التجديد ربما يفسد أحيانًا، لكن التقليد المحض يفسد إفسادًا مطلقًا
اكتسب تعبير "التجديد" شرعيته من وروده في حديث نبوي شهير، ومع ذلك شهد عبر تاريخه التباسًا واشتباهًا أيضًا، نتيجة التنازع حول شرعية مدلوله، وهو وإن كان في التراث الإسلامي كاد أن يطابق مفهوم "الاجتهاد" بالمعنى الفقهي، فإنه بدءًا من بدايات القرن العشرين تحول من النص إلى الخطاب، واكتسب زخمه بعد خفوت وهج مدرسة الإصلاح التي نسبت لمحمد عبده رحمه الله والتي قامت على أساس الوعي بالعصر، وبالفجوة الماثلة بين الغرب والعالم الإسلامي، وكانت فكرة مناهضة الاستعمار (الأوربي) والهيمنة الثقافية تقع في القلب من انشغالاتها. ومع ذلك بقي مشروع التجديد قاصرًا على فئات نخبوية ولم يتحول إلى عمل مؤسسي واسع، فضلاً عن حديث الصحافة.
لكن خطاب التجديد أو الإصلاح، منذ تاريخ 11 سبتمبر شهد تحولات مثيرة، فتحول من قرار داخلي، إلى مطلب خارجي للاستعمار الجديد (الأمريكي) ليسري بعد ذلك إلى قرار سياسي، وتلهج ألسنة النخبة الثقافية، والمؤسسة الدينية الرسمية بالحديث عنه، ويتحول إلى حديث الصحافة اليومية ويدخل فيه كل الاتجاهات الفكرية والدينية، ومن هم خارجها أيضًا.
هذا البحث يدرس كيف تحول هذا الخطاب إلى موضوع اهتمام كل الشرائح السابقة، ويحاول أن يفسر كيف تحول الحديث بعد 11 سبتمبر من حديث عن الإرهاب، إلى حديث عن إصلاح العالم العربي، وتجديد الخطاب الديني، ليدرس جدل الداخل والخارج، ومفهوم التجديد المطلوب بحسب الاتجاهات المطالبة به، وكيف تحول التجديد من مطلب للإصلاحية الإسلامية إلى مطلب للإصلاحية الأمريكية، ومصير مشروع التجديد الإسلامي في هذا الجدل، وكذلك مصير المشروع الأمريكي، معتمدًا على جدل الديني والسياسي.
يعتمد البحث على المنطق التحليلي والرؤية المركبة للأحداث، ولكون الحديث يعتمد ابتداء على رسم ملامح الرؤية الأمريكية فقد نضطر أحيانًا إلى الوقوع في اللغة التقريرية، ومع ذلك فإنها لن تخلو من تحليل بوضعها في سياق غيرها، لرسم الإطار الكلي الحاكم للرؤية.
أما بخصوص المفاهيم التي تشكل زاوية مقاربة الموضوع والتحليل فلن نخوض في رسم جوهرها، والجدل في ذاتها، وخصوصًا العنف والإرهاب، لأن ذلك سيخرج بنا عن وجهة البحث، وحين نستخدم تعبير "الإصلاحي" فنستخدمه بشكل إجرائي لا قيمي، لوصف تلك الممارسات التي تتم، الإيجابي منها والسلبي.
وفيما يخص ثنائية الإسلام والغرب، فهي وإن كانت مغلوطة، لكن ذلك لا ينفي وجودها واستعمالاتها، والمبرر لهذا الاستعمال هو أن السياسة - والأمريكية تحديدًا- لا تكاد تفرق بين "الإسلام" و "المسلمين" عمليًّا، لأن المنطق السياسي غير معنيّ كثيرًا بالناحية التجريدية المعرفية فهو معني بما هو عملي.
والأهم هنا أنه لا يمكننا الحديث عن مصطلح أمريكي محدد سواء "تجديد" أم "إصلاح" أو غير ذلك، ويبدو أن "الإصلاح" هو الأكثر، وهذا الإرباك سرى إلى الخطاب العربي الثقافي والديني والرسمي، فلا يمكن الحديث فيه عن "مصطلحات" محدودة بحد، فالسياسي مثلاً تارة يعبر بالإصلاح، وأخرى بالتطوير، وثالثة بالتجديد، والديني وجد في "التجديد" مفردة لها شرعيتها النصية فألح عليها، والأمر نفسه سرى إلى الثقافي. هذا الإرباك أوقع البحث في مشكلة تحديد المصطلح، ولذلك هو سيتعامل مع هذا بناء على المعنى العام في الرغبة في الارتقاء إلى مستوى العصر واستلهام الروح الإسلامية، وهو ما قامت به إصلاحية عبده. كما أن الربط بين الإصلاحية الأمريكية والإصلاحية الإسلامية يتم ضمن إطار درس رد الفعل، ومن زاوية وجود "الاستعمار".
وبما أن البحث يركز على جدل الديني والسياسي فإن التحليل يستعين بالتحليلين المعرفي والسياسي، ويتردد بينهما.
1. سؤال البحث عن إطار تفسيري للسياسة الأمريكية
ربما يثير عنوان البحث "تجديد الخطاب الإسلامي بعد 11 سبتمبر" - بمفرده - بعض الغموض، فهل سيتم الحديث عن جهود التجديد بعد 11 سبتمبر، أم عن خطاب التجديد؟ ولماذا "11 سبتمبر"؟ وهل هي مجرد تأريخ كغيرها من التواريخ التي يمكن أن تستخدم في التحقيب التاريخي لقضية ما؟ أو أنها "تقويم جديد" كما سبق لي ولغيري وسمها؟ وهل يمكن اعتبارها - مرحلة الـ "ما البعد" - لحظة حاسمة تغير كل شيء بعدها عما كان عليه قبلها؛ بحيث تُلحق - بما هي مرحلة - بسلسلة المفاهيم الكبرى التي وُسمت بالـ "ما بعدية" (ما بعد الحداثة، ما بعد الاشتراكية، ما بعد ..)؟(1). ( )
يأتي تحديد "11 سبتمبر" هنا بعيدًا عن أي انحيازات، وخارج التفكير بالخصوصية والغربية، والما بعدية، فهو مجرد تأريخ بيوم شهد حدثًا "عالميًّا"، وعالميته ليست نابعة من كونه أمريكيًّا، بل لأنه استهدف رموزًا مركزية في النظام الاقتصادي العالمي، ولكون العالم شهد بعده متغيرات سياسية واقتصادية وقانونية وثقافية، ودينية أيضًا، كان المهيمن فيها أمريكا.
تنوعت زوايا مقاربة الحدث، وتفسيراته، من الديني والسياسي، إلى الحضاري، والثقافي-النفسي، والبنائي، لتخرج بنتائج مختلفة تتفاوت من كونه عداءً "للحداثة" وردًّا عليها .. إلى كون تنظيم "القاعدة" وليد الحداثة السياسية، وتعبيراته ومفرداته وتحولاته قادمة من رحم المشروع الحداثي!(2) ( ).
لكن يبدو الملمح الثقافي-الديني طاغيًا في تحليل الحدث ورمزيته، على الأقل في الرؤية الغربية، وتحديدًا الأمريكية، من بدء الحديث عن "الفاشية الإسلامية" و "الأصولية الإسلامية" و"الإرهاب الإسلامي" مرورًا بالسؤال الأمريكي العريض: "لماذا يكرهوننا؟" الذي يحيل المسألة إلى عداوة "للعالم الحر" كما عبر جورج بوش الابن مرارًا، وانتهاء بالممارسات الأمريكية حول "نشر الديمقراطية في البلدان العربية والإسلامية"(3)( ) و "تأهيل" المسلمين ثقافيًّا ليكونوا ديمقراطيين، و "تغيير" مناهج التعليم لنشر ثقافة التسامح والحرية(4)( ).
طغيان الملمح الثقافي ربما يكون نتيجة سيادة المنظور الثقافي في التحليل السياسي في ظل العولمة والحديث عما سمي بـ "صراع الحضارات" بحيث يتم التركيز على دور الأفكار والقيم في التفاعلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعندما قويت الكتابات الغربية في اهتمامها بالقيم والأفكار وتأثيرهما على السلوك السياسي، صارت الغلبة لهذا المنظور(5)( ). ومع ممارسات "تنظيم القاعدة" وخطابه الديني-السياسي المشبع بالعنف ضد "الكفرة" من "اليهود والصليبيين" وحديثه عن "حتمية الصراع بين الإيمان والكفر" تحول الإسلام إلى مشكلة عالمية، واتسع الصراع عليه - تفسيرًا وتوظيفًا – ليشمل كل التوجهات الإسلامية وغير الإسلامية، المتفقة والمختلفة مع القاعدة، والأنظمة السياسية العربية، والغرب وخصوصًا أمريكا صاحبة مأساة سبتمبر، بمعنى أن "مصائر الإسلام التي كانت موضع نزال بين الإسلاميين والأنظمة العربية والإسلامية صار يشارك في تحديدها –أو يحاول ذلك- كل من يعتبرون أنفسهم متضررين من المتشددين المسلمين في العالم"(6)( ).
بذلك أوجدت أحداث سبتمبر "مشروعية" - بمنظور أمريكا؛ "المتضرر" الأكبر من "الإرهاب الإسلامي"– للحديث عن التغيير والإصلاح، على مستويات مختلفة، وبأدوات مختلفة – بما فيها القوة العسكرية في أفغانستان والعراق – ومن ضمن مشروع التغيير هذا كان: "نشر الديمقراطية في البلدان العربية والإسلامية" و"تجديد الخطاب الديني" - الإسلامي تحديدًا – وتغيير مناهج التعليم، وملاحقة الجمعيات الخيرية، تحت عنوان "الحرب على الإرهاب" الذي صكته لهذا المشروع الطويل غير المحدود - زمانًا ومكانًا ومفهومًا –.
الخطاب الأمريكي بدأ بإعلان "حرب صليبية" في خطبة ممهدة لحربه على أفغانستان، أثارت الكثير من اللغط في العالم، لتفتح باب التأويلات واسعًا، وتذكي التفسيرات "الدينية" للفعل الأمريكي، ومع كون بوش الابن تراجع عنها لاحقًا، فإنها بقيت "زلة لسان" تعكس معتقده بنظر الكثيرين في العالم الإسلامي، ليتمّ استعادتها عنوانًا للحرب على العراق أيضًا(7)( ). شعار "الحرب على الإرهاب" غير المحدود بحدّ، ومقولة "الحرب الصليبية"، والحديث عن "الإرهاب الإسلامي" والممارسات الأمريكية التي طالبت بتجديد الخطاب الديني وتغيير المناهج الدينية (الإسلامية)، والحديث عن النزعة الإيمانية لدى بوش وفريق إدارته اليميني(8)( )، كل ذلك حمل على الاطمئنان لهذا التفسير الديني-العقدي، وجعل من "الحرب على الإرهاب" حربًا على الإسلام نفسه(9)( ).
وإذا كان ارتباط المنظور الثقافي بالعولمة أزكى الاهتمام بدور الخطاب الديني، ليصبح تحليل الخطاب الديني حقلاً معرفياً أصيلاً في مجال العلوم السياسية، فإن حادث 11 سبتمبر وخطاب القاعدة والخطاب الأمريكي المتمركزين حول ثنائيات حدية تبسيطية (إيمان/كفر) و(خير/شر)، والممارسة الأمريكية، أعادت الدين (الإسلام تحديدًا) إلى جوهر الصراع، وأنعشت المخيلة الغربية المشبعة بفوبيا "التهديد الإسلامي"، الذي يمثل لها "نوعًا من التقهقر والعودة إلى أزمنة غابرة"(10)( )، بالاتكاء على رمزية الحدث البالغة وإيحاءاته المساندة لذلك التصور. ومع مصير "الإسلام/الخطاب الديني" في جوهر "الحرب على الإرهاب"، بدأ الحديث من 20 سبتمبر 2001 على لسان بوش وغيره عن "استنقاذ الإسلام" من خاطفيه، ليصل في منتصف سنة 2002م إلى الحديث عن "تجديد الخطاب الديني" وقائمة المطالبات الأمريكية التي منها تغيير مناهج التعليم الديني.
الحديث الأمريكي عن "تجديد الخطاب الديني"، و"تغيير مناهج التعليم الديني"، المتزامن مع الاحتلال العسكري لأفغانستان والعراق، الذي اتخذ عنوان "الحرب الصليبية" أعاد من جديد جدل "التجديد" مصطلحًا ومفهومًا ومشروعًا، لنشهد سيلاً من الكتابات الصحفية(11) ( )، والندوات والمؤتمرات حول "تجديد الخطاب الديني"(12) ( ) وليشترك فيها كل الاتجاهات الفكرية؛ ما أدى - بالمقابل - إلى استعادة تعبير "الإسلام الأمريكي" لسيد قطب.
هذه الأحداث أوجدت الكثير من التعقيدات والجدل الداخلي، والداخلي – الخارجي، وعلى مستويات مختلفة: ديني، سياسي، معرفي، ثقافي. ويحتاج النظر فيها وفض الاشتباك بينها إلى مقاربات مختلفة لشدة تعقيدها، وإرباكها وسيطرة الإجابات البسيطة على أسئلتها. وما يهمنا هنا هو سؤال التجديد الديني والإشكالات التي تحيط به. فنحن إزاء ظاهرة فريدة تاريخيًّا؛ إذ تحول سؤال التجديد الديني من مطلب داخلي تجسد على يد "الإصلاحية الإسلامية" من الاصطدام بالاستعمار، وعلى أساس الاشتباك مع العصر على قاعدة الإحساس بحركة التاريخ، ووعيًا بالفجوات الماثلة في المعرفة الدينية، تحول إلى "مطلب" للاستعمار الجديد ليغدو خطاب التجديد إرغامًا أيديولوجيًّا بعد 11 سبتمبر يشكل "الإرهاب" وحسابات الأمن القومي الأمريكي زاوية مقاربته.
هذا التحول المثير، يفتح الجدل واسعًا حول أسئلة متعددة يمكن أن تثار أيضًا بخصوص تحول الديمقراطية إلى إرغام خارجي أيضًا. من ضمن الأسئلة: هل يمكن أن يكون سؤال التغيير والتجديد رهنًا بإرادة السياسي؟ وما آثار تحول السؤال إلى مطلب خارجي، والخارج هنا هو الاستعمار الجديد؟ والسؤال المركزي الذي دفع إلى طرح مطلب التغيير السياسي والتجديد الديني هو منشأ الإرهاب، وما علاقته بالدين والسياسة الداخلية والخارجية؟ وأي انعكاسات ستكون للمطلب الأمريكي على مشروع التجديد الإسلامي؟ وما مصير مصطلح التجديد حين يتحول إلى عنوان لفعاليات حكومية متعددة، ومؤسسات دينية "رسمية"؟ بل حين يتحول مناهضو الخطاب الإسلامي إلى حملة لواء التجديد، ومهمومين بمشروعه؟ وما مفهوم التجديد في خطاب هؤلاء جميعًا؟ وهل يمكن أن يتم التجديد في ظل الاحتلال والتهديد العسكري وفقدان الأمن والاستقرار؟ ثم ما علاقة التجديد الديني بالتغيير السياسي؟
أسئلة كثيرة يمكن أن تثار هنا، سيحاول البحث مقاربة بعضها من خلال درس الجدل بين السياسي والديني، وإلى أي مدى يعوق السياسي الديني ويلونه بالمصالح والأغراض السياسية.
2. "الإرهاب": سؤال المفهوم .. وحرب الأفكار
شكّل حدث 11 سبتمبر - بوصفه "إرهابًا" ولّد ما سُمي "الحرب على الإرهاب" - منعطفًا أساسيّا وتحوّلاً جذريّا لنوعيّة الخطاب والممارسة في السياسة الخارجيّة الأميركيّة، والأخطر من ذلك أن هذا التحدّي قد أتى من كيان غير معترف به في كل من القاموسين السياسي والدبلوماسي على الصعيد العالمي. ومقاربة السلوك الأمريكي في حربه المعلنة من منظور ديني، يبدو مريحًا إذ يمكن تفسير الممارسات الأمريكية على أنها "حرب على الإسلام" وهو ما مال إليه الكثيرون، خصوصًا من التيارات المتوافقة أو المتعاطفة مع توجهات "القاعدة". غير أن هذه الممارسة المتشعبة والمربكة أحيانًا في وضعها ضمن إطار تفسيري كلي يمكن مقاربتها من زاوية بالغة الأهمية وهي زاوية المفاهيم لمحاولة الإمساك بالرؤية الموجِّهة لهذه السياسات وتقلباتها في مراحلها المتعاقبة منذ الحدث وحتى الآن.
إنه ما من شك أن الحدث/المأساة الذي انفلت من محيطه ليصبح كونيًا بفعل عوامل كثيرة، جعل أبعاده الرمزية والعاطفية والسياسية والقانونية والثقافية والاقتصادية لها وزنها في تحديد توجهات المستقبل، وإعادة صياغة العالم من جديد في نظام ما بعد 11 سبتمبر، لكن الشيء الثابت فيه هو الهيمنة الأمريكية مرة أخرى.
هذه الشحنة الانفعالية وما ولَّدته من شظايا أفعال على الصعيد الدولي سبقها وأعقبها وصاحبها شعارات وحملات إعلامية أحدثت ثورة مفاهيمية(13) ( ) اختلطت فيها السياسة بالثقافة والدين؛ ما يجعل من قضية المفاهيم قضية مركزية تجب مساءلتها واستثارة مكنوناتها وكيف يمكن للألفاظ أن تُكيَّف لتستوعب المصالح وتغيراتها، وكيف أمكن استثارة أبعاد دينية / عقدية للأحداث والكلمات (صليبية، الإرهاب، العدالة، الحرية ...).
غير أن المفهوم المركزي الذي يصلح للمقاربة من زاويته هو ما ولّده الحدث نفسه (الإرهاب)، والذي سوّغ انطلاق الحرب عليه، والتي كانت عنوانًا لكل الممارسات الأمريكية بدءًا من الحرب على أفغانستان والعراق وصولاً إلى نشر الديمقراطية وتجديد الخطاب الديني وتغيير المناهج. هذا المفهوم غير المحدود، والمرن لدرجة زاد فيها الخلط حتى تحمّل "المصطلح" بأكثر مما يحتمل معناه، الأمر الذي جعل من الإشكالية تتخطى حدود الديني والثقافي والسياسي، إلى الوطني والقومي والعقدي حين يشمل الإرهاب كل فعل إسلامي خاصة، وفلسطيني مقاوِم دفاعًا عن النفس والأرض.
لكن سؤال مفهوم "الإرهاب" هذا سيضعنا مرة أخرى أمام تعقيد يصعب معالجته من منظور فكري (مفهومي) فقط، وفي هذا السياق نفهم جيدًا معنى قول ديفيد فروم وريتشارد بيرل (من المحافظين الجدد): "ليست كلماتنا مقنعة, وهذا ليس فقط لأن السكان في الشرق الأوسط لا يصدّقون ما نقوله, لكن أيضاً لأننا, نحن وهم, لا نتفق على معنى الكلمات التي تشكل قاموسنا الأخلاقي. فالأميركان وأهل الشرق الأوسط قد يوافقون, مثلاً, على أن من الخطأ قتل حياة إنسانية بريئة. لكننا لا نتفق على من هو "البريء" ومن ليس هو"(14) ( ). فالكلام يحيل إلى افتراق في الكونين المفهوميين صادر عن أسباب أشد تعقيداً من فكرة "صراع الحضارات" أو العداء للإسلام.
إن النظر إلى "الحرب على الإرهاب" وفضاءاتها المتعددة، من العسكري (الاستعمار)، والسياسي (تغيير الأنظمة ونشر الديمقراطية)، إلى الديني (المحافظون الجدد يطالبون بالتجديد الإسلامي)، والثقافي (تغيير المناهج ومفرداته) : يفرض التعامل معها برؤية مركبة لا يكفي فيها النظر في حدود "الأمن القومي الأمريكي" ومتطلباته فقط، بل لا بد - أيضًا - من استعادة عقيدة "التهديد الإسلامي" الكامنة مسبقًا في مخيلة الرأي العام الأمريكي والغربي والمتشخصة في أحداث سبتمبر وخطاب القاعدة، وفي تهديد وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة، وكذلك حضور حلم الإمبراطورية الأمريكية "المزدوج المقاصد في الشرق الأوسط: يبسط السيطرة على أرضه (باعتبارها قلب العالم من بداية التاريخ وحتى حاضره) ويمد يده إلى مكامن البترول تحتها (باعتبارها محرك التقدم المضمون حتى هذه اللحظة)" (15) ( ). وحتى حينما تحولت "الحرب على الإرهاب" من نيويورك إلى كابول، ثم من كابول إلى بغداد، "كانت هناك أحوال إنسانية، وصراعات سياسية، ومطالب إمبراطورية، وضرورات بترولية، ولوازم انتخابية"(16) ( ) تقف وراء السياسة الأمريكية وحربها.
ومن ضمن هذه الرؤية المركبة تبدو الولايات المتحدة, ولا سيما "المحافظين الجدد", معنيّة بالموضوع الأيديولوجي تغييراً لمناهج تعليم, أو حضاً على تأويل أشد عصرية للدين في البلدان الإسلامية, أو نشراً وتعميماً لمنتوج أميركا الثقافي، فضلاً عن "عقيدة" أمن إسرائيل التي تشكل ثابتة من ثوابت السياسة الأمريكية بغض النظر عن الإدارة الحاكمة في البيت الأبيض(17) ( ).
وعلى هذا، فـ "الحرب على الإرهاب" – بمفهومه الواسع وغير "التقليدي"(18) ( ) – اتسع ليشمل "حرب الأفكار"(19) ( ) بناء على التشخيص الأمريكي للعنف والإرهاب "الإسلامي" وأسباب توليده، ومن ثم وسائل مكافحته التي تنوعت من "تجديد الخطاب الديني" والضغط على بعض المؤسسات الدينية (كالأزهر) إلى تغيير المناهج وإقامة المحطات الإعلامية لنشر خطابها مباشرة(20)( ).
3. الإرهاب: سؤال الباعث والمنشأ
إن سؤال مفهوم "الإرهاب" وتعقيداته يشكل أنموذجًا لمقاربة الأزمة البالغة التعقيد بين الغرب والشرق الإسلامي تحديدًا، أو ما يُعبر عنه بثنائية (الإسلام والغرب) حين تستحيل الأزمة إلى العمق في الافتراق بين فضاءين مفهوميين كونيين يشتملان على الكثير من المفاهيم المفترقة (الإرهاب، الاحتلال، الحرية، العدل، التسامح ...) تنتمي إلى قاموسين أخلاقيين. وحين تفترق المفاهيم وتعلن حرب الأفكار هنا، يكون من الطبيعي الافتراق في سؤال يتصل اتصالاً وثيقًا بسؤال المفاهيم، وهو: ما الباعث على الإرهاب؟ وما دوافعه؟ وكيف نشأ؟ . الإرهاب ليس عفويا أبدًا والمرء لا يُخلق إرهابيًا. إنه "يصبح إرهابيًا"، و"الإرهاب" هو "ثمرة مرة" لظواهر ومسارات. لكن ما هي؟
إن "الفهم" يعني إدراك آليات العمل، و"الانفعال" الذي تلبّس بردود الفعل تجاه الحدث حجب كثيرًا من إمكانات فهم آليات الفعل نفسه فضلاً عن أن اختلاف المفهوم وحدوده وأخلاقياته في ضوء مجمل العلاقة المأزومة تاريخيًّا بين الغرب والشرق الإسلامي والتباسات رمزية الفعل نفسه (هل هو ردّ سياسي؟ أو ديني؟ أو نفسي؟ أو حضاري؟) لم تكن تسمح بغير التفكير باتجاه: "لماذا يكرهوننا؟"، و "إنهم يستهدفون العالم الحر"! هذا السؤال والجواب الذي مثَّل ما يشبه رأيًا عامًّا غربيًّا لم يكن يقدر على الفكاك من الربط بين "فهم" الحدث، وبين "الموقف" منه، بمعنى عدم القدرة على الفصل بين ما هو إجرائي وما هو قيمي لتسود مقولة: إن الفهم يعني الصفح.
ثم إنهما (السؤال والجواب) انتهيا إلى إحالة المشكلة إلى "شأن داخلي" إسلامي وعربي ما يعني استبطان نزاهة وطهارة الذات الغربية من أي شبهة تجاه مسببات الفعل، وهو ما يعكسه السؤال المفعم بالبراءة الساذجة: لماذا يكرهوننا؟ هذا الاعتقاد المستبطن والتحليل المنبني عليه هو ما ولّد الاعتداءات الكثيرة التي وقعت على المسلم والعربي (بألـ الجنس).
في سؤال الكراهية هذا الذي يفسر "أيديولوجيا الإرهاب" يكمن تفسير جزء كبير من ملامح السلوك الأمريكي تجاه المسلمين والعرب، فالرئيس الأمريكي يوصف "الحالة الإرهابية" فيقول: "إن الذين يغذون الكراهية يريدون أن يوجدوا انشقاقًا بين الشرق والغرب ... وعندما يذهب إرهابيون في مهمات انتحارية وقتل، فهم يشوهون التعاليم الأخلاقية السامية للإسلام نفسه. فطموحهم الحقيقي هو أن يسيطروا ويتحكموا ويعيدوا قولبة مجتمعات بأكملها وفق صورتهم القاسية". "إننا سنستخدم نفوذنا ومثاليتنا لاستبدال الكراهيات القديمة بآمال جديدة عبر الشرق الأوسط"(21) ( ).
هذه الكراهية للغرب، ولأمريكا تحديدًا، تم تشخيصها في الرؤية الأمريكية بفكرة "محضن الإرهاب" إذ تغدو البيئة العربية (موطنًا) والإسلامية (فكرًا) محضنًا لهذا الإرهاب الذي يشوه "التعاليم الأخلاقية السامية للإسلام" –بتعبير بوش- أو يشوه "تقليد الإسلام في التسامح والاعتدال" –بتعبير ولفويتر-(22) ( ). ويمكن تلخيص التشخيص الأمريكي للإرهاب بقول جوزف ليبرمان: "إن العالم الإسلامي تلم به ظروف سياسية واقتصادية وثقافية أدت على مدى الجيل المنصرم إلى تقليص الحرية وزادت العزلة، والقمع، والغضب المعادي للأميركيين. وانطوت تلك على عدم التكافؤ في المداخيل، وعزلة سياسية واقتصادية، ..وبلقنة ثقافية، .. والقليل من الديمقراطية - هذا إذا وجدت - التي يمكن من خلالها حل الصراعات. وفي هذا المستنقع تعاظم الإرهاب الإسلامي - إذ لم يتنام هذا في فراغ. ونحن في أميركا نمثل هدفه المفضل، لا لأننا دولة كبرى وقوية فقط، بل لأن قيمنا التي نعز، وهي الحرية والفرص والتسامح والديمقراطية تمثل القيم النقيضة لها"(23).( )
فمشكلة الإرهاب إذن: داخلية بنيوية، وهي متعددة الأسباب: سياسية، واقتصادية، وثقافية وهذا ما يجعل منها بيئة خصبة "لتربية المتطرفين والإرهابيين"، ولذلك محاربة الإرهاب ستكون على هذه المستويات جميعًا بالإصلاح السياسي والتعليمي والاقتصادي(24) ( ). وهنا يأتي الحديث عن الديمقراطية، والحرية، والإصلاح الديني والتعليمي(25)( ) لبناء ثقافة تعلم التسامح وتتقبل الآخر، وتنهي حالة الكراهية والتطرف، "فالعالم الديمقراطي هو عالم مسالم أكثر".
ولأن "الإرهابيين" يستهدفون "القضاء على الطموح إلى الحرية والسلام"، "يجب أن تشن هذه الحرب بصورة مشددة أكثر في العالم الإسلامي بالذات". وهذا كله يأتي في إطار "مصلحة ذاتية" لأمريكا في تحقيق ذلك وهو ما تؤكده "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة"(26)( ). تتجسد المصلحة في أن "الهوة المتزايدة بين العديد من الأنظمة الإسلامية ومواطنيها قد تعطّل قدرة تلك الحكومات في التعاون حول قضايا ذات أهمية حيوية بالنسبة للولايات المتحدة. هذه الضغوطات الداخلية سوف تحدّ كثيراً من قدرة العديد من أنظمة العالم الإسلامي على توفير العون، أو حتى الموافقة على الجهود الأمريكية الرامية إلى مكافحة الإرهاب أو التعامل مع انتشار أسلحة الدمار الشامل"(27)( ).
4. الإصلاح الأمريكي: سؤال المصالح والبديل "الإسلامي"!
هذه الرؤية الأمريكية المصرّح بها في خطابات أمريكية عديدة تعني أن السياسة الأمريكية شهدت تحولاً جوهريًّا بعد 11 سبتمبر، فقبله كانت سياستها ترك الشأن الداخلي للأنظمة الحاكمة (الصديقة والعدوة) مقابل تأمين مصالحها الحيوية في المنطقة، وإبعاد شبح وصول الإسلاميين إلى السلطة الذين يشكلون تهديدًا مؤكدًا للمصالح الأمريكية، وبعده تحولت السياسة الأمريكية إلى التوغل في البنى الداخلية للمجتمعات العربية والإسلامية باعتبارها "المولّد الأساس للإرهاب". هذا التحول سيثير الكثير من الإشكاليات التي تحتاج إلى بحث، لأنه سيتجاوز قضايا السيادة والخصوصيات الثقافية والدينية، وسيعيد فتح ملف علاقتها مع الإسلاميين الذي شكلوا على الدوام "البعبع" الذي دفعها إلى دعم "الديكتاتوريات" الحاكمة، فهم لا يزالون يشكلون نبض الشارع والبديل الذي من المؤكد أنه ستأتي به الديمقراطية الأمريكية إلى السلطة. فضلاً عن الإشكاليات البنيوية في قضية الديمقراطية والإصلاح وهي يمكن أن تأتي من الخارج؟
المهم هنا أن ريتشارد هاس تحدث بصراحة عن بعض هذه المخاوف، حين تكلم على إنهاء ما أسماه "الاستثناء الديمقراطي"، حين قال: "في بعض الأحيان، تجنّبت الولايات المتحدة النظر بتعمّق في الأعمال الداخلية للبلدان لصالح تأمين دفق متواصل من النفط، ولكبح التوسع السوفياتي والعراقي والإيراني، وللتعامل مع القضايا المتصلة بالنزاع العربي - الإسرائيلي، ومقاومة الشيوعية في شرق آسيا، أو تأمين حق الحصول على القواعد لقواتنا العسكرية"(28)( ). والآن هي تلغي حالة "الاستثناء الديمقراطي" لمصلحة ذاتية أيضًا – كما يصرح - وهي "محاربة الإرهاب" من مركزه.
بل إن "هاس" يدرك أن "التحرك المفاجئ نحو الانتخابات الحرة في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية قد يأتي بالأحزاب الإسلامية إلى الحكم. لكن السبب – كما يرى- لا يكمن في كون الأحزاب الإسلامية تتمتع بثقة السكان الساحقة، بل لأنها في الغالب المعارضة المنظمة الوحيدة للحالة الراهنة التي تجدها أعداد متزايدة من الناس غير مقبولة". لكن لا يبدو أن هذا الرأي محسوم لدى الإدارة الأمريكية خصوصًا أنه صادر قبل احتلال العراق (حيث ظهر فيها الوزن الإسلامي الشيعي المتمثل بالمرجعية) (29)( ) ولا يخفى أن الحركات الإسلامية حققت تقدماً سياسياً في أكثر من بلد في السنوات الثلاثة الأخيرة، وفي هذا السياق يمكن لنا قراءة محاور اهتمامات "ما بعد 11 سبتمبر" والتي نشط فيها الحديث عن "العلاقة بين الإسلام والغرب" وتفنيد مقولة صدام الحضارات، وبشكل أخص الحديث عن "الحوار الأمريكي الإسلامي" و "دور الجماعات الإسلامية في الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط"(30)( ) وهو ما يمكن قراءته في ضوء التوجهات الأمريكية الجديدة على أنه محاولة للتعرف عن قرب على ما طرأ من تغيير في أفكار الإسلاميين بخصوص القضايا الإشكالية (تم الإلحاح على مسألة موقفهم من الديمقراطية والمرأة في مؤتمر الكويت)، واختبار مدى إمكانية صيانتهم لمصالحها فيما لو حملتهم الديمقراطية إلى السلطة، بل إن هذا العنوان الأخير قرئ على أنه "بحث أمريكي عن شريك إسلامي معتدل"(31)( ). خصوصًا وأن قسمًا من الأوساط الأكاديمية الأميركية أصبح لا يتردد في التأكيد على أنه "لا يمكن قيام أنظمة ديموقراطية في المنطقة دون إشراك الإسلاميين"(32)( ).
غير أن هذه القناعة تعيد فتح كثير من الأسئلة الإشكالية، وتضعنا في قلب إشكالية العنف ومولّداته وشرعية الأنظمة القائمة وحسابات المصالح الغربية والأمريكية، والعلاقة بين الإسلام والغرب، ما ينذر بتوتر كبير وإعادة بناء المنطقة وحساباتها. فليس من الممكن لمناقشة التحولات السياسية المطلوبة في المنطقة أن تتقدم دون أن تجيب على سؤال: هل هناك خطر إسلامي حقيقي يقفل باب الديمقراطية ويهدد أي تحول ديمقراطي؟ وهل من الممكن تصور تحول نحو الديمقراطية لا يتبعه تسلط للقوى الإسلامية "المتطرفة" على الحكم، وبالتالي لا يترجم بالضرورة بإهدار حقوق وحريات الأفراد وبعودة منتصرة لنظم استبداد دينية أكثر قسوة من نظم الاستبداد القائمة شبه العلمانية؟ وهل يمكن إنكار أن العنف الاستثنائي الذي أظهرته بعض الحركات الإسلامية المتطرفة - ولا تزال تظهره بشدة تجاه الغرب بشكل خاص - هو الذي يدفع هذه الدول إلى تبني النظم المستبدة والتمسك بمبدأ الوصاية على المنطقة التي تشكل بؤرة مصالح استراتيجية كبيرة ومعترف بها؟ (كما يحلو للأنظمة الاستبداية تصويره).
إن إعادة فتح هذه الأسئلة والتفكير فيها (وبعضها مسلّمات قامت عليه توازنات العلاقة بين الدول الديمقراطية والأنظمة الاستبدادية) يعيد النظر في "شرعية" الأنظمة القائمة أساسًا على "العنف" المفترض من الإسلاميين، فمن خلال التلويح بالبعبع الإسلامي سعت الأنظمة إلى تخليد نفسها وتأبيد زعاماتها وإضفاء شرعية ثانوية عليها بررت الحفاظ على سياساتها القمعية التقليدية وعوضتها عن الافتقار للشرعية السياسية المستمدة من القبول والموافقة الشعبية(33)( ).
جملة هذه الإشكاليات التي تواجه الأمريكيين في مشروعهم لـ "إصلاح العالم العربي" فضلاً عن "اكتشافاتهم" التي أسفر عنها الدرس العراقي (فالبعث لم يفلح في علمنة المجتمع، والنخب التحديثية تراجعت) عقّدت المشروع، وربما شكّل هذا مدخلاً للحديث عن إصلاح ثقافي (تعليمي وديني) لحل هذه الإشكاليات بإعادة تشكيل وصياغة مواطن التوتر بين الغرب والإسلام، واجتثاث جذور الكراهية التي تولّد الإرهاب. وهذا بالتأكيد يشتمل على الأيديولوجي والمصلحي، وبدا أن هنالك مقاربة أمريكية لحل الإشكاليات من زاوية فض الاشتباك بين المصالح والمعتقدات عن طريق البحث عن "شريك إسلامي معتدل"، هذا الفصل يمكن أن ينشئ علاقة متوازنة وتضمن تحقيق المصالح، في الرؤية الأمريكية، ولذلك تم الإلحاح على استبعاد القضايا المركزية في السياسة الأمريكية وإقفال باب النقاش حولها (إسرائيل، العراق ..)، وهذا طُرح أيضًا من قبل بعض الإسلاميين(34)( ) . وهي مقاربة ترى أن تلك العلاقة يجب أن "تتحرر" من القضايا الكبرى, وأن لا تظل "أسيرة" المسألة الفلسطينية.
5. المشروع الأمريكي: تحديث الإسلام
ولكون الولايات المتحدة لم تجد الشريك المطلوب فيما بدا، ولكونها غير قادرة على حل الإشكاليات التي توتر العلاقات بينها وبين الإسلاميين (خصوصًا دعمها غير المشروط لإسرائيل، العنف والكراهية لها) فقد قررت حلها عن طريق ما أسمته بالإصلاح التعليمي والديني لإعادة صياغة المفاهيم التي تغذي "الإرهاب" بما يتوافق مع مصالحها، وبما يحقق لها الأمن، وبما يستجيب مع عملية الإصلاح السياسي المفترض، والمتعثر بفضل الثقافة الدينية السائدة (وخصوصًا "الجهاد") التي تغذي بذور الكراهية بحسب رؤيتها، وهي ما سبق وصفها بـ "حرب الأفكار" أو "حرب المبادئ"(35)( ). فـ "التطرف الإسلامي" –لو مشينا مع التصريحات السياسية، بل مع قول بيرل وفروم تحديدًا- "ليس ديانة بل هو أيديولوجية تجب مواجهتها من خلال حرب مختلفة للتعامل مع القيم والمبادئ التي ينادي بها" .
ومع "حرب المبادئ أو الأفكار" يبدو الهدف أوسع من مجرد "الحرب على الإرهاب"، ويبدو أن الرؤية الأمريكية مرت بخطوات تدريجية حتى تبلورت في شكلها الحالي، فابتدأت من 20 سبتمبر 2001 – على لسان بوش – بالدعوة إلى استنقاذ الإسلام من خاطفيه المتطرفين، وانتهت –في مبادرة باول- إلى الإصلاح التعليمي (بالإضافة للسياسي والاقتصادي)، الذي ترافق مع الحديث عن الإصلاح الديني مرورًا بالحديث عن "الإسلام المعتدل" (استبعاد "الجهاد"، العلاقة مع الغرب، الشريك الإسلامي، وجملة المطالب: حقوق المرأة في أولها).
والواقع أن المدخل كان "مكافحة الإرهاب" بمفهومه "غير التقليدي"، والذي جرّ إلى معضلة "إصلاح العالم العربي والإسلامي"(36)( ) بما يتوافق مع الأمن القومي، والمصالح الأمريكية، لكن تعقيدات التشخيص وإشكاليات العلاج الأمريكيين، وما يحيط بنشر الديمقراطية من إشكالات سياسية ودينية حوّل الحرب إلى مجال الأفكار والمبادئ، ليصبح الهدف أوسع من مجرد "محاربة الإرهاب"، فهو "كفاح من أجل الحداثة والعلمانية والتعددية والديمقراطية والتنمية الاقتصادية الحقيقية"(37)( ). وهذا يعيدنا إلى تشخيص "فوكوياما" المبكر للإرهاب؛ فقد اعتبر أحداث سبتمبر "حركة ارتجاعية عنيفة يائسة ضد العالم الحديث"، فهو "صراع ضد الفاشية الإسلامية، أي العقيدة الأصولية غير المتسامحة، التي تقف ضد الحداثة" والعلمانية، وعليه فإن الحرب "أوسع بكثير" من "الحرب على الإرهاب". "إنها الأصولية الإسلامية التي تشكل الخلفية لحس أوسع من المظالم وأعمق بكثير، وأكثر انفصالاً عن الحقيقة من أي مكان آخر". و"مسيرة التاريخ العريضة" ستتقدم –وفق رؤيته- بناء على نتيجة الحرب العسكرية (في أفغانستان والعراق)، و"التطور الثاني والأهم ينبغي أن يأتي من داخل الإسلام نفسه. فعلى المجتمع الإسلامي أن يقرر ما إذا كان يريد أن يصل إلى وضع سلمي مع الحداثة وخاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية والتسامح الديني"(38)( ).
إذن فالإصلاح الديني في المنظور الأمريكي يتلخص في "تحديث الإسلام" لحل إشكالية "الإسلاموفوبيا" والإرهاب الإسلامي، وتحقيق الإصلاح السياسي وفق معادلة جديدة تخرج عن دعم الأنظمة الاستبدادية مقابل "الاستقرار" وتأمين المصالح، لأن هذه الأنظمة لم تعد قادرة على منح هذا "الاستقرار". وهنا تتم قراءة تحولات المشهد السياسي، والانتخابات الديمقراطية التي أدت إلى صعود أحزاب إسلامية "معتدلة" في عدد من دول الشرق الأوسط (أبرزها تركيا, والمغرب والبحرين, والاحتفاء بإصلاحيي إيران) (39)( ) والتي ورد الثناء عليها وعلى ديمقراطياتها في خطابات بوش وباول وهاس.
ومشروع الإصلاح الكلي يتأسس على الإصلاح الاقتصادي، والسياسي، والتعليمي، وهذه الإصلاحات ذات صلة وثيقة ببعضها، ويمكن إدراك أوجه الربط بينها من خلال الخطابات الأمريكية المذكورة، التي تسعى للتدليل على رؤيتها باقتباسات "عربية" لكسب "مشروعية" وصدقية لدى المخاطب العربي والمسلم(40)( ). ويمكن إيجاز هذا الترابط في الاستراتيجية الأمريكية من خلال نص مهم لفريد زكريا يقول فيه: "يجب على الولايات المتحدة في البداية أن تتعرف إلى أهدافها الحقيقية. نحن لا نسعى إلى الديمقراطية في الشرق الأوسط، ليس الآن على الأقل. نحن نسعى أولاً لما يمكن تسميته بالشروط المسبقة للديمقراطية، أو ما دعوته أنا بـ "الليبرالية الدستورية"، سيادة القانون، الحقوق الفردية، الملكية الخاصة، المحاكم المستقلة، والفصل بين الكنيسة والدولة. وفي العالم الغربي اندمجت هاتان الفكرتان معًا - وعنها نتجت الديمقراطية الليبرالية - لكنهما تمايزتا تاريخيًّا وتحليليًّا"(41)( ).
وضمن "الشروط المسبقة" هذه، تندرج محاور التحرك الأمريكي في المنطقة للإصلاح بممارسة الضغوط وقائمة المطالب بصيغة "الشراكة". لكن "الممر الأكثر ديمومة للإصلاح سيكون اقتصاديًّا"؛ فطلب الغنى، فالإصلاحات الاقتصادية تعني البداية لسيادة القانون، والانفتاح على العالم، وتشكل طبقة من رجال الأعمال "ستكون هي مفتاح الديمقراطية الليبرالية" لأن لهم مصلحة في الانفتاح والاستقرار، والحداثة، ومن ثم ستكون قوة التغيير الحقيقي في الشرق الأوسط، بحسب "زكريا".
في هذا السياق نفهم معنى "اقتراح بوش إقامة منطقة تجارة حرة مع الشرق الأوسط" ضمن "الحرب على الإرهاب"، وعملية الإصلاح القضائي التي رعتها أمريكا في البحرين (-/9/2003م)، وعملية تحديث الإسلام ليتقبل العلمانية والليبرالية والقيم "الغربية - العالمية" بتعبير ولفويتز الملحّ، والمجادلة بأن الإسلام قادر على تقبل ذلك(42)( )، وتغيير المناهج بما يتوافق مع الليبرالية والعلمانية (القبول بالآخر، وحذف الجهاد، وثقافة التطبيع، وثقافة حقوق الإنسان) (43)( ).
وبتعبير "إلينا رومانسكي": "لا توجد فسحة من الآن فصاعدًا للكراهية وعدم التسامح والتحريض، ونحن نحاول أن نعيش معًا، وأي منهاج دراسي لا يسير في هذا الاتجاه يجب تغييره"(44)( )، "فالديمقراطيات المزدهرة تتطلب تقاليد المساءلة وليس الحفظ عن ظهر قلب"(45)( ).
غير أن مكانة مصر في العالم العربي والإسلامي، تجعل منها الساحة الأهم لعملية التحديث هذه، بوصفها "الروح الثقافية للعالم العربي"، بتعبير فريد زكريا الذي يقول: "إذا ما كتب لها أن تتقدم اقتصاديًّا وسياسيًّا، فإنها ستُبرز - بقوة تتفوق على أي خطاب أو بلاغة – أن الإسلام يتماشى مع الحداثة، وأن العرب يستطيعون النجاح في عالم اليوم"(46)( )، وهذا يلقي إضاءات تفسيرية على حمى الحديث عن "تجديد الخطاب الديني"(47)( ) والضغوط الأمريكية على مؤسسة الأزهر ممثلة بشيخها لإصدار فتاوى "معتدلة" تتوافق مع المصلحة الأمريكية، مما سنأتي على تفصيله.
هذا التحديث، الذي شكّل الأمني والسياسي والمصلحي مدخلاً له، من شأنه أن يعيد صياغة العلاقة مع الغرب بناء على رؤية أمريكية جديدة، تنبذ الكراهية - لها خصوصًا – وتجتث جذور الإرهاب الإسلامي من مصدره "الحقيقي"، ويشكل النموذج التركي مثالاً يحتذى، يتم الإلحاح عليه في خطابات المسؤولين (بوش، باول، هاس، ولفويتز)، بوصفه يلبي "طموح العالم الإسلامي"، ويتبنى –من خلال حزب العدالة والتنمية الإسلامي- "رؤية أتاتورك التي تدعو إلى قبول العالم القديم للعالم الجديد". وبهذا "تعطي تركيا صورة مقنعة بعدم ضرورة التضحية بالمعتقدات الدينية لصالح مؤسسات ديمقراطية علمانية حديثة"(48)( ).
هذه الصيغة من الإسلام الحداثي، في إطار الأمن القومي والمصلحة الأمريكية، تم التعبير عنها بصياغات مختلفة، تارة باسم "الإسلام الليبرالي"، وأخرى باسم "العلمانية المؤمنة" أو "الإسلام العلماني"، أو "الإسلام المعتدل"(49)( ). وفي المقابل استعاد بعض الكتاب في الأوساط السلفية والجهادية تعبير سيد قطب؛ "الإسلام الأمريكي"(50)( ) لوصف هذا التوجه الأمريكي نحو الإسلام، وإن كان في تصورهم له كثير من الخلط والزج بأمور وقضايا فقهية خلافية(51)( )!.
6. من "الإصلاحية الإسلامية" إلى "الإصلاحية الأمريكية"
إننا مرة أخرى أمام عملية إصلاحية من داخل الإسلام نفسه، لكنها ليست إصلاحية محمد عبده ومدرسته، بل "إصلاحية أمريكا"!.
قامت إصلاحية عبده على صدمة الإحساس بالتخلف وأزمة الفكر الإسلامي، وردم الفجوة بين العالم الإسلامي والغرب، فانطلقت بحثًا عن أسباب التقدم والتخلف، معتقدة بوجود "إسلام حقيقي" حجبته التصورات الخاطئة التي أدت إلى تخلف المسلمين في العصر الحديث، وأن هذا "الإسلام الحقيقي" قادر على تصحيح الأوضاع المزرية وإصلاح الشأن العام، ويمكن اكتشافه من خلال آليات علمية وتاريخية وبالعودة إلى القرآن وتراث السلف الصالح، مع الاقتباس "المشروط" من الغرب الليبرالي بشكل مدروس، وإن وقع في "توفيقية" بدت في مواطن متعددة. ودعا إلى إعادة تنظيم التعليم الديني الإسلامي للتصدي للاجتياح الثقافي الذي كانت تقوم به الإرساليات الأجنبية، وإلى تجديد أساليب العمل في المؤسسات الدينية التقليدية كي تمارس دورها في إشاعة الروح الجديدة في الجماهير والثقة بالدين لتتمكن من حماية نفسها من تدخل سلطات الاحتلال الإنجليزي، وتحمي الهوية الإسلامية وكانت الفكرة المركزية التي قامت عليها مجلة العروة الوثقى هي إضرام روح المقاومة للاستعمار وضرورة التصدي السياسي والثقافي للغرب (أوربا حينها)(52)( ).
والآن تقوم الإصلاحية الأمريكية أيضًا – بحسب تصريحاتها المعلنة - "لردم الفجوة بين الغرب والعالم الإسلامي"، ولإرساء دعائم "الحرية" و"القيم العالمية" وإحداث التغيير المطلوب للعيش في العالم الحديث أو المعاصر، وهي - في بعدها الديني - تسعى لإنشاء إسلام "سمح، معتدل" (ليبرالي) يتم فيه فصل الدّين عن الدّولة, ويتقبل الدّيمقراطيّة, وحقوق النساء والأقلّيّات, وحرّيّة التّفكير والتّقدّم، وقبول الآخر (خصوصًا الإسرائيلي الحاضر في كل الخطابات الأمريكية)، ونبذ العنف (الجهاد والمقاومة من ضمنه كما نصت بعض قرارات تغيير المناهج) (53)( ). وإن كانت إصلاحية محمد عبده خرج من عباءتها تحديثيون أمثال قاسم أمين وعلي عبد الرازق، بمحاولات "لَبْرلة" إسلامية، فإن الإصلاحية الأمريكية تأتي لتحيي هذا التوجه وتبحث عن شركاء، وقد قالها صراحة ولفويتز: "علينا أن نعمل ما باستطاعتنا لتشجيع أصوات المسلمين المعتدلين"، وأنه "طلب الحصول على بعض المعلومات حول المفكرين الإسلاميين الليبراليين البارزين" الذي يطالبون –من ضمن ما يطالبون- "بتفسير ليبرالي حديث للقرآن"؛ لأن على هؤلاء يقع دور أساس في "ردم الفجوة الخطيرة"(54)( ).
وقد اعتمدت الإصلاحية الأمريكية آليات عدة، كإعادة التأويل وتشجيع التفسير الليبرالي للقرآن(55)( )، ومن ضمنه "توظيف" الآيات والأحاديث التي تحث على السلام واستبعاد ما يحض على الكراهية والعنف ضمن محاولات "تغيير المناهج"، وتجديد الفتوى بإملاء الرؤية الأمريكية على "المفتي" أو تحييده.
إصلاح الفتوى وتجديد دور المفتي، ظهر جليًّا في علاقة أمريكا بمؤسسة الأزهر وفتاوى شيخه بدءًا من الحرب على العراق وحتى الآن؛ فقد طرد رئيسين من لجنة الفتوى أفتيا بالجهاد ضد الغزو الأمريكي للعراق، وتراجع عن وصف الحرب الأمريكية بـ "الصليبية" – الوصف لمجمع البحوث الإسلامية- استجابة للضغوط الأمريكية(56)( )، وأكد - بعد صدور فتوى من لجنة الفتوى بالأزهر تنص على عدم شرعية مجلس الحكم الانتقالي – على أن الفتوى لا تعبر عن الأزهر الذي لا يتدخل في السياسة، وأقال رئيس لجنة الفتوى وأحاله إلى التحقيق، بعد لقاء السفير الأمريكي بالقاهرة. وبالتأكيد لسنا هنا في مناقشة تلك الفتاوى، وبناء موقف تجاهها، ولكن بصدد الحديث عن أن الإصلاح الأمريكي تحت مسمى "الحرب على الإرهاب" أدخل تعديلات على الفتوى "الرسمية" وحدود دور المفتي، فطنطاوي أكد مرارًا أن فتوى الأزهر "مقصورة على حدود مصر" وأنه "ليس من حق لجنة الفتوى الإفتاء بأمور سياسية أو شؤون دول أخرى"(57)( ).
هذه تجعلنا نؤكد على فكرتين: الأولى: ممارسة تعديل – بفرض أمريكي أو نتيجة له – على دور الفتوى ومفهومها في مستواها البنيوي. وهنا عبثت السياسة بها، وبدلت طبيعتها كليًّا من "توقيع عن رب العالمين" –بتعبير الإمام ابن القيم- إلى "تصريح" وتوقيع عن السياسي يتم التراجع عنه وفق مؤشرات السياسة ووفق نظر ومصالح السياسي المتبدلة ظرفيًّا، سواء السياسي الداخلي(58)( ) أم الخارجي أو كلاهما، لأن منطق فعل السياسي مختلف كليًّا عن منطق الفعل الديني (عمل الفقيه والمفتي). الثانية: أن تسييس الأزهر وفتواه داخليّا وخارجيًّا أعادت رسم "حدود" الفتوى ودور المفتي والأزهر ضمن إطار قطري محدود بحدود الدولة ونفوذها وسيادتها الإقليمية في إطار علاقات القانون الدولي، وهنا تحركت مرجعية الفتوى من نصية/اجتهادية إلى وضعية قانونية محكومة بحدود السيادة، ونطاق الشرعية فيها ليست دينية وإنما سياسية-قانونية.
هذا كله، يعني تصفية البعد الديني في جوهره الكلي، وتخليصه للسياسة، وقد مارسته الأنظمة الحاكمة، والآن تمارسه أمريكا ضمن مشروعها الإصلاحي. وهو يعود بالنقض على مفهوم الدين نفسه، فكيف يمكن الفصل بين الفتوى والواقع الذي يشمله الدين بتعاليمه؟!. إنه الفصل الذي يجرنا إلى مفهوم خاص – أرادته بعض الأنظمة العربية وتريده أمريكا الآن- للفصل بين الدين والدولة، بتوظيف الأول لمصلحة الثاني، وجعله جزءًا من جهاز الدولة، وهو ما نطلق عليه "الإسلام الرسمي" والذي سنتطرق لاحقًا. وهنا لم يعد معنى للحديث عن عالمية الإسلام وشموليته إلا في حدود الوعظ والإرشاد، وهو –في حدوده القصوى- يجر إلى تصور نشأة "مفتي قطري".
وفيما يخص المناهج، وتغييرها – أو "تطويرها" كما يحلو لبعض المسؤولين التعبير لنفي لوثة الاستجابة للضغوط الخارجية- فإنها تتجلى على وجه الخصوص في التعليم الديني (الإسلامي طبعا) وتتمحور حول التشخيص الأمريكي في علاقة المناهج بتفريخ الإرهاب، وهي الرؤية التي استجاب لها العديد من الأنظمة حين تم النظر في المناهج من زاوية واحدة فقط وهي علاقتها بالإرهاب، وهو ما نظرت فيه القمة الخليجية (24) سنة 2003م، وهو ما شُكلت له اللجان لمراقبته وتنقية المناهج منه، ليكتشف بعضها قائلاً: "لم نعثر على أي نص يدعو إلى التطرف الديني أو إلى العنف أو يشجع فكر الإرهاب"(59)، لذا فمن الطبيعي أن يقف سؤال تغيير المناهج، أو تطويرها، عند حدود زاوية النظر، وهي - حسب ما يجري - قاصرة على "الحذف" أو "التوظيف" السلمي للآيات والأحاديث(60)( ) أو "غرس مفاهيم جديدة" في إطار "حرب الأفكار" المعلنة. وقد طال الحذف "فقرات من المقررات الدراسية تشير إلى أتباع ديانات أخرى بوصفهم كفرة وأعداء للإسلام"(61. فضلاً عن حذف مفهوم "الجهاد" ونشر التسامح وقبول الآخر، وتخفيض ساعات التربية الإسلامية في بعض الدول.
إن ردم الفجوة بين العالم الإسلامي والغرب الذي يشكل عنوان الإصلاحية الأمريكية يدفع إليه –كما تقدم- أهداف اقتصادية(62 وسياسية وأمنية، وثقافية، ودينية. فنحن أمام إصلاحية تريد أن تنتصر في "حرب الأفكار" لتصوغ هوية الأمة بأبعادها المتعددة وفق مصالح وأمن أمريكا، ويتم فيه معالجة الخلافات السياسية والأخلاقية من منظور إعادة التشكيل الثقافي لاستنبات القناعة المطلوبة والقيم الموائمة "على صورتها"؛ ما يعني أن الإصلاح تحول إلى إرغام أيديولوجي، وهذا الإرغام الأيديولوجي هو وسيلة لتحقيق المصالح وحل الإشكالات السياسية وغيرها.
إن اللجوء إلى مقاربة المشاكل السياسية وحلها من منظور ثقافي وديني بالإكراه يشكل – في أحد وجوهه- ستارًا للعجز عن الحل السياسي العادل أمام صلابة ثوابت كل طرف من أطراف النزاع، فيفرض الأقوى "أفكاره/مطالبه" من الداخل، ليأمن من المقاومة، أو عنف رد الأفعال الذ