مضت أربع سنوات على الحدث الأيلولي، تم خلالها حرب في أفغانستان واحتلال في العراق وحرب مفتوحة على الإرهاب، تمفصل العالم في هذه السنوات حول قضية الأمن ومن المنظار التي تحدده أمريكا، وكانت الأوهام الأولى تشي بالانتصار على أعتى التنظيمات المتطرفة (القاعدة) دون الانتصار على فكرها، وكان الظن أن القضاء على وجودها المادي سيقضي على خطرها، لكن أسباب الإرهاب التي تفاقمت كانت كفيلة بإيجاد بدائل أشد خطورة، تلك البدائل ليست خلايا نائمة كما تسمى أحياناً من قبل أجهزة الأمن والإعلام، إنما هي جيل جديد من الأصوليين الشباب أكثر استقلالية وخطورة، فهم مستقلون عن المرجعية التنظيمية التي تم القضاء عليها والتي أصبحت رمزاً ملهماً، تعلم هؤلاء عبر وسائل مختلفة صناعة المتفجرات واستخدامها وأصبحوا يحددون أهدافهم بتلقائية، وقد ينسبون أنفسهم إلى جماعات معروفة أو تتبناهم تلك الجماعات، دون وجود صلات بينهم بالضرورة، فهم فسيفساء متباينة من الأجيال الجديدة تشكل ما يشبه شبكة، ظهر هؤلاء في أماكن عديدة منها فرنسا ومصر والمغرب، ولعل منفذي تفجيرات الدار البيضاء ومدريد ولندن هم من هذا الصنف، وسبب انتشار هذا النوع من الجهاديين هو مبدأ التطوع في الجهاد دون التجنيد، والذي يعتبر أشد خطورة، كما يؤكد الباحث الدنماركي مايكل تارنبي في تقرير له أن "تباعد الروابط يعقِّد إلى حد بعيد التحرك ضد الإرهاب لأنه من المستحيل القضاء على بنية تنظيمية غير موجودة".، فالجديد مع المتطرفين الجدد هو الاستغناء عن مرجعية الأشخاص والمرشدين عقدياً وسياسياً، ولعل قول الانتحاري محمد صديق أنه يقتفي بعمله أثر أبطال المسلمين في هذا العصر مسمياً أسماء مشهورة مؤشر على دور الإيحاء الرمزي لهؤلاء وغياب التراتبية التنظيمية في هذه الأعمال، غياب المرجعية هذا كانت نتيجة تشتيتها على أرض الواقع فالحرب في أفغانستان أدت إلى تشرذم هذه المجموعات إلى أقصى حد وحل مكانهم الأفراد الذين لا يشكلون في غالب الأحيان مجموعة، ولا حتى مجموعة غير منظمة، بل الأشد خطورة كما يرى خبراء الإرهاب أن هناك الكثير من المتطوعين الذين لم يتلقوا أي تعليم فقهي فهؤلاء الشبان لديهم مفهوم للإسلام يقوم على المزج بين مفاهيم شتى وإلصاق أفكار ببعضها، ويستمدون إرشادهم من شبكة الانترنت ووسائل الاتصال والإعلام ومنهم (في أوربا) من لا يتكلمون العربية وغالباً ما لا يتقنون الانكليزية. فأي مفهوم لديهم للإسلام؟
هذه المعطيات التي تؤكد تشتت التنظيمات التقليدية تدعمها تقارير أخرى تعطي وجهاً آخر للخطر وهو توفر ظروف لولادة تنظيمات جديدة ووجود مناخ ملائم لتدريبات تدعم الإرهاب، فقد أكدت هذا الخطر وكالة الاستخبارات المركزية التي حذرت إدارة بوش في تقرير سري أن العراق أصبح منذ الاحتلال الأميركي في 2003 ميدانا للتدريب يتعلم فيه إرهابيون مبتدئون فنون القتال والاختطاف وتفخيخ السيارات. وقد أشار التقرير المذكور آنفا أن العراق يمكن في ظل الانفلات الأمني الذي يعرفه حاليا وضعف سيطرة الأجهزة الأمنية على مجريات الأمور أن يصبح أكثر فاعلية في تدريب الإرهابيين مما كانت عليه أفغانستان إبان الأيام الأولى لطالبان. كما يمكن أن يتحول العراق مع مرور الوقت واستمرار التدهور الأمني إلى قاعدة لانطلاق عناصر إرهابية إلى باقي مناطق العالم بما فيها الولايات المتحدة، وفي هذا الصدد قال لاري جونسون محلل سابق في وكالة الاستخبارات المركزية ومدير مكتب مكافحة الإرهاب التابع لوزارة الخارجية: لقد أصبح العراق ميدانا لتجنيد الجهاديين، وحتى هؤلاء الناس الذين لم يكونوا مقتنعين بفكر بن لادن أصبحوا الآن يتبنون نظريته ومستعدين لتنفيذ هجمات إرهابية. لذا نجدهم يقبلون على تعلم زرع القنابل والقيام بعمليات عسكرية، واعتبر مركز أبحاث بريطاني معروف في تقرير نشر يوم الاثنين 18-7-2005 أن الحرب على العراق أعطت "قوة دفع" للقاعدة وجعلت بريطانيا بنوع خاص عرضة لاعتداءات كالتي وقعت في السابع من يوليو/تموز. وأوضح هذا التقرير الذي نشره المعهد الملكي للشؤون الدولية ويعرف باسم "شاثام هاوس" وهو مركز أبحاث معروف في لندن "ليس هناك أدنى شك أن الوضع في العراق فرض صعوبات خاصة على المملكة المتحدة وعلى الائتلاف بشكل أوسع ضد الإرهاب".
إذاً آلت الحروب التي أعقبت الحادي عشر من أيلول إلى تشتيت تنظيمات الإرهاب القائمة آنذاك وولادة متطرفين جدد تربطهم أفكار دون ضرورة الارتباط بتنظيم، كما أدت الحرب على العراق إلى توفير بيئة جديدة لإعادة التنظيم وولادة خلايا لم تكن من قبل، والنتيجتان تضاعفان الخطر إذ لا يمكن السيطرة على مآلات تطورهما ولا يمكن التنبؤ بسمارهما، والفاعل الرئيسي في مضاعفة هذا الخطر هو القضاء على المرجعية التنظيمية للمتطرفين، واهتزاز المرجعية الإسلامية للمسلمين عموماً، والشاهد على ذلك مؤخراً تلك المؤتمرات التي حشد فيها علماء المسلمين للإدانة تحت عباءة السياسة (عمان) أو المال (شرم الشيخ)، مما جعل أولئك العلماء محط اتهام من قبل أولئك المتطرفين، والحال أن تلك المرجعيات مهتزة من قبل في نظرهم، واهتزازها يرجع بالأساس إلى تهميشها أو توظيفها من قبل أهل السياسة والمال دون أن تفلح في بناء استقلاليتها بشكل مقنع أو تفلح الدول في تأمين حصانة للعالم توفر له الثقة لدى الناس بحيث يبين رأيه واجتهاده ولا يخاف في الله لومة لائم، فأي إقناع للمتطرفين في العدول عن تطرفهم وهم يرون العلماء لا يطبقون ما يتفقون عليه معهم وهو ما ينصحونهم به "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، بل إن ما يصدر عن المرجعيات الدينية من كلمات وخطابات للحكام تضعهم في خانة المستتبعين لهم والمنافقين أحياناً هو أكبر وسيلة لقادة المتطرفين للتشكيك في مرجعيات المسلمين حتى فيما يقولونه من الحق.
كلما تقدمت الحرب على الإرهاب في الزمن كلما تفاقم خطر الإرهاب وامتدت مساحته الجغرافية وتوسعت أهدافه، فأسبابه المحلية والعالمية، الفكرية والسياسية ما تزال قائمة، ولا يبدو أن هناك رؤية جدية لمعالجته، ولا يمكن معالجته بأيديولجية شبيهة به، إلا إن كان وجوده مطلبا لتصديق نظرية الصدام بين الحضارات.