل والنهار، عظيم الدلالة على قدرة الله وربوبيته. قال تعالى {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جُدَد بيض وحُمْر مختلف ألوانها، وغرابيْب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف الوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيز غفور}.

والاختلاف في الكون وما فيه ومَن فيه لا يقتصر على ما هو قهري في مجال الخلق والتكوين وما لا كسب للعباد فيه، بل يشمل تفكير الناس ومناهجهم وعقائدهم، وما هو اختياري في مجال الارادة البشرية من الايمان والكفر، والاتباع والإعراض، وكل ذلك واقع بارادة الله وقدرته وعلمه، وقوع السنن التي لا تتبدل ولا تتغيَّر إلى أن يرثَ الأرض ومن عليها، وليس لأحد الزعم أنه قادر على رفع هذا الاختلاف أو انهاءه مهما بلغ من العلم والقوة. وليس ذلك لأنه سنة فحسب، بل لأنها سنة معقولة مدرَكَة من قِبَل من يَعقل التدبير الرباني وحكمته فيمن خلق، فالخلق متفاوتون في مداركهم ومواهبهم، وبتفاوتهم هذا تختلف أفكارهم وأحكامهم، كما تتعدد الاقيسة والموازين والمناهج التي يتوسلون بها النظر إلى الموضوعات. كما أن الموضوعات تتسم بالغموض في ذاتها وتتكشَّف الحقائق جَلية بمقدار مازال عنها من الغموض، وبقدر وضوح وغموض الموضوع محل التفكُّر والتدبُّر يختلف الحكم والتقدير والرأي ويقع الاختلاف.

واضافة لما تقدم فإن تقليد البعض للسابقين ومحاكاتهم دون إعمال العقل أو الدليل يورث التعصب للمورث، ويضفي عليه قداسة فيغدو ما يتوارثه البعض عمَّن سبقوهم من آبائهم وكبرائهم دليل صحة وبرهان وصواب، يصطدم بِمَن نَهَج منهج النظر والتعقُّل فيقع الاختلاف.

وقد لا يكون سبب الاختلاف تعدد الافهام أو اختلاف المدارك او تفاوت النظر في الأمور، بل قد يُعرف الحق في ذاته أنه الحق ويتم الاعراض عنه أو تناسيه ويتم اتباع الهوى {أفرأيت من اتخذ الهه هواه}، وإذا عُلِمَ أن الهوى بخلاف الهُدى علماً وسلوكاً، عرفنا سبباً آخر يُفضي إلى الخلاف الذي لايمكن رفعه.

يؤكد ما تقدم أن الاختلاف ظاهرة كونية وطابع للخلق البشري فيما يؤمن به ويعتقد. وأنه سنة الهية إلى يوم القيامة، وهو قضاء الله وقدره بغض النظر عن حِكَمِهِ الجليلة، سواء لابتلاء البشر بعضهم ببعض وبيان الضال من المهتد، ومن يتبع الرسُل ممن ينقلب على عَقِبَيْه، أو لسنة التدافع بين الناس والأمم والشعوب كى لا تفسد الأرض، أو حكم أخرى لا نعلمها.

قال تعالى:{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن يضل من يشاء ويهدى من يشاء ولتسألن عما كنتم تعلمون}.

وقال تعالى: {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ليبلوكم فيما أتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعاًً، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}.

وقال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك لأملئن جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين}.

وأمضى الله بذلك التعدد وشاء الاختلاف، أي في الكفر والايمان، وافتراق الناس في الأديان والاخلاق والافعال، وبيَّن أن الأصل هو الاختلاف، فلا يأتين بعد ذلك من يود أن يؤسس اجتماع ملي خالص إلا إذا استطاع رفع الاختلاف الذي أخبر الله تعالى أنه سيبينه للناس يوم القيامة(12) .

بل أن الاختلاف واقع بين أهل الملة الواحدة من أهل الاسلام وليس أدل على ذلك من تعدد المذاهب إن في الاعتقاد أو الفقه أو السلوك، بل إن القرآن صرَّح بأن مَن أَورثهم الكتاب واصطفاهم من عباده مختلفين في أَحوالهم ومقاماتهم قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات}.

بل إن معرفة الحق في الاختلاف أمر عزيز يستوجب دعاءً خالصاً وقربىً خاصة لله كما كان يفعل رسول الله (ص) عند قيامه من الليل لصلاة وفق ما جاء في حديث البخاري ومسلم ((اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق باذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).

رابعا: التعدد الديني وأهل الذمة:

بعدما بينَّا سننية الاختلاف بشكل عام، فإن الاختلاف في الاجتماع الإسلامي يَؤخذ صوراً شتى، أهمها الاختلاف العقائدي المفضي إلى التعدد الديني الملي.

والتعدد الديني أقر الله عز وجل وجوده، وبقي حقيقة واقعية إلى يومنا هذا، وقد ذكر القرآن أهل الأديان في أكثر من موطن مَن القرآن الكريم فقال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} (البقرة: 62). {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينم يوم القيامة، إن الله على كل شيء شهيد} (الحج:17). وقد ذكرت الآيات ستة فئات من أهل العقائد؛ الرأي الراجح جواز اشتمال الاجتماع الإسلامي لهم، مع حماية كافة حقوقهم سواء كانوا كتابيين أو مشركين، ويقاس عليهم في عصرنا الحالي أصحاب المذاهب العلمانية والإلحادية وغيرهم(13) .

كما لا يخفى ما احتوته السنة النبوية من ترشيد للمسلمين في بيان حسن معاملتهم لأهل الكتاب ومَن في حكمهم وحفظ أموالهم وأعراضهم وأماكن عبادتهم كما لا ننسي ما أقره القرآن الكريم من جواز مآكلة أهل الكتاب والزواج من فتياتهم، الأمر الذي يعزز شبكة العلاقات الاجتماعية بين المسلمين والكتابيين وادماجهم دمجاً عضواً في النسيج العام اجتماعياً واقتصادياً.

اضافة لذلك فقد ذهب أكثر من فقيه اسلامي إلى جواز توليهم للمناصب المختلفة داخل اجهزة الدولة الاسلامية، ومشاركتهم في المجالس النيابية، وحق التنظيم والترشيح والانتخاب والتمثيل السياسي (14) .

وأما مسألتي الصَّغار والجزية اللتان وردتا في الآية القرآنية: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاعزون}. فهما مسألتين أسيئ فهمهما، والصواب في الصَّغار أنه الخضوع لأحكام الاسلام في مسائل الحدود التي لا يختلف أي دين عن آخر بحرمة ارتكابها، مثل القتل أو الزنى وغيرهما، وجاء اللفظ على هذا النحو لأن الحالة هي حالة مقاتلة وتمرُّد على مجتمع المسلمين، فوجب الرجوع والحالة هذه إلى الانتظام في سلك الاجتماع العام. كما أن الآية لا تتحدث عن صنف أهل الكتاب فحسب بل عن أَصناف ثلاثة منهم الكافرون المحاربون، والمسلمون ممن لم يحرم ما حرم الله ورسوله، وأهل الكتاب ممن تمردوا على الاجتماع العام. ومفاد ذلك: أن أصل القتال هو بروز آخرين بقتال المسلمين كما يقول تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا}. وآية الصغار هي شرح لعلاقة استثنائية مع هذه الاصناف ومنهم أهل الكتاب وإلا فإن قانون العلاقة بين المسلمين ومن يعيشون واياهم في المجتمع الواحد هي القسط والعدل وليست المقاتلة، قال تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم إن الله يحب المقسطين، انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم، أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}. (الممتحنة، 8-9).

وأما الجزية فشأن متعلق بامام المسلمين يرجع له تقديرها أو تغيير اسمها إلى صدقة كما فعل عمر ابن الخطاب، أو ضريبة كما سماها الشافعي، أو زكاة كما أشار بذلك الشيخ العلامة محمد أبو زهرة، وهي احدى صور العلاقات المالية بين الدولة وبين مواطنيها المباشرة وغير المباشرة (15) .

وختاماً:

أشير الى أن اقامة اجتماع أخلاقي قيمي يحافظ على الانسان المؤمن مسلماً كان او مسيحياً وعلى الاديان بجوهرا القيمي الانساني لا يستقيم والدعوة الى النظام الليبرالي "المعولم" الذي عصفت به أمواج المضاربة، وطغت عليه امبراطوريات المال، وتلاعبت به غوايات الاستهلاك الذي يغلِّب الطلبات الفردية الاتَّجارية على حساب المجموع وعلى الرغبة في المساواة وعدالة التوزيع؟

هل يمكن للأديان ان تعيش في مجتمع ليبرالي يتخوف من القيم، وينصِّب عقل المنفعة والفائدة والحياة الخاصة بديلاً عن الايمان وقيم الخير والحق والعلاقات الانسانية؟ 

إن الليبرالية العلمانية "المعولمة" ليست تحريراً للدولة من سلطان الدين بل فصلاً للحياة عن الدين، أنها تحريراً لكافة الانتماءات المجتمعية فضلاً عن العقاندية، وهي دعوة إلى الفردية التحررية التي تفضي إلى التحلُّل من كل القيم الدينية والانسانية تكريساً للاستهلال الرخيص والاتِّجار بكل شيء ولو كان الانسان نفسه.

إن أهل الكتب من الديانات السماوية كافة مدعوة إلى التواصل والتعايش والتعاضد ضد كل قيم المادية الجارفة التي تنزع عن الوجود كل معنى روحي وانساني. وتحل الشهوة والقوة محل كل مقدس ونبيل وضد كل مشروع استعماري استيطاني كالمشروع الصهيوني المهدد لكل الشرائع والحقوق. 

{وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل إليكم، والهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون} (العنكبوت: 46).

صدق الله العظيم



الهوامش

(1)أيمن الظواهري، الحصاد المر، الإخوان المسلمين في ستين عاماًً (د.م: د. ن، د.ت)، ص 14. والكاتب هو أمير حركة الجهاد المصرية قبل إعلان استقالته في فبراير 2000م.

(2)المصدر نفسه.

(3)عبد القادر عبد العزيز، الجامع في طلب العلم الشريف (د . م: د. ن، ط2، ذو الحجة 1415 هـ)، الجزء الثاني، ص637. والمؤلف هو مفتي حركة الجهاد المصرية قبل أن يختلف مع أميرها أيمن الظواهري، ليصبح فيما بعد مرجعاً للفتوى لعدة جماعات إسلامية تتوسَّل العنف سبيلا لتغيير الحكومات كالجماعة الإسلامية في الجزائر وغيرها من الجماعات.

(4)المصدر نفسه، ص ص 941-942. ويصرح بعدم جواز تولي الذميين للوظائف العامة في دار الإسلام، ووجوب دفع الجزية، ورفض السماح لهم ببناء الكنائس وإلزامهم بالغيار.

(5)أنظر في ضرورة استحضار الواقع والوعي به في استخراج الأحكام الشرعية مقالتنا ((نحو رؤية منهجية في "فقه الواقع "،الملتقى: العدد ".."))، أكتوبر (تشرين الأول) 1999م.

(6)أنظر مقدمة الشيخ صبحي الصالح في تعليقه على كتاب ابن قيم الجوزية، أحكام أهل الذمة، وابن القيم نفسه يقبلها لشهرتها فيقول "وشهرة هذه الشروط غني عن إسنادها".

(7)انظر: محمد إبراهيم مبروك، مواجهة المواجهة: المناقشة الإسلامية للأفكار العلمانية وكتب المواجهة (القاهرة: دار ثابت، 1994م). والكلام لكمال السعيد حبيب. ويذكر أن التيار السلفي هو أكثر التيارات أخذاًً والتزاماًً بهذه الشروط العمرية.

(8)لا يرادف مصطلح ((أهل الذمة)) اليهود والنصارى، بل هو يشمل كل من لا يدين بدين الإسلام داخل الاجتماع الإسلامي. أما اليهود والنصارى فنطلق عليهم الكتابيين أو ((اهل الكتاب)) كما سماهم القرآن.

(9)نفرق هنا بين الوطنية بما هي شعور وعاطفة وحب وولاء، والمواطنية بما هي تأسيس قانوني لرابطة الاجتماع بين الدولة والمجتمع، فالمواطنة واجب وعطاء ومؤسسة على الرابطة الخلُقية، في حين المواطنية حقوق مؤسسة على الرابطة القانونية التعاقديّة.

(10)قد نتفهم السياق التاريخي الذي برزت فيه هذه المفاهيم، وذلك في معرض دفاعها عن الاسلام ورابطته العقائدية في وجه التيارات الوطنية والقومية المتطرفة التي استبْدلَت رابطة الدين بالروابط الوطنية القومية. وفي وجه التحديات التي فرضتها الدول الوطنية المستقلة حديثاً والتي لم تأْبَه لشأن الدين في لحكم، إلا أن هذا التفهم التاريخي لا يمكن قبوله أو تبريره معرفياً عند التفكير بتأسيس اجتماع اسلامي مستقر، ولمخالفته -في ظننا- التشريع الاسلامي وفلسفته.

(11)في الرجوع إلى الراجح في هذا القول، وإلى أن مفهوم أهل الذمة يسعهم جميعا، انظر: محمد خير هيكل،الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (بيروت: دار البيارق، ط1، 1993)? المجلد 3، ص ص1456-1464. ((أهل الذمة: هم المواطنون من غير المسلمين الذين يسكنون معهم في دار الاسلام، ويدفعون الجزية ويخضعون للأحكام الاسلامية في غير ما اقرُّوا عليه من أحكام العقائد والعبادات والزواج والطلاق والمطعومات والملبوسات))، هيكل، الجهاد...، مصدر سابق، المجلد 1، ص 207.

(12)وهذا لا يخالف أصل الدعوة إلى ما يعتقده المسلم أنه الحق، والسعي للوحدة و التآلف والتقريب، كما يتوهم البعض.

(13)انظر: هيكل، الجهاد...، مصدر سابق، مجلد 3، ص ص 1456-1464.

(14)انظر: يوسف القرضاوي، الأقليات الدينية والحل الاسلامي (سلسلة رسائل ترشيد الصحوة، 8؛ عمان: دار الفرقان للنشر والتوزيع"، ط1، 1996).ومحمد مصطفى الزجيلي، "الاسلام والذمة"، ضمن: معاملة غير المسلمين في الاسلام (عمان: المجمع الملكي لبحوث الحضارة الاسلامية (مؤسسة آل البيت)، 1989? الجزء الأول، ص ص 158-163.

(15)انظر في تفصيل ذلك، محمد خير هيكل، الجهاد...، مصدر سابق، المجلد 3، ص ص 1465-1470، وأطلق الامام الشافعي على الجزية اسم "ضريبة" انظر: الأم، المجلد الرابع، ص 200 فعلا عن هيكل، المصدر نفسه، ص 1452.
 


 

 

27-08-2005 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=250