لا شك أن الأوروبيين تتلمذو يوما ما الحضارة الإسلامية بما مكنهم من "استعادة" مجدهم القديم في اليونان، فهل كان المسلمون كذلك يبحثون عن مجد قديم؟ الأكيد لا؛ فهم لم يتصلوا باليونان ومحيطهم الحضاري إلا بعد الانطلاق من الداخل بفضل الإسلام الذي قام بالإصلاح الديني؛ والذي سار في إطاره إلى غاية فتح مكة، دون مقدمات تبحث عن مجد ضائع، بل ودون معطيات طبيعية مؤسسة لها إلا ما كان أمّية دينية و خواء فكري سائد في الجزيرة العربية آنذاك، وهو المكان نفسه الذي شهد تجربة نبوية سابقة هي تجربة خليل الله إبراهيم في البحث التجريبي عن الله و التي تخلدها الكعبة المشرفة في مكة المكرمة التي شهدت الدعاء الإبراهيمي (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)) [سورة البقرة]، فجاء محمد بن عبد الله ليعيد مجد المكان ويتجاوزه بشريعة هي من صلب التوافق مع البحث الفطري والعقلي للإنسان الباحث عن الحقيقة بإرشاد أبي الأنبياء إبراهيم الخليل.
وأما انتهال المسلمين من غيرهم والذي لم يحصل إلا بعد نجاح الثورة والإصلاح الذي جاء به الإسلام فقد كان الدافع فيه ذاتيا يقتضي ضرورة التوفر على الفكرة الدافعة أو قل الجذر النفسي المحفز على المضي قدما في سبيل البناء الحضاري، لكن إذا كان المفروض أنه انطلاق من فراغ، فالأكيد أن شحنه تم إبَّان الثورة، ومما لاشك أنه كان مغايراً لطبيعة مكة وأهلها، إنه لا شيء غير القرآن.
وأما اعتبار فتح مكة معلماً تاريخياً فراجع إلى كونه منعرجاً تاريخياً سلبياً للدعوة الإسلامية، إضافة إلى فلول النفاق التي رافقت الدعوة منذ الهجرة إلى المدينة، بدخول بقايا الشرك في الإسلام، فكان إسلاماً ذا صفتين، هما: المصلحية التي تبطنت أفرادها والتي ظهرت فيما بعد، وخلوها من تجربة المعاناة والجهاد في سبيل تمكين الدعوة، وهو ما حال دون التشبع من الإشعاع الرسالي لدين الإسلام الذي شكل جذر الطفرات التاريخية الحاصلة اليوم كما قدّمنا؛ فصارت دولة الإسلام مفتوحة في بنائها الاجتماعي على مسار تاريخي قابل لكل الاحتمالات.
ومنه فإن الإشكالية الرئيسة في هذه المحاولة هي كيف تكون العودة إلى الجذر القرآني مروراً بالحضارة الأوروبية لإعادة الجهد [النبوي] المحمدي إلى سكَّته الحقيقية لتحقيق الإشباع الرسالي لدين الإسلام سواء للعرب أو لغيرهم، تحقيقا لكمالات التجربة الروحية التي تقوم عليها خصائص هذا الزمان؟ بعبارة أخرى ما هو موقع الإسلام (بما هو وحي قرآني وتجربة محمدية خالدة) من الطفرات التاريخية الحاصلة في التاريخ الإنساني بُعَيْد انطلاق التوهج الأوروبي؟ أو كيف يستعيد الإسلام أمجاد ماضيه بالرجوع إلى منطلق حضارته كما استعاد الأوروبيون أمجادهم من اليونان من خلال المسلمين؟
السؤال المطروح بداية هو عن الكيفية التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمارس بها دوره في حياته كنبي للدين الخاتم مع أتباعه منذ بدء دعوته؟
إنه كان في البدء مدثراً ومزملاً فزعاً لأمر الدعوة؛ فكانت خديجة صاحبة الفضل في التقبل والمواساة كما كان ورقة بن نوفل الخبير الذي شد على أزره ومن بعدهما الصحابة، واشتد عود الدعوة بالأنصار في المدينة، ليتحول النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد ثلاثة عشر عاما في مكة وبعد الهجرة إلى المدينة من داعية إلى منظم ومرشد، فما الفرق الجوهري بين المرحلتين إذن؟
إنه لم يدع ملكاً ولا ملكية مستمداً الشرعية من نبوته التي أبى أن يضع لها ناطقاً رسمياً بعد وفاته؛ إذ لم يعين الخليفة من بعده، والمفارقة في ذلك أن زعامته للأمة (إن صح هذا التعبير) كانت بتفويض إلهي منه في حين أبى أن يمتد ذلك التفويض من بعده بإرسائه لحالة عدم تعيين؛ امتداداً لنفس الحالة في الجانب الطبيعي حيث لم يخلف الأولاد الذكور؛ فجاء من بعده أقرب الصحابة إلى النبي (ص) أبو بكر (رضي الله عنه) وكأنه نوع من إضفاء التعيين من الجانبين الطبيعي والاعتباري حيث القرب منه وموالاته فقد كان صدِّيقا له وقرشياً مهاجراً مثله.
أما طبيعةُ تزعُّم النبي، فكانت زعامة روحية، تجلت في التنظيم من قبيل مؤاخاته بين الأنصار والمهاجرين وتحديد مكان إقامة المسجد في المدينة، والتوجيه والإرشاد بفصله في القضايا الفقهية والاجتماعية، ومنه فإن الفرق الطبيعي المحدث في تنظيم دولة الإسلام فيما بعد وفاة الرسول هو فقدان آلي لمنصب الزعامة الروحية التي تجعل من التنظيم السياسي والإجتماعي في المدينة رمزاً دالاً على المضمون الروحي للإصلاح المحمدي في مكة، وبالتالي فإن أمر تحديد الزعامة بعد الرسول وتقدير مهمته ومدى صلاحياته كانت ستبقى أكبر قضية اجتهادية في تلك المرحلة كانت ستستهلك جهود المجتمع الإسلامي في المدينة لتؤمنه من الانزلاقات التي حصلت بعد وفاة الرسول مباشرة التي تجلت في عبارة الأنصار والمهاجرين (الخليفة مِنَّا)!!
وتجب الإشارة هنا إلى طبيعة سلطة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التي تميزت باندراجه الكامل ضمن أهل المدينة بما يحيل إلى استيعاب المجتمع المدني للمجتمع السياسي فيكون كغيره جهازا من أجهزة تسيير المجتمع وليس العكس كما سنبين مما هو حاصل لدينا راهنا.
لذلك يمكن الحكم على عزوف النبي عن تعيين الخليفة يدخل ضمن المسار الواقعي لمجتمع المدينة، إلا أن الذهول الذي انتاب الناس بعد وفاته والذي تعبر عنه مقولة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الشهيرة "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات" إلى آخر القول، فيبدو طبيعياً أن نفسية أتباع النبي لم تتهيأ بعد لمجابهة مصيرها بعد وفاته، وهو الذي تولى مهمتين كما تبين مما تقدم:
1- الزعامة الروحية بما يجعل من المسلمين أتباعا له
2- التنظيم والتوجيه بما يجعل من النبي حاكماً سياسياً لأتباعه.
فاشتباه الأمر على المسلمين أدّى إلى ثغرات فكرية تجلت عمليا وبشكل تدريجي بمقتل الخلفاء الثلاث التالين لأبي بكر، ثم تجمعت في استفحال التعصب الجاهلي الأموي بقيادة معاوية سليل أبي سفيان في قناع الإسلام برفع المصاحف على الرماح!! وهو ما يعيدنا إلى مرحلة عودة النبي إلى مكة لفتحها وتحديدا كيفية إسلام أبي سفيان وعفوه عن المشركين بقوله (صلى الله عليه وسلم) لهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وهي الثغرة الفكرية التي توسعت بعودة الحكم للأمويين ومن بعدهم العباسيين ليتداخل الوضع السياسي في دولة الإسلام مع النمط الجاهلي بتوريث الحكم تعميقاً لنقطة اشتباه الأمر على المسلمين، وبالتالي انحراف سكة السيرورة التاريخية للإسلام بدءاً من وقعة صفين المؤسسة للمذهبية في الإسلام والتي انساق معها المجتمع المسلم؛ فجعل من مسألة الحكم المسألة الكبرى التي فيها تبذل الجهود والأوقات؛ لتلقي بظلالها على الوعي الحضاري المسلم غالقة وعيه على اعتبار مسألة السياسة والحكم المبدأ والمنتهى في حياة المجتمع، وصولا بالنمط الإسلامي من الحكم في الدولة العثمانية حيث جعلت المركزية من جسم الأمة [ضعيفاً] لا يستطيع أن ينافح عن نفسه إلا بعضو واحد، بدليل الوصاية العثمانية على الجزائر بطلب من الجزائريين بتوليها الدفاع عنهم ضد الغزو الأوروبي الذي حقق مبتغاه بعد سقوطها.
ثم إن افتقاد الصيغة المناسبة لنمط الحكم أدى بعد مرحلة التحرر في العالم العربي خاصة إلى ظهور أنظمة مافياوية تسعى ليس فقط إلى الهيمنة على النظام السياسي بل كذلك تهدف بتواطؤ من المافيات العالمية إلى الهيمنة على الوجود الحضاري للأمة المسلمة، وهي الهيمنة التي لم تكن موجودة بُعيْدَ نهاية الخلافة التي شهدت مرحلة ازدهار ثقافي وعلمي عزيز النظير انعكس على المجتمع بدءً بمرحلة التدوين (كتابة القرآن وتدوين الحديث وعلومهما) مروراً بمرحلة الترجمة عن اليونان وغيرهم وبالتالي البحث عن خصوصية الفكر الإسلامي وصولا إلى الرحلات والكشوفات الجغرافية الأمر الذي تتوج بامتداد الإشعاع الحضاري للدعوة المحمدية إلى صنع روائعه في الأندلس أقصى النقاط بعدا عن الجذر الجغرافي للإسلام.
فالتوسع كان كمياً أكثر منه كيفياً؛ حيث امتنع التشبع بروح الإسلام عند العرب الأوائل أنفسهم، وهو ما يومئ إلى حاجة المجتمع العربي المعاصر إعادة استلهام المرحلة النبوية مروراً بالتجربة الإبراهيمية الممهدة لها مادام الإشعاع لم يصب نفوسهم أول مرة من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). ودليل ذلك ما بقي عليه العرب من بداوة وعصبية أبلغت تحليلات ابن خلدون إلى صياغة قانون خاص بالتداول الحضاري عندهم وفقا لخصائصهم الطبعية مما حكم النظرة الخلدونية للحضارة على أنها ترف بالكماليات، في حين أن التكونولوجيا المعاصرة بما يمكن أن يعدَّ ترفاً كمالياً تحيل إلى تقدم التجربة الروحية، مما يجعلها تندرج ضمن الضروريات التي بها يتحول طبع الإنسان من التوحش والبداوة إلى التمدن والحضارة، تماماً كما لاحظ مالك بن نبي تحوُّلَ ملامح أوجه رجال انتقلوا من طور الأمية إلى التعلم.
ختاما نخلص مما تقدم إلى أن الجهد الحضاري [في عالمنا العربي والإسلامي] ينبغي أن يسير في اتجاهين هما:
أولا: البحث عن الجذر القرآني للحضارة الإسلامية داخل الحضارة الأوروبية وامتداداتها في الحاضر إلى حضارة عالمية لا تعترف بالحدود، بالتنقيب عن أسس تطبيقات العلم الخارقة للزمان والمكان سننياً بما يحيل إلى فلسفة انخرام الفواصل الزمانية والمكانية، بمعنى استكمال مرحلة التلقي التي ابتدأت بتلقي الوحي من السماء، مروراً بالتفاعل الحضاري الداخلي بين المكونات الإثنية للمجتمع المسلم والخارجي بين الأنساق الحضارية المحيطة.
ثانيا: البحث عن جذر القرآن التاريخي ابتداء بأول المسلمين النبي إبراهيم وامتداده في الماضي إلى أنبياء بعثوا إلى الأقوام ذات الرقعة المحدودة، فالكعبة التي بناها الخليل ليتجمع فيها الناس من كل إنحاء العالم يحيل إلى فلسفة ذات أبعاد كونية، بمعنى الدخول في مرحلة البث التي ستحدد بالواقع المستقبلي بإذنه تعالى.
ليتمركز البحث حول الإسلام الجغرافي والتاريخي بالإنطلاق من حدوده؛ سعياً إلى استكناه جوهر الرسالة الإسلامية التي تتمحور في الجهة السالبة منها حول القرآن الكريم، من حيث طبيعته وفلسفته في الإصلاح والتوجيه، وحول النبي الأمي (صلى الله عليه وسلم) وتجربته بدراستها من حيث كونها خلاصة للتجارب الروحية النبوية السابقة، وكونها كذلك تجربة سياسية اجتهدت في ربط النسبي بالمطلق، ثم بحثه أيضاً من الجهة الموجبة بمضمون القرآن والتعمق في استكناه روح الحضارة الأوروبية بامتداداتها المعاصرة، والمهيمنة بعالميتها على الواقع الكوني الراهن في المجالين التقني والسياسي (الأيديولوجي المكرس لمفهوم الإيغوسونتريزم الغربي)، بما لا يترك المجال لاستبصار أي مجال آخر يحقق إمكانية الانفلات من النمط الحضاري الدّارج والخروج إلى آفاق وعي تاريخي محرر لا يرى في السياسة إلا وجهها التنظيمي للمضمون الجوهري الروحي للإنسان، الذي تعمل التقنية على إحالته إلى واقع كوني.