لا يزال الجدل حول التعليم الديني وصلته بالإرهاب موضوع الساعة شأنه شأن كل ما له صلة بالإرهاب، وهو واحد من بين ملفات كثيرة فتحت للنقاش في العالم العربي والإسلامي، وصادفت خللاً حقيقياً يستحق المعالجة، ومما أجج الجدل حول الموضوع ما اتخذ من قرارات بهذا الشأن في وزارات التربية في دول عديدة لاسيما في مغرب الوطن العربي وخليجه، فتم تقليص ساعات مقرر التربية الدينية أو إلغاؤها في بعض المراحل أو دمجها بمواد أخرى.
لكن ما يلفت النظر في هذا الشأن ما يكتبه الكثير من المثقفين العرب – لاسيما من ممتهني الكتابة السلطانية أو الشمولية الموروثة عن أنماط التفكير الإقصائي الذي ينظر إلى الأمور بحسب ما تمليه بنية التفكير المغلقة – إذ استغلوا الموضوع ليطرحوا رؤى هي من التطرف بما يكفل صناعة إرهاب جديد، ومن ذلك الدعوة الصريحة لإلغاء مقرر التربية الدينية من المدارس أو دمجه ضمن مقررات أخرى وتقليص حصصه أو تغيير مضمونه ليكون أشبه بدراسة أفكار عامة تتناسب مع جميع الأديان، فالإصلاح الديني المنشود - حسب أولئك - أصبح إعادة النظر في الظاهرة الدينية من منطلق تاريخي سوسيولوجي بعتمد الأدوات المعرفية الحديثة (بهذا الإطلاق) حتى أصبحت أفكار فرويد وأينشتاين وغاليلو... من الأسس في تطوير التعليم الديني، وتعود التجربة الغربية لتُطرح من قبل أولئك نموذجاً يقتدى في قضية الإصلاح الديني بغض النظر الملابسات التاريخية والفوارق الجوهرية في طبيعة الأديان، بل أصبح فهم القرآن متوقفاً على معرفة اليهودية والنصرانية، بل لا يمكن فهم لغة القرآن (والحديث في إطار إصلاح التعليم) من دون الرجوع إلى الفيلولوجيا و معرفة اللغة الآرامية، فتخصيب القران بالأدوات وبالمناهج الحديثة هو الحل الأمثل الذي يمكننا من قراءته قراءة تاريخية هي الوحيدة المعول عليها في بداية الألفية الثالثة.
هذه الرؤية التي تطرحها كاتبة مغاربية هي أستاذة في جامعة إسلامية تعتبر في نظرها حلاً لمشكلة التعليم الديني، وتحول دون كونه محرضاً على التطرف، لكن الغريب أن الكاتبة المشار إليها تنتمي إلى دولة هي الأكثر تحديثاً وتسييساً للتعليم الديني ومنذ عقود، حتى إن قضية تعديل المناهج لم تكن مطروحة فيها، بينما متابعة جنسيات المتطرفين من الإسلاميين تشير إلى عدد لابأس به من المنتمين إلى هذا البلد وممن تلقوا تعليماً دينياً محدَّثاً ومحصناً ضد التطرف، بل إن عدداً من المتطرفين هم ممن تلقوا تعليماً غربياً ولم يتلقوا تعليماً دينياً على طريقة المناهج المنتقدة، حتى إن دولاً أنشأت اختصاصات إسلامية في كليات غير إسلامية لتخرج مدرسين للتعليم الديني من غير المؤسسات التقليدية ممن تلقوا تعليماً موجهاً يحض على التسامح ونبذ العنف، فإذا بخريجي تلك الكليات أشد تطرفاً في أفكارهم من خريجي الجامعات التقليدية، وذلك حسب المقاييس التي وضعت لهذه الكليات.
الظاهرة الأهم التي تسترعي الانتباه هي أن الذاكرة لا تسجل من أسماء قادة المنظمات الإسلامية الممارسة للعنف أي اسم لقيادي تخرج من جامعة إسلامية أو تلقى تعليماً إسلامياً تقليدياً داخل مؤسساته التقليدية باستثناء المصري الشيخ عمر عبد الرحمن الذي لم يكن الأشد تطرفاً ضمن الجماعة التي انتمى إليها أو استغل فيها، فمعظم قادة التنظيمات العنفية لم يدرسوا العلوم الشرعية في مؤسساتها المختصة، وعلى العكس من ذلك فإن من ينشط من خريجي المؤسسات التقليدية في العمل السياسي فإنه يرفض العنف.
هذه الظاهرة لا يقصد بها تبرئة مناهج التعليم الديني من الأخطاء أو تعميم الحكم عليها، كما لا تنفي العلم الشرعي عمن لم يدرسوه في مؤسساته، لكنها تؤكد فك الارتباط المدعى بين التعليم الديني التقليدي والتطرف، بل تؤكد العكس وهو أن قلة التعليم الديني وتسييسه هي العامل الأساسي في انتشار التطرف، فعندما يضعف التعليم الديني ستكون المعلومة مشوهة ومختزلة وغير مقنعة لدى الطالب والقارئ إما لضعف أدلتها أو لسوء طريقة إيصالها أو لتشويهها فضلاً عن انفصامها عن الواقع والثقافة الإسلامية التي يتلقاها الفرد في المجتمع، عند ذلك سيبحث الشاب عن المعلومة بنفسه وسيجد من يقنعه بالمعلومة المضادة أكثر وبالتالي سيكون التطرف أكثر انسجاماً في ذهنه من معلومة مجتزأة تفرضها عليه سلطة تعليمية متهمة بالانحياز ولم تعطه المعلومة بحياد وإقناع.
إن حال مقرر التربية الدينية في المدارس العربية لا يحتاج إلى تعليق، فهو الأقل أهمية واعتباراً ومدرسوه هم الأقل كفاءة واحتراماً، وذاكرة الطالب عن حصص ذلك المقرر قلما تحمل معلومة بقدر ما تحمل طرفاً يتندر بها الطلاب، فهو مقرر ممتهن رسمياً في معظم الدول العربية، ولا ينتظر والحال هذه أن يتخرج طالب من المدارس وهو يحمل حصانة علمية ضد أي تيار يمكن أن يجرفه إلى ممارسة العنف ضد الآخرين (الإرهاب) باسم الجهاد، أو ضد نفسه (الرهبنة) باسم التصوف.
إن حمى الحديث عن إصلاح التعليم الديني إنما انبثق من المشروع الأمريكي لإصلاح العالم الإسلامي، وقد سبقت التيارات اليسارية المتطرفة في العالم العربي إلى الدعوة إلى استئصال التعليم الديني، والتعمق في تحليل تلك الدعوة يشير إلى أنها مقدمة أمريكية لنتيجة لاحقة وهي التلازم بين الإسلام والإرهاب، وبالتالي الدعوة إلى إعادة النظر في القرآن وآيات الجهاد...
لكن دعاة إصلاح التعليم الديني (السياسي) لا يقدمون جديداً في دعوتهم سوى التهمة المبطنة بالتحريض على الإرهاب، فالدعوة إلى إصلاح التعليم لصيقة بالدعوة إلى الإصلاح والنهضة، وقد بدأت قبل أكثر من قرن سواء في مصر (محمد عبده) أو في تونس (محمد الطاهر بن عاشور) أو في بلاد الشام (محمد راغب الطباخ)، وما كتبه أولئك حول التعليم الديني شاهد على ذلك، وما تزال الدعوة مستمرة لإصلاح التعليم الديني من قبل المشتغلين به، نظراً لما أصابه من ضعف وفساد هو جزء من فساد التعليم عموماً، والذي يرجع بالأساس إلى تسييسه، فالعلاقة عضوية بين التعليم والدولة العربية منذ الاستقلال، وقد استمر التعليم على نمطية واحدة وإن تم تطويره فإن ذلك يستند إلى رؤية أحادية مع تأخر في المراجعة.
إن مقارنة بسيطة بين ما كان يتلقاه دارسو العلوم الشرعية في المدارس التقليدية منتصف القرن العشرين (في سورية مثلاً) مع الحصيلة العلمية لخريجي الجامعات الإسلامية اليوم يشير إلى الانحدار العلمي كماً وكيفاً، لقد كانت تلك المناهج أكثر عمقاً من حيث تنوع العلوم وشموليتها لما يحتاجه الباحث في العلوم الشرعية من علوم لاسيما المنهجي والأداتي منها، كما كانت منفتحة على أكثر من تيار ومستوعبة لما يطرح من أفكار في عصرها، حتى إن بعض المقررات كان يتم تعديله سنوياً بحسب المستجدات ليكون الطالب مواكباً لقضايا عصره، بينما اليوم يتلقى الطالب الجامعي في العلوم الشرعية وغيرها مقررات مضت عقود على تأليفها ومنها ما هو زمني لم يعد له صلة بالعصر الحاضر، فضلاً عن الضخامة والتكرار فيما لا ضرورة له والنقص الفادح فيما هو أساسي، والحديث عن طريقة إيصال المعلومة وعقلية الشيخ والمريد تحتاج إلى تفصيل خاص حول دورها في تردي التعليم.
هذا التردي في حال التعليم الديني المتخصص ينعكس سلباً على قدرة دارس العلوم الشرعية في معالجة قضايا العصر المستجدة وتحسين صلته بالمجتمع ليكون قادراً على الإقناع بالرؤية الصحيحة لعلاقة المسلم بغير المسلم وعلاقة المسلم بالعالم، تلك الرؤية التقليدية لم تورِث عبر التاريخ الإسلامي عنفاً تجاه غير المسلمين لأسباب دينية، ولم يُحترم غير المسلمين في العالم كما احترموا في حصانة هذه الرؤية التقليدية، فلما ضعف التعليم الديني في مؤسساته وتسلطت عليه الدول بسياساتها التعليمية فزادته تردياً، فأصبح المجتمع فقيراً من العلماء الذي يبينون الحكم الشرعي للناس ويقنعون به، وتصدى للإفتاء من لا يمتلك أدواته، وأخذ الوعاظ على أبواب السلاطين دور العلماء، فلم يعد أمام الشباب المسلم الثائر من يستطيع تغيير قناعاته، فدعاة التطرف هم في نظره والحال هذه أكثر نزاهة وإقناعاً.
في ضوء هذه الرؤية هل يمكن القول إن التعليم الديني هو المحرض على الإرهاب أم هو الحصن الأول للوقاية منه؟ وبما أنه محتاج للإصلاح ضرورة فهل إصلاحه السياسي في ضوء هاجس الإرهاب سيعالج الإرهاب أم سيزيده؟ أم لا بد من إصلاحه لأسباب معرفية تعيد له دوره العلمي الذي يقي من التفسيرات المرتجلة للدين والتي تقود إلى التطرف أو السذاجة في توظيف الدين؟ أسئلة ينبغي على المسؤولين عن إصلاح التعليم أن يفكروا بها ملياً إن كانوا يمتلكون القرار.