/
الإسلام حين يُرى "ديناً إرهابياً"!
معتز الخطيب
منذ بضعة أشهر هاجم المحامي راؤول فيلدر شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، معتبرًا "الإسلام دين كراهية ودين قتل"، وذلك أثناء حلقة من برنامج حواري، وما كان من مايكل مايسون المذيع في شبكة "وستوود وان" أكبر شبكات الإذاعة الأميركية إلا أن أيده قائلاً: "هذه معلومات مثيرة لا يعرفها أحد تقريبا.. الجميع يعتقدون أن الإسلام دين مشروع ينادي بالحب والأخوة.. الحقيقة هي أن الإرهابيين يتبعون دينهم.. مباشرة من القرآن". وأضاف: "كل الدين الإسلامي يعلم الكراهية والإرهاب والقتل، وقد حان الوقت لأن يعلموا ذلك عن الإسلام.. القرآن يعبر بخمسين أسلوبا عن الكراهية والحقد والعداء والقتل، إنه موهوب للإرهاب".
الإسلام تحت الحصار في يوليو/تموز 2005 أدلى مايكل جرام، أحد مقدمي البرامج الحوارية في إذاعة "دبليو أم إيه إل" الأميركية، في أحد برامجه بتصريحات قال فيها: "الإسلام منظمة إرهابية" و"الإسلام في حرب مع أميركا" و"المشكلة ليست في التطرف.. الإسلام هو المشكلة" و"نحن في حرب مع منظمة إرهابية تدعى الإسلام". وفي شهر أغسطس/آب الحالي اعتبر إدوارد لوتواك مدير المركز القومي للدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن أنه "لا فرق بين الإسلام والإرهاب"، وذلك في مداخلة له في مؤتمر أقيم بمدينة نرفيك بشمال النرويج. وقال: "كلنا يتكلم عن الإرهاب على أنه عدونا الكبير، وعلينا أن نتذكر أن الإرهاب هو مجرد وسيلة، عدونا هو الإسلام، الإسلام العنيف". هذه كانت أخبارًا قريبة العهد مما تناولته وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة، وهي ليست جديدة ولا فريدة، فهنالك الكثير من أمثالها، والذاكرة لا تزال تذكر مواقف بعض قيادات اليمين الأميركي المتدين تجاه الإسلام. فقد رفض فرانكلين غراهام المستشار الديني للرئيس بوش وصف الإسلام بأنه "دين مسالم"، ووصف جيري فالويل الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه "إرهابي"، وقال بات روبرتسون: "إن الإرهابيين لا يحرفون الإسلام، إنهم يطبقون ما فيه"! تقول جويس ديفس "إن كلاّ من صناع القرار والمواطنين الأميركيين العاديين لديهم صورة مشوهة عن الإسلام"، و"إن غالبية الأميركيين يحملون أفكارًا مسبقة معادية للإسلام والمسلمين، لا تجد أي أساس معرفي لها". الأمر نفسه يؤكده أكبر أحمد عالم الأنثروبولوجيا الذي يرى أن الإسلام "تحت الحصار" وهو حصار تفرضه رؤى سياسية وإستراتيجية وإعلامية وإيديولوجيا عامة معادية للإسلام. ويعيب على دارسي الإسلام خاصة بعد 11 سبتمبر/أيلول نزعتهم الانتقائية في قراءة الإسلام، وخاصة في حقل الإعلام، ويقول: "إن خبراء الإعلام الجاهزين على الفور، كلهم مذنبون في مثل هذا الاستخدام الانتقائي للإسلام عمومًا وللقرآن الكريم لتدعيم وجهات نظرهم الجاهزة".
العلاقة بين الإسلام والإرهاب ومقابل ما ذكرناه، ثمة كتابات تناقش وتنتقد مساواة الإسلام بالإرهاب، مما يعني أن هناك جدلا قويًّا حول علاقة الإسلام بالإرهاب، لكن هذا الجدل يكاد يكون محصورًا في الأوساط الفكرية، أما الأوساط الشعبية والإعلامية بل والسياسية فتسودها صور نمطية سلبية عن الإسلام والمسلمين وعلاقتهما بالعنف. هذا الجدل الفكري لا يقتصر على المجال الأميركي، فقد نبه أمبرتو إيكو الإيطالي حين رسم "سيناريوهات قيامية للحرب الشاملة" إلى أنه "يمكن لاستفحال العمليات الإرهابية أن يبلغ درجة لا تُحتمل، تدفع بجموع الغربيين إلى اعتبار الإسلام برمته عدوًّا". وحين اعتبر جان بودريار الفيلسوف الفرنسي أن ما حدث في سبتمبر/أيلول رعب مقابل رعب، وليس أيديولوجيا إسلامية أو غيرها رد عليه الاقتصادي ألان مينك قائلاً: "ولفرط نزوعه إلى الشعوذة يمحو -بشارة من سحر عصاه- كل السجال حول الإسلام: لا وعد بالجنة، ولا فتوى، ولا تكفير"!. هذا السجال الفرنسي الذي ينهض مينك في الدفاع عنه يغدو مفهومًا مع استحضار قول أوليفيه روا: "غالبًا ما يُنسب العنف في بعض الضواحي الفرنسية إلى الإسلام، ولاسيما إذا ما تزامن مع أنشطة مناهضة للسامية، غير أن الحركات الإسلامية الفرنسية لم تشارك قط في أعمال العنف هذه، التي نفذها شبان مهمشون لا يمتون إلى الإسلام بصلة". وقد كتب باتريك دكليرك المحلل النفسي الفرنسي في صحيفة لموند 12/8/2004 واصفًا الإسلام، بأنه "نسق فكري يقوم على الحرب المقدسة، ومن ثم فإن الذبح وقطع الرؤوس ظاهرتان تندرجان في قلب الإسلام ذاته". وكتب داق هيربيورنسريد -وهو كاتب نرويجي- قائلاً: "رغم مرور ثلاثة أعوام على هجمات 11 سبتمبر/أيلول فإن نوبة الخوف من الإسلام تنتشر في أوروبا والولايات المتحدة انتشار النار في الهشيم، وأصبح ذكر الإسلام والمسلمين مقترنا إلى حد بعيد بمصطلحات من قبيل الإرهاب والعنف وما شاكلهما". ويضيف: "نحتاج إلى التخلص من الكثير من الأساطير إزاء المسلمين والتي يصوغها مع الأسف الأكاديميون وأصحاب الرأي النرويجيون". وفي وسط هذا الجدل هنالك تيار فكري وسياسي تنامى في الغرب وجاءت عمليات 11 سبتمبر/أيلول وما تلاها فمنحته بعض المصداقية والوقائع التي يدعم بها خطابه.
الإرهاب ونزعته الدينية وفي الحقيقة أن خطابات بن لادن والقاعدة تحديدًا، وكذلك بعض خطابات بوش الأولى، تحمل هذا التفسير كما تحوي الحجج التي تؤيده، فحملتهم موجهة ضد "الكفار"، والعالم منقسم إلى فسطاطين: مؤمنين وكافرين. وقاموس القاعدة وطقوسها وشعائرها مستمدة من القاموس الديني العقائدي بدءًا من الجهاد ضد "الإلحاد السوفياتي" وصولاً إلى "غزوتي نيويورك وواشنطن"، قابَلَ ذلك بعض تصريحات بوش وقاموسه الديني، بدءًا من الحملة الصليبية، إلى "الحرب العادلة" مرورًا بمعسكري: خير وشر، فضلاً عن الرسالية الشديدة في سياساته التي تستمد جذوتها من الله والمسيح الملهِم لبوش الابن. وهذه النزعة الدينية العقدية هي ما أشار إليه فرانسوا هايزبور وفريقه الفرنسي حين رأوا أنه حتى نهاية الثمانينيات كان الإرهاب سياسيَّ النزعة أساسًا، محددًا بذلك وسائله ومآربه، أي ما تستهدفه عملياته، وفق الأهداف السياسية الملموسة التي يسعى إليها. أما في التسعينيات ومع مجموعات مثل تنظيم بن لادن وآوم شنريكو فقد ظهرت عمليات إرهابية ذات نزعة ميتافيزيقية لا تنتمي إلى عالم البشر الذي نعيش فيه، بل إلى عالم يتمحور حول الجنة والنار ويفتقر لأي محدد سياسي بإمكانه وضع سقف لعمل هذه التنظيمات، وإن كان هؤلاء لا يغفلون السياق السياسي لنشأة هذا الإرهاب.
التفسير الديني وخلفياته الفكرية تفسير الإرهاب على أنه جزء من بنية الإسلام العقدية والتشريعية، وأنه تجسيد لما في القرآن الكريم، هو تفسير ديني بحت، ومن أبرز من تبناه إضافة إلى من سبق، الأب موريس يورمان، الذي يرى تفسير العنف بجذور عقدية وتشريعية ملازمة للدين الإسلامي، داعيًا إلى الاستئناس باللاهوت السلمي المسيحي وبتجربة الإصلاح البابوي لتسهيل اندماجهم في العالم الحديث. فشعار المسلمين هو السيف، والسلم لديهم مفهوم أخروي لا مكان له في الدنيا إلا بالنسبة للمسلمين أنفسهم "دار السلم في مقابل دار الحرب". إن التفسير الذي يلقي اللوم على الإسلام، يتمحور حول قضايا مركزية تشكل مستندًا له، بدءًا بآيات القرآن الكريم مرورًا بمفهوم الجهاد الذي تتم ترجمته بالحرب المقدسة، وصولاً إلى دار الحرب ودار السلام والموقف من غير المسلمين. وحين يُلقى اللوم على الإسلام، لا يبقى مجال للحديث عن مسلمين معتدلين وآخرين متطرفين، فكل مسلم ملوم وعنيف، وهناك اعتقاد بين الباحثين في شؤون الشرق الأوسط بأن الكثير من خبراء الإعلام وما يعرف بخبراء الشرق الأوسط المفعمين بالاستشراق، لا يزالون يجهلون الإسلام وواقع الحركات الإسلامية وتنوع الفكر الإسلامي. وهناك عدم تمييز كما يرى جون أسبوزيتو بين الحركات الإسلامية المعتدلة والمتطرفة، وهناك دعوة إلى وضع جميع الإسلاميين في جانب التطرف. وهذا ما يراه صمويل هنتنغتون الذي يساوي بين فاطمة المرنيسي وأسامة بن لادن في الموقف من الغرب، وكذلك برنارد لويس وجوديت ميللر التي لا ترى أي تمييز بين إسلام معتدل وآخر متطرف وأنه لا فائدة من أي حوار مع الإسلام والمسلمين. وقد عارض دانيال بايبس خلال لقاء في مركز التراث فكرة تقسيم الإسلاميين إلى معتدلين ومتطرفين، وأكد أن الجميع متطرف. ولا يمكن النظر إلى هذه الصورة التي تساوي بين العنف والإسلام بمعزل عن الصور النمطية الاستشراقية القابعة في متخيل الغرب عن الإسلام، ويرى "مونتغومري واط" أن أوروبا الوسيطية أفرزت ظاهرتين لا يمكن لأي باحث جاد أن يتعامل معهما بلا مبالاة. تتمثل الأولى في الصورة الشائهة تماما التي ولدتها أوروبا عن الإسلام، وتبرز الثانية في التجذر الهائل الذي تمكنت الأيديولوجيا الصليبية من ترسيخه في قلوب وعقول الأوروبيين عن الذات وعن الآخر. والصورة المسيحية عن الإسلام جاءت نتاج الأدبيات التي وضعها رجال الكنيسة، وعلماء الكلام، والمؤرخون، بالدرجة الأولى. وإحدى أبرز الصور النمطية عن الإسلام، التي بلورها الوعي أو المتخيل المسيحي في الزمن الوسيط، "أنه عقيدة ابتدعها محمد، وهي تتسم بالكذب والتشويه المتعمد للحقائق، إنها دين الجبر، والانحلال الخلقي، والتساهل مع الملذات والشهوات الحسية، إنها ديانة العنف والقسوة، شعارها السيف والحرب والقتال". وهذه الصفات هي ما يمثل النقيض المباشر للمسيحية، فالمسلم يتقدم إلى مساحة الإدراك المسيحي الأوروبي باعتباره رجلا محاربا، شرسا، متوحشا، يقوم بكل أنواع النهب والتنكيل، خالقا بذلك وراءه تعاسة وشقاء لا يوصفان، يحركه ميل قوي للقتل". وهكذا التقت رواسب الصورة المسيحية عن الإسلام كما تشكلت في السياق التصادمي للحروب الصليبية والصورة الاستشراقية من خلال تفسير الإرهاب بأنه ذو جذور عقدية تكوينية في الإسلام من حيث هو دين، ومن هنا تم التركيز على الجهاد ونحوه.
التفسير الديني ومشكلاته والآن قد يولع البعض أمام هذا التفسير الذي يلقي اللوم على الإسلام بأنه دين عنف بطبيعته بتفنيد هذه الدعوى الاستشراقية التقليدية القديمة، فتلك الدعوى وما يتفرع عنها من مقولات عتيقة كُتب فيها الكثير في مواجهة المستشرقين وشبهاتهم حول السيرة والنبي صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن المحرِّضة على العنف وانتشار الإسلام بالسيف وغير ذلك، واستهلكت جزءًا من الجهد والوعي الإسلامي الذي انشغل بالرد عليها. إن مشكلة هذا التفسير أنه يختزل الإسلام، تلك الديانة التي قارب عمرها خمسة عشر قرنًا من الزمن، في بعض الظواهر الضيقة والحديثة التي سنجد أمثالها في ديانات أخرى ولدى أقوام آخرين، وعند استعراض النماذج التفسيرية الأخرى "التفسير الثقافي والسياسي" سيتبين حجم القصور والتجني الذي يلف هذا التفسير. كما أن هذا التفسير يفتقر إلى مقومات "العلمية" حين يشطب تنوع الفكر الإسلامي وعلومه، وتنوع اتجاهاته على تنوع دوله وتزاحم المنتمين إليه في صورة مبتسرة كتلك التي تقبع في مخيلة أصحاب هذا التفسير وتلك التبسيطية الشديدة التي يتم فيها اعتبار "عالم إسلامي" شاسع كلاً متجانسًا وكأنه نسخ كربونية! هذا فضلاً عن الانتقائية الشديدة التي تختزل القرآن كله في بضع آيات معزولة عن سياقها مع تجاهل تام لعلوم نشأت حول النص القرآني وتخصصات توجب منهجية مركبة في فهم النصوص وضمها إلى بعضها وتفسيرها في ضوء بنيتها الداخلية وقاموسها المفهومي. كما أن المسألة لم تعد قاصرة على دائرة الاستشراق التقليدية التي شوهت صورة شعوب بأكملها لتلبية حاجات الهيمنة والاستعمار، فهناك الآن مستجدات كثيرة تساهم في هذه التصورات، وترسم الصورة النمطية التي تسهم في تشكيلها إمبراطوريات الإعلام وغيرها. وكذلك ما ساد بعد الحرب الباردة من تسويق لفكرة الخطر الإسلامي كبديل عن الخطر الشيوعي، والكتابات الكثيرة التي كتبت لتسوقه على قاعدة الصورة النمطية السابقة، وحاجات العولمة التي تسعى لسيادة نموذج واحد واحتقار ما عداه، ويشكل الإسلام بؤرة الممانعة.
لماذا يعتبر الإسلام مبعثاً للعنف في عيون الغرب؟ ثمة مرحلة أقرب يمكن أن تفسر جانبًا من سؤال: لماذا يعتبر الإسلام مبعثًا للعنف؟ ذلك أن المرحلة الاستعمارية القريبة وما جرى أثناءها وما جلبته من تداعيات فيما بعدها، مليئة بالتفاصيل التي يمكن أن تشكل خلفية تفسيرية -وانحيازية أيضًا- لهذه النظرة. فحين التدقيق نجد أن حركة الاحتجاج على الاستعمار ومقاومته، وإن كانت تتم تحت زخم وطني كبير إلا أنه لا يمكن تجاهل البعد الإسلامي الذي كان واضحًا في تفسيراته ودوافعه الدينية التي تلزم المسلمين به باعتباره واجبًا دينيًّا عينيًّا. والحركة الإسلامية أو البعد الإسلامي يعتمد في ذلك على الدين، وربما سماه البعض أيديولوجيا، وليس على منطق أو إستراتيجية براغماتية، فدوافع الاحتجاج كانت إيمانية وثقافية أيضًا. كما أن استيلاء المراجع العلمانية والقومية على تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مرحلة ما بعد الحكم الاستعماري، أجج من بروز الوجه الإسلامي كمعارضة للأنظمة الحادثة التي نُظر إليها على أنها وريثة مرحلة الاستعمار، وخاصة بعد ما فشلت "الوطنية" في إيجاد الحلول لكثير من المشاكل، فشكل الإسلام الاحتياطيَّ الرمزيَّ للمعارضة والاحتجاج الذي أخرج الاستعمار من البلاد ثم هدد مصالحه والمرتبطين به في مرحلة ما بعد الاستعمار وبعنف أيضًا، في حين أنه لم يكن الوجه الوطني والإسلامي منفصلين أثناء مرحلة الاستعمار.
|
29-09-2005 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=260
|