على عاتق الوعي الهامشي بالأدوار الاجتماعية للمعرفة، ـ الدينية منها على وجه الخصوص ـ يقع الكثير من عبء الانقسامات والصراعات المذهبية، وانحسار التسامح، والتصاعد المستمر للتطرف الديني....الخ
في هذا المقال نحاول إقامة تمييز بين أهم دورين: العالم والداعية، من أجل المساهمة في فض الخلط القائم بينهما، وبيان أين يتصل هذان الدوران وأين ينفصلان، وما هي السلوكيات المتوقعة من كل منهما، بما يساعد على الوفاء بمستلزماتها وإدراك خطورتها.
يشير مفهوم "الدور" إلى عمل أو وظيفة أو "موقع" يقوم به بعض أفراد المجتمع، يفرض أنماطا سلوكية محددة يتوقعها المجتمع عادة من القائمين به، ويتحدد على أساسها موقعهم الاجتماعي. وبغض النظر عن تنوع هذه الأدوار ومراوحتها بين ما هو اضطراري (مثل دور الأب وأدوار القرابة الأخرى)، وبين ما هو اختياري (التلميذ، الرئيس...)، فإن ثمة "أدوارا" تتعلق بالشأن العام تتسم بحساسية بالغة لخطورتها وأهميتها في حياة المجتمعات الإسلامية، وهي مثار التباس بسبب تداخلها وضعف الوعي بتمييز الحدود الفاصلة فيما بينها، ومنها "العالم"، و"الداعية"، اللذان نحاول في هذا المقال تناولهما، واستجلاء التمايزات القائمة بينهما بسبب الخطورة التي يتمتع بها هذان الدوران، واللذان غالبا ما يتم التعامل معهما على أنهما مترادفان يمثلان دورا واحدا.
نشير ابتداء إلى أن هذه الأدوار الاجتماعية لم تحظ داخل الفكر العربي والإسلامي بعناية من الدرس والبحث تستحق الذكر، وقد يعود ذلك إلى التأخر النسبي لتبلور مفاهيم علم الاجتماع الحديث ابتداء، والتأخر في ابتكار هذا المفهوم الذي لم يظهر حتى عام 1934م عند عالم الاجتماع "جورج هيربرت ميد"، بالرغم من الخطورة التي تترتب على فقدان الحدود الواضحة بين الأدوار، خصوصا عندما تتعلق بالشأن العام وتمس كل المجتمع. ذلك أن مفهوم "الدور" يقوم بتوجيه الأفراد في كيفية تصرفهم وإنجاز مسئولياتهم على نحو ما سيتبين بعد قليل.
العالم.. ينشئ المعرفة
المهمة الأساسية للعلم هي البحث عن الحقائق والكشف عنها، وهي مهمة لا تتحقق إلا بالامتحان المستمر للمعرفة البشرية، وهذا ما يفرض أن يكون في سمة العالم القدرة على "النقد"، ذلك أنه بغير هذا الدأب المستمر في كشف الخطأ لن يكون بإمكان الإنسان الاقتراب من الحقيقة. وهذا النقد ينبني منطقيا على إعادة النظر في جهود من سبق، وطرح الأسئلة عليها والتشكك فيها. ومن دون هذا "الشك" العلمي لن يستطيع العالم إدراك العيوب المحتملة، سواء كان ذلك متعلقا بآرائه السابقة أم بآراء غيره ممن سبقوه في خصوص الحقل العلمي المشترك بينهما.
وعندما يقدم العالم وجهة نظر ما فإنه لا يمكنه أن يقدمها إلا باعتبارها "نسبية"، أي (صحيحة تحتمل الخطأ) على نحو ما عبر الإمام الشافعي رحمه الله، وإلا فإنه يعود على نفسه بالنقض إذ انطلق لنقد غيره وامتحان رأيه من أرضية احتمال الخطأ. هذا فضلا عن أن النسبية تعني -فيما تعنيه- اعترافا بأن الحق لا يعلمه إلا الله أنه كذلك، وأن الطبيعة الإنسانية تبقى عاجزة دوما عن إدراك معظم الحقائق، وإنما هي تتلمسها وتقترب منها أو تبتعد عنها بمقدار دقتها وعمقها في النقد.
وإذا كان ذلك فإن الصرامة العلمية تقتضي الاعتماد على "اصطلاحات" تحدد -بـ "دقة" وبمفاهيم وألفاظ متفق عليها- ما يريد قوله وما يعنيه. لأجل هذا تتسم اللغة العلمية بطبيعتها الجافة وكثافتها الاصطلاحية، وتبتعد دوما عن التعبيرات البلاغية واللغة الشعرية والأدبية الجمالية؛ لأنها بذلك تفقد قدرتها على الضبط. (كثيرا ما يردد العلماء عبارة "التبسيط المخل"، ويردد المتصوفة: "كلامنا حرام على غيرنا").
ويتحدد في الخطاب العلمي الاختصاصي المخاطب باعتباره مختصا أو مقتربا من الاختصاص وملما بأساسياته؛ إذ الغاية من الخطاب هي توصيل نتائج الأبحاث إلى أهل الدراية والخبرة، وذلك يعني أن المخاطب بالنسبة للعلم هم "الأقران"، وبالتالي فإن الخطاب العلمي هو بالضرورة "خطاب نخبوي" بامتياز، مقتصر على فئة محدودة من الناس. (خاطبوا الناس على قدر عقولهم، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!)
زد على ذلك أن العدة المعرفية -التي تمثل أدوات العالم في البحث العلمي سواء الحسي التجريبي أو النظري- ذات طبيعة نظرية تجريدية، مهما كان الموضوع العلمي الذي تشتغل فيه، خصوصا في المناهج التي لا يستغني عنها علم، والمناهج كما هو معلوم للكثيرين شيء "تجريدي" بحت. وعملية الاستنتاج هي أيضا عملية معقدة ناتجة عن التجريد المنهجي ومتولدة منه؛ مما يقتضي القول إن العالم -بوصفه باحثا- لا يتوقف عن النزوع إلى التجريد.
وعلى هذا يتحدد دور العالم في إنتاج المعرفة و"إنشائها"، وتبليغها بدقة إلى أهل الاختصاص (النخبة)، ويقتضي ذلك عددا من السلوكيات المتوقعة في اللغة المستخدمة (اصطلاحية)، والسلوك الذهني (التجريد)، والموقف من الجهود السابقة (السلوك النقدي)، لتؤطر هذه السلوكيات بمجموعها شخصية العالم وتطبعها على نحو خاص.
الداعية.. مُبلغ المعرفة
ماذا تعني "الدعوة"؟ أليست إقامة جسر بين "مدعو" و"مدعو إليه" يجعل المدعو يلتزم بمقتضيات المدعو إليه؟ إذا كان الأمر كذلك فإن عمل الدعوة يستلزم أن يكون المخاطَب "أدنى معرفة" من المخاطِب بالضرورة فيما يدعو إليه، وسواء أكانت هذه الدرجة بسبب معرفة منسية لدى المدعو (الدعوة بين المسلمين) أم كانت بسبب عدم وجودها أصلا (الدعوة بين غير المسلمين). وبالتالي فإن "جهة الخطاب نازلة" باتجاه الأدنى والعامة، والمخاطَب ليس النخبة أساسا، بل "الجمهور" الأعظم، ومن هنا ترتبط كلمة الدعوة دوما بالجمهور.
وحتى يكون الخطاب في الدعوة مؤثرا وموصلا إلى الغاية فإن التعبير يتخذ دوما الطابع "البلاغي" الأدبي، الذي يعتمد في كثير منه على بعث الشعور الفطري الإيماني، ويبتعد بطبيعة الحال عن اللغة العلمية الاصطلاحية الجافة والمرهقة، ليعتمد بدلا من ذلك أبسط التعابير وأدلها.
وباعتبار غايته التي تتلخص بالالتزام بمقتضيات الإيمان بـ"المدعو إليه" فإن السلوك الذهني مهموم بالناحية "العملية التطبيقية" وليس بالناحية المعرفية العلمية، فاستناده إليها ليس إلا بالقدر الضروري؛ أي بالقدر الممكن لإقامة الدعوة.
وحتى هذا القدر من المعرفة هو من نوع "المعرفة المستهلكة" المتلقاة، أي المعرفة الحفظية الناجزة من قبل الغير؛ فالداعية لا يقوم بإنتاج المعرفة وإلا دخل في دور العالم وهذا سوف يقتضي تعارضا سلوكيا أكيدا لا ينفض إلا للأنبياء الذين يتلقون الحقيقة عبر صلتهم بالوحي أي بالحقيقة المطلقة.
يبقى أن المنطق الذي يحكم السلوك الذهني للداعية هو القطع و"التسليم" بصحة ما يدعو إليه؛ لأن الشك يتعارض مع الغاية العملية التي يتوخاها الدعاة؛ إذ اعتبار ما يدعون إليه "مجرد رأي" من بين آراء يُسقط المدعوين في اختيارات محيرة. كما يضع الداعية في موقف التردد في وقت يُطلب منه الحسم. وهذا التسليم أو الحسم هو الذي يمنح الحماس والقدرة على إلهاب الشعور الجماهيري.
وعلى هذا يتحدد دور الداعية في إطار الثقافة الإسلامية بـ"تبليغ المعرفة" التي ينجزها العالم، باعتبارها "مسلمة"، إلى أكبر "جمهور" ممكن لتحويلها إلى واقع "عملي"، وهو دور يفرض خطابا "بلاغيا" تأثيريا، ويستلزم نمطا سلوكيا ذهنيا يتمحور حول "التطبيق"، وبالتالي فإن جهة التفكير والخطاب -بالنسبة للداعية- نازلة.
ما معنى هذا الاختلاف بين الدورين؟
من الواضح تماما أن الدورين متكاملان في الغايات؛ إذ فيما تكون غاية العالم إنشاء المعرفة وبناءها؛ فإن غاية الداعية تتحدد في تطبيقها. لكن هذا لا يعفي من القول بأنهما متعارضان إلى حد التضاد في السلوك اللازم لهما، فبينما يتجه خطاب العالم إلى الخواص يتجه خطاب الداعية إلى الجمهور والعامة، وفي حين يعتمد الخطاب العلمي لغة اصطلاحية معقدة وجافة؛ يعتمد الخطاب الدعوي لغة أدبية بلاغية تأثيرية بسيطة، ومقابل المنطق الشكي النقدي في البناء الذهني للعالم هناك المنطق التسليمي للداعية، وفيما يتجه ذهن العالم صاعدا باتجاه التجريد والتقعيد (حيث يهدف العالم لاستخلاص الكليات) فإن ذهن الداعية يتجه نازلا باتجاه مستوى التطبيق وباتجاه مستويات ذهنية مخاطبة أدنى.
هذا التعارض يطلق عليه في علم الاجتماع "صراع الأدوار". من أجل هذا كان في المجتمع تمايز بين من سُموا بـ"الوعاظ"، وبين أهل العلم الذين غالبا ما يطلق عليهم وصف "أهل الفقه"، الفقه هنا بمعناه العام (مطلق الفهم). وليس مفارقة إذن ألا يجتمع على حلقة شيخ الإسلام ابن تيمية في المسجد الأموي الكبير في دمشق –مثلا- ما لا يتجاوز عدد أصابع الإنسان، فيما كان يجتمع لبعض الوعاظ "خلق على مد النظر".
لكن هل يعني هذا التمايز عدم قدرة أحدهما على ممارسة دور مزدوج متجاوزا "صراع الأدوار"؟ بالطبع لا، ولكن يجب القول: إن هذا يحتاج إلى مجهود مضنٍ. فعلى الرغم من أن في تاريخنا شخصيات كبيرة استطاعت أن تقوم بالدورين من أمثال ابن سيرين والحسن البصري وعبد الرحمن بن الجوزي والشهرستاني (صاحب الملل والنحل) وابن السمعاني، فإن هؤلاء العلماء المتقنين هم قلة قليلة بالنسبة لمن اشتهر بالجمع بين العلم والوعظ، ذلك أن بصمات هؤلاء الوعاظ/العلماء ـ باستثناء أمثال من ذكرنا أسماءهم ـ على تطوير العلوم الإسلامية وتقدمها محدود للغاية، فالنجاح في دورٍ عادة يهمش أو يقلل من الإبداع في الدور الآخر كلما اجتمعا في شخص واحد. ولذلك كان كبار العلماء أمثال الشافعي وأبي حنيفة -رحمهم الله- ليس لهم مجالس للوعظ، وكبار الوعاظ ليس لهم مجالس علم مثل الحارث المحاسبي.
غير أن وجود تمايز في الأدوار لا يعني أن أحدهما يَفضل الآخر، فكلاهما يؤدي مهمة جليلة، وأحدهما ليس له "قيام" دون الآخر، وهو ما قاله عالم الاجتماع "جورج ميد" في نظريته عن "الدور" التي ترى أيضا أن الدور لا يوجد من دون الأدوار الأخرى؛ لأن مفهوم الدور أساسا لا يتحقق إلا في إطار جماعة. ولهذا كان الباقلاني والإسفراييني (عالما الكلام الكبيران) يسمعان مجلس ابن سمعون -الذي قيل: إنه "لم يأت في الوعاظ مثله"- بل أكثر من ذلك يقبلان يده! (كما ذكر صاحب شذرات الذهب، ج2/ ص125).
وعندما يدرك كل منهما "دوره" بوضوح، ويزول الخلط بينهما، أو عندما يمارَسان معا ويمثلهما شخص واحد، واعيا لحدود ومجال عمل كل من الدورين، فإن أداء كل منهما في الشأن العام سيكون كثير الفائدة.
أذكر أن الداعية المعروف "عمرو خالد" (الذي أوقف عن دروسه في القاهرة) اتهم من شيوخ مصر بأنه "ليس عالما"، فقال جوابا على ذلك لصحيفة السفير اللبنانية: "أنا لست مفتيا"! إنه ما أنكر عدم اختصاصه بالعلم، بل اعتبر أن ذلك لا يقدح في جهوده في الدعوة. وعندما سألته مذيعة في قناة "اقرأ" الفضائية أواخر رمضان الفائت: "لماذا ترفض الفتيا للشباب بالرغم من حاجتهم إليها؟"، أجابها أنه "ليس فقيها"، وأنه يدعو إلى الله بما عُلم من الدين بالضرورة، و"لا أعد نفسي من العلماء".
وكما يبدو من تاريخنا فإن كلا من الدورين يكاد يكون جوهرا ثابتا، لم يتغير طيلة هذا التاريخ المديد، وعلى هذا فإن الأدوار في الثقافة الإسلامية تقوم على جواهر ثابتة لا يغيرها أو يحورها التفاعل بينها، وهو أمر يتفق بشكل ما مع نظرية عالم الاجتماع "رالف لنتن" التي أطلقها عام 1936م. وطبقا لهذه النظرية فإن شرح الدور والتعريف به يتم ضمن "النظام الثقافي" السائد، وهو بالنسبة لنا هنا إسلامي، وعلى أساس علاقته بالأدوار الأخرى فيه؛ وقد بنينا نحن توضيحاتنا بشأن كل من الدورين على أساس علاقاتهما ببعضهما (إنشاء المعرفة وتوصيلها).
الداعية.. والفكر العربي
لا يبدو أن الفكر القومي (وأقصد بالقومي هنا مقابل الإسلامي) العربي نفسه أيضا كان قادرا على تجاوز الخلط بين الدورين (العالم والداعية)، اللذين أضيف لهما دوران آخران هما دور "المثقف"، ودور "المفكر"، اللذان فقدا حدودهما أيضا مع هذين الدورين، فأدى هذا الخلط بين الأدوار إلى تحول المثقف والمفكر والعالم (وبينه وبين العالم –عموما- في الفكر العربي تطابق في كثير من الأحيان) إلى دور الداعية، بحيث أصبحوا جميعا دعاة ومبشرين لما يؤمنون به، ما انتهى بالمشتغلين بالبنية الفوقية (الفكر) العربية إلى ألا يجيدوا "سوى خسارة القضايا".
لقد شرع الفكر العربي من جديد في إعادة نقد نفسه على نحو جذري، وكان على رأس قائمة النقد اختلاط الأدوار، فصدرت كتابات نقدية متميزة في الداعية والمثقف: "نهاية الداعية" لعبد الإله بلقزيز، و"نهاية المثقف" لعلي حرب، و"صور المثقف" لإدوارد سعيد.
ولعل نشوء وعي بهذه الأدوار يكون فاتحة عهد جديد في الوعي الاجتماعي الثقافي في العالم العربي والإسلامي قد تبشر بآفاق جديدة في المعرفة (والمعرفة الإسلامية على وجه الخصوص) والاشتغال بالشأن العام