/

 

 

ظواهر العنف: تفسيراتها وعلاجها في التحليلات المعاصرة

عبد الرحمن حللي

تظل ظاهرة الإرهاب العنوان الأبرز في القاموس السياسي العالمي في القرن الحادي والعشرين، فهي ظاهرة ستشغل القرن الحادي والعشرين أو جزءاً كبيراً منه على الأقل، بحسب والتر لاكير في كتابه «لا نهاية للحرب» والذي يتبنى رأي القوى المهيمنة حول الظاهرة، فقد أصبح الارهاب شعار الحروب المقبلة بالزعامة الأميركية، فهو العدو المفترض، ولئن كان الارهاب سابقاً أداة غربية لتحقيق المصالح الأميركية على مبدأ الحرب بالنيابة، فهو اليوم يعتبر عدواً حقيقياً الى حد ما، حتى إن الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إي» «مايكل شوير» المتخصص في مكافحة الإرهاب نصح في مقابلة مع شبكة «سي بي أس» التلفزيونية لمناسبة إصداره كتاباً بعنوان: «غطرسة إمبريالية: لماذا يخسر الغرب الحرب على الإرهاب» بـ»احترام» أسامة بن لادن لئلا يقتل المزيد من الأميركيين.

وقد دأبت تحليلات علماء الاجتماع على إرجاع اسباب الارهاب عموماً الى الفقر أو الكبت السياسي، وكم الأفواه وقمع المعارضين الذين لا يجدون عندئذ وسيلة للتعبير عن أنفسهم إلا معن طريق الانفجار والتفجير، ويستشهدون لذلك بالثوريين الروس، ذلك انهم عندما فشلت محاولتهم لدفع الشعب الى الثورة وتغيير الوضع القائم فكروا باللجوء الى طريقة أخرى هي: الطريقة الإرهابية، وبالتالي فهم لم يكونوا ارهابيين من أجل الارهاب وإنما أصبحوا إرهابيين من شدة حبهم للشعب وتعلقهم بأفكار العدل والمساواة وكرههم للتفاوت الطبقي الهائل، ونظراً الى الغايات النبيلة للحركة الارهابية، فإن الشعب الروسي تعاطف معها وقدم لها المعونة أيضاً، وكذلك النضال الايرلندي من أجل الاستقلال لقي ترحيباً كبيراً في أوساط اليسار الأوروبي.

لكن كاتباً متخصصاً في الإرهاب مثل والتر لاكير لا يستحضر في كتابه سابق الذكر التحليل الذي نقلناه عنه لظاهرة الإرهاب في التاريخ الأوروبي، عند مقاربته الإرهاب المعاصر، ويعتبر إرهاب ما يسميه الحركات المتطرفة والرجعية هو إرهاب للإرهاب ولا يفترض أي خلفية قيمية وراءه.

هذا التحليل للإرهاب الذي يمارسه المتطرفون الاسلاميون يعتبر ناقصاً بل ومشوهاً لا ينم عن سعي عملي لمعالجة الظاهرة، فلا بد لمعالجتها من فهم حقيقتها وعدم الانجرار وراء الآلة الإعلامية والتفسيرات الأمنية للظاهرة، المستخفة بالعقول أحياناً، فمن الخطأ السائد في التحليل مقارنة الحركات الإسلامية المتطرفة بظاهرة الحشاشين القديمة في التاريخ الاسلامي أو بظاهرة الفوضويين في العصر الحديث، ذلك ان اهداف المتطرفين الاسلاميين معلنة وواضحة بغض النظر عن واقعيتها وشرعيتها، وهم لا يمارسون العنف بدافع اجرامي وعدواني إنما بتبرير ديني وأخلاقي ويستندون فيه الى مبررات واقعية تتعلق بعدوهم المستهدف، كما ان سيرتهم الذاتية أو سلوكهم اليومي يبعد احتمال قصدهم القتل للقتل، وهذا لا يمنع ان تنسب بعض الأعمال اليهم أو أن يقوم باسمهم بعض المجرمين بجرائم بحتة، فضلاً عن ان بعض تصرفاتهم لا تخرج عن وصف الجريمة القانوني بغض النظر عن الهدف.

من ناحية أخرى ينبغي ربط ظاهرة التطرف في سياقها الاسلامي بجذورها التاريخية من جهة وظروف ولادتها المعاصرة من جهة ثانية، وكذلك بحيثيات المناخ السياسي والفكري، وسيرورة المعرفة الدينية التي تُستحضر في خطابي الإدانة والمشروعية لعمليات العنف الاسلامية، ولا يحتاج المحلل للظاهرة الى مناقشة مسألة المشروعية الفقهية وصلة العنف بالجهاد نظراً لكثرة الدراسات التي تناولت موضوع الجهاد القتالي وشروطه وعلله، ولأن الكثير من المتطرفين لا يختلفون في الرؤية الفقهية التي يؤصلها الفقهاء لموضوع الجهاد – مع ملاحظة قلة الزاد العلمي لدى معظم المتطرفين -، إنما اختلافهم في تنزيل تلك الرؤى على الواقع المعاصر، وتجدر الاشارة الى ان معظم دعاة العنف هم ممن درسوا الاسلام خارج مؤسساته التقليدية وممن تلقوا علوماً تقنية في معظمها، والناشطون الإسلاميون عموماً من معتدلين وغيرهم إنما يتجلى نشاطهم في أروقة غير دينية كالجامعات والنقابات والأندية...، وهذا ما يثير التساؤل لماذا تبرز حركية الدين في أوساط غير المختصين فيه؟ مع العلم أن غير المختصين عندما يتعلمون الدين إنما يتلقون التعليم نفسه والكتب نفسها لكن بطريقة غير نظامية، فرؤيتهم لقضايا الحكم والمجتمع ومختلف المسائل واحدة ومن مصدر واحد، لكن الذي يختلفون فيه هو إسقاط هذه التصورات على الواقع، وربما يرجحون من الآراء الفقهية ما هو أكثر عملية في تصورهم.

فالاختلاف في موضوع الجهاد هو في تحديد العدو وطبيعة العدوان، وهذه النقطة اشكالية بالنسبة الى الفريقين: من يبرر العنف ومن يرفضه، وترجع الى تصور المسألة السياسية وتصور العالم وإدراك المتغيرات التي جدت في العالم والسنن التي تسير الكون، لذلك لا جدوى كبيرة من الجدل الفقهي في المسألة لأنه ليس مثار المشكلة الأساسية، والمرجعية الفقهية هي واحدة في شكل عام.

ما ينبغي التركيز عليه هو التناقض الذي يقع فيه المتطرفون في خطابهم الذي يبررون من خلاله أعمال العنف، فهم من جهة وفي شعاراتهم يستخدمون لغة دينية بحتة تقريباً فيتحدثون عن المؤمنين والكافرين، ويصنفون أحياناً كالصليبيين واليهود، بينما نجد في خطاباتهم التبريرية لبعض الأعمال الحديث عن رد العدوان على بلاد المسلمين وحرماتهم ونهب ثرواتهم والثأر للأبرياء... مع نفي لقصد استهداف الأبرياء من الضحايا الذين سقطوا ضرورة فقدهم للحيلة في طرق الدفاع عن أنفسهم، وهذه لغة سياسية يمكن أن تصدر عن أي جهة تمارس العنف بغض النظر عن الدين، وهذه اللغة تجذب لهؤلاء المتطرفين الكثير من الأنصار والمؤيدين من غير الملتزمين دينياً، وهذا ما يفسر التعاطف الصامت من جانب شريحة واسعة من سكان العالم مع الحدث الأيلولي في وقته كونه يستهدف قوة مارست الظلم في أنحاء واسعة من العالم، كما ان هذه اللغة تدعمها طبيعة الجهات المستهدفة من العنف، والتي تمثلت في مصالح قوى مارست الظلم والاستبداد في العالم أو في مناطق يسودها صراع مزمن، مما يرجح أن المحرك المباشر أو الأساسي ليس مجرد كفر العدو أو صليبيته إنما ممارسته للظلم والعدوان، لذلك نجد أن ديانات أخرى ومليارات من البشر في مناطق واسعة من العالم لم تكن محل تهديد من المتطرفين نظراً لعدم انغماس أولئك في العدوان على المسلمين أو دعم أعدائهم أو التسبب في انتهاك حرماتهم، وهذا لا يعني غياب البعد الديني في هذا الخطاب السياسي، فهما ملتحمان، وربما كان تفكير هؤلاء أن العالم الكافر مستهدف عبر مراحل الدعوة والردود عليها بعد قيام دولة الخلافة، والأولوية الحالية مواجهة من يقوم بالعدوان.

ملاحظة البعدين، الديني وذلك من أجل الدعوة وإقامة الخلافة وتطبيق الشريعة، والسياسي في رد العدوان على المسلمين، تجعل التحليل العلمي للظاهرة يتجه الى عنصرين أساسين ينبغي التركيز عليهما وهما البعد الفكري والديني والبعد السياسي، أما الأبعاد الأخرى الاجتماعية والاقتصادية فهي ثانوية في ما يتعلق بالعنف الاسلامي، ويمكن ان تصلح مفسراً لظاهرة العنف في شكل عام. 
 

 

 

 

27-04-2005 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=264