/

 

 

إصلاح التعليم بين الضرورات الذاتية والمطالب العولمية

عبد الرحمن حللي

إن حال العالم العربي والإسلامي لا تنضب قضاياه التي تستثير الباحث فيه تشخيصاً وتحليلاً وتنظيراً ، لكن قضية التعليم تبدو من أهم ما ينبغي العناية به، لاسيما وقد أصبح تغييره من الخطط الاستراتيجية للقوى المهيمنة في مناطق أطماعها، والتأمل فيما آل إليه التعليم الديني بالخصوص من نتائج عملية على صعيد الواقع يجعل الحديث عنه يحتل صدر الأولويات، فهو إما مغرق في نمطية تاريخية بعيدة عن الواقع شكلاً ومضموناً، أو يؤدي بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تطرف فكري نظري أو سياسي عملي، أو تسطيح لفظي لا يمس العمق باسم التحديث أو التجديد.
وينتج عن أي من هذه المظاهر تخبط واضطراب وتناقض في التعامل مع المتغيرات المحلية والعالمية، فالخطاب الديني السائد إما انعزالي يتقوقع صاحبه في دائرة مجتمعه الصغير ويعيش فصاماً مع ما يجري منتظراً قيام الساعة طالما يرى أماراتها، أو يعيش واقعه كما هو دون أن يغير شيئاً من أحكامه عليه وهنا يتحول إلى نوع من النفاق للسلطة القائمة تحت عناوين فقهية تبرر ذلك كالحكمة والمصلحة العليا أو ارتكاب أخف الضررين وهنا تتسع الحكمة والمصلحة الشرعية حسب الشعور بضغط السلطة أو رغبتها، وإما أن يأخذ الخطاب الديني صيغة الحدة والإلحاح في تغيير الواقع وذلك بلغة جريئة تستخدم مفردات الإقصاء التي قد تتحول إلى تنفيذ عملي لآثارها باستخدام العنف والشدة عندما لا تجد لمطالبها سبيلاً سلمياً. 
ويشذ فريق بين هذه التيارات ينطلق من رؤية نقدية لها ويتخذ منهج المساءلة والتحليل والنقد منطلقاً له وذلك في إطار بحثه العلمي عن الحقيقة كما أرشد إليه الدين نفسه، هذا المنهج يعتبر المشكلة الأساسية مشكلة فكرية لها بعدها التاريخي وليست وليدة عقود أو بضعة قرون، برزت هذه الرؤية عبر مراحل تاريخية متقطعة، فكانت محاولات الاجتهاد الفردية والخروج على المذهبية في عصور ساد فيها التقليد نوعاً من هذا الاعتراض، وكذلك المحاولات الحديثة لاستعادة حضور هذه التيارات تحت عناوين النهضة والإصلاح والتجديد، لكنها كانت مثار اتهام نظراً لتخلف الخطاب الديني آنذاك وإخلاده إلى التقليد، ولدعم مؤسسات المجتمع الحديث لهذه التيارات ما يجعله في صف السلطة المنبوذة أصلاً، ونفس الأمر يتعلق بالمحاولات النقدية المعاصرة والتي انشقت من رحم مختلف التيارات الإسلامية السائدة، وكان شعورها بالمسؤولية الدافع الأهم وراء ما تطرحه من مساءلات ومراجعات هي الأساس العلمي الوحيد القادر على بناء بديل مستقبلي ينسجم مع أسس الإسلام التي لا تتبدل.
لكن إثارة قضايا التعليم الديني من قبل أصحاب هذه الرؤى النقدية في هذه السنوات يثير الكثير من التساؤلات لدى البعض نظراً لأن إصلاح مناهج التعليم غدا مطلباً عولمياً (أمريكياً بالذات)، والاشتراك في العنوان أصبح تهمة بحد ذاته، رغم اختلاف الرؤية والهدف والمنهج، فبينما يرى دعاة التجديد والإصلاح ضرورة إصلاح المناهج التعليمية لأسباب علمية ومنهجية وهي أسباب إسلامية ذاتية بالأساس، يرى العولميون ضرورة إصلاح المناهج لأسباب سياسية ودينية ولأهداف ومصالح غير علمية بالأساس.
وقد علمتنا التجارب العملية أن الإصلاح في العالم العربي والإسلامي نادراً ما يأتي ذاتياً وإن بدأ لا يستمر كذلك، فكان التدخل وردة الفعل عليه هما مفتاح التغيير، والمؤشرات تدل على أن العزم الأمريكي على التغيير القسري آت، ولا أمل بمقاومة ذاتية فكرية طالما لم تنفع في دفع ما هو أعظم، ولنقص بل فقدان المناعة الفكرية المكتسب لدى معظم النخب العربية القائمة التي استبدلت ملكة الإبداع لدى الإنسان بالتقليد الأعجم لدى الحيوان، هذه الظروف تجعل النداء المخلص للإصلاح في كل شيء وفي التعليم عموماً والتعليم الديني بالذات مثاراً لتساؤلات من عدد من الجهات لكنها تساؤلات ستتلاشى بعد قدوم المستشرقين الجدد لا لدراسة حال المجتمعات العربية والإسلامية ونقلها لمن أرسلهم إنما لإملاء الأوامر وتحديد مقاييس الإصلاح العولمي المطلوب، قد تبدو هذه الرؤية خيالية لدى البعض لكن واقع الأمر أن هذا قد بدأ، وأصبحت مناهج التعليم في بعض الدول كالمعطف يتم استبداله بين عشية وضحاها، ووصلت الوقاحة في الدعوة إلى التغيير في التعليم - لدى الأقلام التي تكتب بحبر صهيوأمريكي- إلى المطالبة بصياغة جديدة للقرآن الكريم وحذف ما فيه من تطرف يزعج مصالح السيد حامي حمى الديمقراطية والحرية والعدل في العالم والذي من ليس معه هو ضده بالضرورة.
في هذا الظرف العالمي الحرج يصبح الفرق دقيقاً بين الاستجابة للمطالب الوطنية الذاتية والشروط العولمية الملحة، وإبقاء ما كان على ما كان لن يكون أجدى نفعاً، فالخطأ موجود لا محالة ولم يعد بوسع أحد إنكاره، وآثار ذلك بادية للعيان، بل إن التعليم أصبح قناعاً للأمية الثقافية التي يتمتع بها حملة الشهادات، وفي إطار التعليم الديني لم يعد غريباً أن يكون خريجو المعاهد والجامعات الإسلامية العريقة لا يجيدون تلاوة القرآن أو قواعد العربية في الكتابة والنطق، هذا فضلاً عن الأهلية العلمية لوصف الباحث العلمي أو عالم الدين الذي يجيد التعامل مع المستجدات ويجيب علمياً على تساؤلات الناس، وفي مثل هذه الظروف فكل تأخير في الإصلاح في التعليم على مختلف مستوياته يعتبر إسهاماً في تكريس الخطأ والواقع المرير، وكل إسراع في وضع قواعد وبرامج للإصلاح يعتبر خطوة نحو قرار وطني يستجيب للواجبات الذاتية التي يفرضها العلم نفسه.
ولئن كانت جميع مؤسسات التعليم تحتاج إلى إصلاح وتطوير فإن أهمها الجامعات والتي لا تنفصل أزمتها عن غيرها من مؤسسات المجتمع إذ تعاني كلها من إشكالية عملية في مفهوم المؤسسة ذاته، فالمؤسسة كمشروع منتج من خلال تجميع وتأطير الجهود الفردية تحوَّل من آلية إبداع مضموني من خلال هيكلية معينة إلى إطار شكلي لا يؤدي غير القيام باسم المؤسسة التي تحولت إلى عائق يحول عبر تراتبيتها دون بروز الإبداع الفردي في إطار الجماعة، وأصبحت المؤسسة داء يقتل روح الإبداع لدى الفرد المنتمي إليها.
مؤسسات العالم العربي والإسلامي المعاصرة هي من مكونات الدولة الحديثة التي خلفت الاستعمار وتعكس توجهاتها ومصادر مرجعيتها، يضاف إلى ذلك خصوصية محلية تضاعف السلبيات وتقلص الإيجابيات، فغدت المؤسسة العربية رمزاً للتخلف الأعم، ولم تكن الجامعات مستثناة من هذه الظاهرة .
فتحليل إشكالية المؤسسات أساسي في درس المشكلة الحضارية، والأهم منها مؤسسات التعليم، ولئن كانت عوائق الروتين والمركزية والفوضى الإدارية (والبيروقراطية) في مؤسسات التعليم مشكلات تعالج في الإطار العام للإدارة، فإن البحث العلمي يعاني من أزمات أعمق تزيد إشكاليات المؤسسات الجامعية اعتياصاًُ، وهذا ما ينبغي التركيز عليه أولاً كخطوة أولى نحو الإصلاح في التعليم.

 

 

29-07-2005 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=309