/
الدين والتغير التاريخي
سامر رشواني
تتجلى الإشكالية التى يثيرها العنوان السابق فى تحديد العلاقة بين الدين والتاريخ ، من جهة أنماط الاستجابات والتغيرات التى يواجه الدين بها التطورات المختلفة أو مدى تأثير التغيرات التاريخية المختلفة فى الدين .
قد لا تبدو صياغة الإشكالية على هذا النحو مناسبة أو محكمة ، لسبب هام يتعلق باستقصاء مفهوم " الدين " وتتجلى صعوبة استخدام هذا المفهوم من نواحى متنوعة منها العمومية والإطلاقية التى تضفى على هذا المفهوم ، والتى توحى بالمساواة الكاملة بين مختلف الأديان ، الأمر الذى يرفضه البعض على أساس وجود اختلافات جوهرية بين الأديان يجب أن يتم مراعاتها ، بينما يركز آخرون فى تحليلاتهم على الظواهر المشتركة والقواعد المتشابهة بين الأديان ، ليصلوا إلى أن الأديان على اختلافها وتنوعها متماثلة من حيث الجوهر .
أما النقطة الثانية فتظهر فيما يطرحه البعض من تميز بين " الدين " و " الفكر الدينى " فما ينطبق من تحليلات وأحكام على " الفكر الدينى " قد لا يصح إثباته ل " الدين " فالفكر الدينى فى جزء كبير منه على الأقل بشرى متغير وغير مقدس ، وعلى النقيض من ذلك " الدين " إلى مقدس ثابت مطلق . ولكن هذا التمييز قد يبدو مضللا إلى حد ما ،إذ لا نستطيع – واقعيا – أن نلحظ " الدين " خارج " الفكر الدينى " ، فالدين " المقدس كما يرونه – مفهوم هلامى لا نستطيع أن ندرك له حدود أو ملامح يمكننا التسليم بها أو معالجتها ، فهو – واقعيا – أمر لا وجود له .
كما يوجد تمييز من ناحية ثالثة – بين " المنظومة الفكرية الدينية " وبين " الدين الاجتماعى " أى الدين كما يتجلى فى الناس والمجتمع ، أو فعالية الدين الاجتماعية . ويوقعنا هذا التمييز فى مأزق عسير يتطلب فهم العلاقة المعقدة بين المفهومين ويزداد الأمر تعقيدا بإضافة البعد التاريخى وتنوع أنماط الدين الاجتماعى .
أن الاشتباك المفاهيمى السابق والاختلاف الدلالى الناجم عن تعدد المقاربات واختلاف النظرات ، يشير إلى المساحة النسبية الضيقة جدا التى يمكننا الكلام فيها عن " الدين " بعمومية ، وإذا أضفنا إلى ذلك النسبية التى يعانى منها التاريخ أصلا ، فأننا يمكن أن نستنج أن أى تحليل لأنماط الاستجابات والتغيرات الدينية فى التاريخ وأثار هذا الأخير علينا ، سيكون نسبيا بحيث لا يمكنه ترجيح نمط معين من الاستجابات الدينية على نمط أخر ، بالنظر إلى أنه الأفضل ألاسلم فى زمن ما ، ولا يرجح رؤية لدور التاريخ على الأخرى ولعل هذه النسبية التى أشرت إليها هى ما أود تأكيده وأثباته .
ثمة درس من دروس التاريخ يتمثل – كما يقول ول ديورانت – فى أن الدين متعدد الأرواح ودائب النشور والبعث . فما أكثر المرات التى تصور الناس فيها موت الإله والدين فى الماضى ثم بعثا وتجددا ! وهاهو أخناتون استخدم كل سلطات الفرعون للقضاء على دين أمون ، ولكن لم يمر عام على وفاة أخناتون إلا وأعيد دين آمون ، وقد استشرى الإلحاد فى الهند عندما كان بوذا فى شبابه وأسس بوذا نفسه دينا بغير آله ، وبعد وفاته أنشأت البوذية لاهوتا مركبا يضم الآلهة والقديسيين والجحيم . واختفت زندقة القرن الثالث عشر فى إنجلترا فى ظل التسوية الفيكتورية مع المسيحية . وفى أمريكا أفسحت عقلانية الأباء المؤسسين المجال لنهضة دينية فى القرن التاسع عشر.
ولكننا نلحظ أن التدين الحقيقى أو المجتمع المثالى الذى يتطلع إليه الأديان عادة ، لا يتحقق فى الواقع إلا لفترات قصيرة ، تمثل الفترة التالية ظهور الدين أو لانبثاق الثورات الدينية الأخلاقية ، ثم يبدأ التدين بالانحراف عن منطق العصور الرشيدة وتعود التناقضات الاجتماعية لتتحكم فى المجتمع ، فيصبح دين الفقير مختلفا عن دين الغنى عن دين الملك أو قيصر أو خليفة أو سلطان .
كما لا يوجد مثال فى التاريخ – حسب ديورانت – لمجتمع ناجح فى صيانة الأخلاقية بدون معونة من الدين فقد قامت فرنسا والولايات المتحدة وأمم أخرى بفصل حكومتها عن جميع الكنائس ، ولكنها لجأت إلى معونة الدين فى المحافظة على النظام الاجتماعى .
وإذا شكك البعض فى قيام الدين بنشر الأخلاق والحفاظ عليها بالنظر إلى أن الانحلال الأخلاقى ازدهر حتى فى عصور السيطرة الدينية ، حيث ساد النهب والرق والفسوق والطمع والاستغلال ، فإنه كان من المحتمل أن تكون الفوضى الأخلاقية الناجمة عن الحروب والغزو الأجنبى وغيرها أسوء بكثير لولا الأخلاقيات الدينية الكامنة فى المجتمع .
وإذا كان التاريخ يؤكد – أحيانا – ميل جماهير البشر إلى دين غنى بالمعجزات والأسرار والأساطير دين يمنح السلوى والعزاء للأشقياء والمعذبين والمحرومين (الصوفية مثلا ) . فانه – أى التاريخ – لا يخفى استجابة البشر وتفاعلهم مع حركات وأديان – كالسلفية والبروستستانية – تحتوى قدرا كبيرا من العقلانية والمسئولية .
قد تكون هذه المقدمات المختلفة مناسبة لمناقشة أكثر القضايا إثارة للجدل وهى التحدى الذى تعرضت له مختلف الديانات . والمتمثل فى ما يمكن أن نسميه صدمة العالم الحديث إذ لم يتعرض الدين فى تاريخه كله لتحد ومواجهة كالذى طرحته عليه التطورات العلمية والفكرية والغربية الحديثة . فالعلم والعقل ظهرا كتوئمين مقدسين ، ثم شب الإنسان عن الطوق ، ليناطح الآلهة ويثبت هيمنته وسيطرته على الكون .
وقد قدمت مختلف الأديان استجابات متشابهة تجاه هذا التحدى الجديد . فظهر تيار أثر المحافظة على التراث الماضى ، وحماية التراث والهوية من التلاشى أو الاندماج فى هذه الدوامة الحديثة وضحى بموالاه المثقفين له، ورضى بالفقراء والأميين ، والمهتدين عن النفوس التى أضناها شك العقل .
بينما نحا التيار الأخر نحو التواءم مع التيار الحديث والانخراط فيه ، فى محاولة للإمساك به مرة أخرى ، عبر إعادة النظر فى الموروث بتأويله وتفسيره من جديد ضمن رؤى وتصورات مختلفة تقوم على العقلانية والاجتهاد . وفى حين أقام التيار المحافظ مشروعيته على تراث متنوع وغير متجانس – فى جوانب كثيرة تراث رسخ جذوره بالتقادم . فأن التيار الأخلاقى أو التجديدى يحاول أن يستمد مشروعيته من منطق التراث أو الدين نفسه الذى سمح بتعدد الآراء والتفسيرات الدينية قبل أن يصبح تراثا مقدسا بمجرد تراكم غبار التاريخ عليه .
وعادة ما يدور بين هذين التيارين صراع شديد ، يتم فيه التراشق بالتهم المختلفة من زندقة ورجعية وخروج من الملة وتخلف . وبمنأى عن هذين التيارين يسير التدين فى المجتمع وفق قواعد مختلفة تحكمها الدول والسياسات والاقتصاد ، ومدى التغيرات التى تطرأ على المجتمع لاسيما احتكاكه مع المجتمعات الأخرى ومستوى التحديث . فلم يكن الدين والالتزام الخلقى أكثر انتشارا فى المجتمعات الكاثولوكية من المجتمعات البروتستانية الإصلاحية فكلا المجتمعين خضعا لحركة التحديث التى فرضت شروطها وضوابطها ومنطقها ، الذى ساعد فى كثير من الأحيان على انتشار الإلحاد والانحلال الخلقى .
وغالبا ما يتهم الإصلاحيون بالبعد عن جوهر الدين ، المفترض مخاطبته للروح وقيامه على الاتباع ، بخروج كثير من الملحدين من تحت عباءاتهم (عبده – لوثر – كالفن) ولكن الملحدين والضالين الذين يخرجون عن المحافظين ليسوا أقل فالسلبية والخرافة والانعزال عن روح العصر ، تخلق لدى الكثيرين شروخا نفسية قد لا يخفف من وطأتها غير الموائمات والتلفيقات الإصلاحية التى تحاول التوفيق بين منطق " الدين " والحياة المعاصرة .وأن عجزت عن تقديم حلول أو أجوبة مقنعة بشكل كامل .
والتاريخ يعلمنا أن مساؤى التقليد ليست أقل من مساؤى التجديد والإصلاح على الإطلاق . كما أن كثيرا من الحركات التى كانت تعد فى زمانها إصلاحية وتجديدية ، قد أصبحت بتراكم غبار التاريخ عليها ، حركة تقليدية كغيرها من الحركات السابقة ( ابن تميمة وتلاميذه) .
وهكذا يتعاقب التزمت الدينى والإلحاد فى التاريخ على أساس التفاعل المشترك حسب ديورانت . فالدين والتزمت يسودان فى الفترات التى يضعف فيها القانون ويتوجب على الإطلاق أن تحمل عبء صيانة النظام الاجتماعى . أما نزعة الشك والإلحاد فتظهر كلما سمحت السلطة المتزايدة للقانون والحكومة بانهيار الكنيسة – أو المسجد – والآسرة والأخلاق ، دون تهديدا الدولة بشكل أساسى ، كما يحدث الآن وغالبا ما تأتى ألوان التجاوز والافراط برد فعل أخر ، فتولد الفوضى الأخلاقية نهضة دينية .
|
27-08-2005 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=284
|