نشأ حول مفهوم الإصلاح في العالم العربي خطابٌ عربي انقسم إلى مستويين، الأول هو الخطاب الرسمي الذي مثله النظام السياسي العربي الرسمي، والثاني المدني الذي مثلته منظمات المجتمع المدني وجمعياته.
وبدا أن هناك فجوة كبيرة بين هذين الخطابين على مستوى الأفكار والمفاهيم والمضامين، وحتى المفردات والمصطلحات، الى درجة أن الخطاب السياسي الرسمي السوري على سبيل المثال لا يستخدم مفردة الإصلاح وإنما مصطلح «التطوير والتحديث».
كما تسيطر على الخطاب السياسي ثلاثة أقنومات ثابتة ورئيسة تكاد تكون المفتاح لفهم طبيعته وتحليل آلية اشتغاله، فهناك أولاً ثنائية الداخل والخارج، وتقوم على أساس التساؤل: هل الإصلاح داخلي أم خارجي؟ وتتحول هذه الثنائية مع الكتابات والتحليلات العربية الرائجة إلى ثنائية تكاد تكون في منتهى التبسيط والإفقار، وتزيد بالقول إن الضغوطات الخارجية تمنع تحقيق الاصلاح الداخلي أو إنجازه كما ورد على لسان أكثر من زعيم عربي.
وعموماً فقد أفاد النظام العربي الرسمي كثيراً من هذه الثنائية لجهة تأجيل قيامه بإصلاح داخلي جدي وحقيقي، على اعتبار أن الضغط الخارجي الذي يمارس عليه يمنعه من بلورة رؤيته للإصلاح، وهذا ما يجعلنا نفترض أن هناك مسيرة ما للإصلاح الداخلي أوقفت قسراً بسبب الضغوطات الخارجية المتزايدة. كما يصر النظام السياسي العربي على اعتبار أن كل ما يتخذه من خطوات إنما يأتي في سياق مسيرته الداخلية للإصلاح وليس نتيجة ضغوط خارجية. وهكذا يضع النظام السياسي الرسمي الضغوطات الآتية من الخارج في وجه الإصلاح المطلوب داخلياً، ويفترض حكماً أن مساريهما متعاكسان وليسا متوازيين.
أما الثنائية الأخرى فهي ثنائية الاستقرار والتغيير، فهو يربط دوماً بين ما يسميه «الإصلاح» بمفهومه طبعاً، وبين ضمان «الاستقرار» وفق ما يفهمه أيضاً. وعلى ذلك أصبح للعرب مجالهم التداولي الخاص في ما يتعلق بهذه المفاهيم، إذ يرافق وفاة أي زعيم عربي حضورٌ مفاجئ وكثيف لمصطلح «الاستقرار»، وتكاد تكون الكلمة السحر أو المفتاح في فهم التحولات السياسية الجارية في هذا البلد. إذ تخرج فجأة جوقة تتحدث عن أولوية الاستقرار وضمانته، وهي الجوقة ذاتها التي نجدها تتغنى قبل وفاة الزعيم ذاته بنعمة الاستقرار وفضلها. ولا تتوقف هذه الجوقة الإعلامية والسياسية، ولو للحظة، عند ما تسميه «الاستقرار»، ولا تتساءل عن مغزى الحديث عن غياب الاستقرار إذ كانت هي ذاتها تتربع في سدة الحكم لعقودٍ طويلة، ولماذا لم تستطع أن تحقق هذا الاستقرار طوال عقود حكمها المتطاول.
في الحقيقة، إن مثل هذا التفكير يحمل مفهوماً سكونياً للاستقرار، إذ يتخيل الاستقرار على أنه سكونٌ تام في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية يحقق لها مصالحها، والخروج من هذا السكون ذاته يشكل تهديداً للاستقرار، وعندها يصبح الاستقرار بمعناه هذا قريباً إن لم يكن شبيهاً بالمعنى المقصود من الاستبداد، حيث الهيمنة الكلية والشمولية على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية وعلى وسائل الإعلام بتفرعاتها المختلفة.
المؤسف في عالمنا العربي أن نكون ما نزال نتحدث عن خيار الاستقرار بوصفه المطلب الشعبي الوحيد، ونغيّب الخيارات الأخرى التي تعطي للاستقرار معناه الحقيقي والشرعي، فالاستقرار يعني في حقيقته قدرة المؤسسات السياسية والقانونية على القيام بعملها على رغم تبدل الأشخاص القائمين عليها سواءً كان نتيجة وفاة طبيعية أو نتيجة اغتيال سياسي أو حدث خارج عن إطار السيطرة كالكوارث الطبيعية.
لا شك في أن المؤسسات القانونية في حاجة إلى بيئة مستقرة حتى تنمو وتنضج كي تمارس عملها وفقاً لديناميكيتها الداخلية والخاصة، لكن هذه الديناميكية لا توجد في ظل سيطرةٍ شخصية وديكتاتورية مطلقة وفي وجود كادر بيروقراطي منتفع وغير كفوء، وإنما تتم في ظل حراك إداري وسياسي دائم يسعى لإنضاج التجربة التجربة المؤسساتية عبر الحفاظ على حيويتها وضخ الدماء الجديدة باستمرار داخلها.
لذلك تبدو السلطات العربية وكأنها في حاجة إلى ما يشبه «الاستقرار الكوني» حتى تُنجز تغييراً ديمقراطياً حقيقياً، وبما أنه لن يحصل بحكم قيام الكون على نظرية «الفوضى المنظمة»، لذلك فإننا لن نشهد تغييراً حقيقياً تقوم به السلطات العربية من ذاتها. إن التغيير الحقيقي، ويا للأسف. إنما يأتي استجابة لضغوط دولية وخارجية في الإصلاح، وأقصى ما تستطيعه هذه السلطات العربية أن تناور وتراوغ كي تستبعد لحظة الاستجابة الحقيقية للاستحقاقات السياسية والاجتماعية الخانقة، ولما كانت تؤجلها باستمرار فإنها وفي لحظةٍ مفاجئة وغير متوقعة ستنفجر أمامها، وعندها لن يجدي الحديث المكرر عن الاستقرار أو الإصلاح. وتأجيل الملفات بحجة ضمان الاستقرار هو تماماً كتأجيل البحث في السبب الحقيقي للوفاة والتلهي في اكتشاف الأعراض والمسببات الثانوية. إن الاستقرار حقيقةً لا وجود له سياسياً وقانونياً واجتماعياً لأنه ببساطة يخالف المنطق الحيوي للأشياء في حركيتها ولا سكونيتها، وادعاؤنا الحفاظ على الاستقرار قد يخفي تحته ما يخفي، تبدأ من نزاعات اجتماعية وسياسية وطائفية كامنة وربما لا تنتهي بحربٍ أهلية لا تطيح الاستقرار المزعوم فحسب وإنما تطيح المجتمع والدولة كليهما.
أما الثنائية الثالثة والأخيرة فهي جدلية الصراع العربي –الإسرائيلي، فما دام هناك احتلال في الأراضي العربية فلا مكان ولا وقت للإصلاح إذاً. وعلى العالم كله أن يدرك هذه الحقيقة فيساعدنا على زوال الاحتلال حتى نستطيع أن ننجز الإصلاح.
في ضوء ذلك كله كيف يمكن تخيل أن تقوم هذه السلطات ذاتها بالإصلاح المطلوب، فالديموقراطية على رغم كونها النظام السياسي الأكثر قدرة على التكيف مع الاختلافات والنزاعات وعلى رغم أنها المطلب الأكثر شعبية للكثير من الشرائح الاجتماعية، إلا إن الوصول إليها في العالم العربي ليس بهذه السهولة ومسارها يكاد يكون عصياً وممتنعاً على التحقيق لا سيما بعد حدوث اصطفافات جديدة نتيجة الاستبداد السياسي الطويل الذي عاشته البلاد العربية، وهذه الاصطفافات ارتبطت معها مصالح اقتصادية فئوية ومكاسب مالية ليس من السهولة التنازل عنها.
فالاجتماع السياسي العربي الراهن اليوم يستدعي إعادة النظر في أسسه البنيوية المبني عليها، ذلك إن أزماته المتكررة في ما يتعلق بتكرار الصراعات والحروب الأهلية في غير بلد عربي وتأجج المسألة الطائفية وتحول النظام السياسي إلى أشبه بالسلطة المحتكرة لكل المجالات الحيوية في المجتمع وتزايد الفجوة بين الدولة والمجتمع حتى انتهت السلطة إلى عدوة للمجتمع، وكأن النظام السياسي العربي غير عابئ بمفهوم الشرعية الذي ينبني عليه وجوده، إذ إن شرعيته غالباً ما يتحصلها من خلال العنف والأمن، وهكذا أصبحنا في سؤال متكرر عن المخرج العربي من الأزمة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً بعدما أرهقنا السؤال المتكرر الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه.
أما بالنسبة لخطاب منظمات المجتمع المدني العربية حول الإصلاح من مثل مبادرة «الاستقلال الثاني» على سبيل المثال، فإنها تنطلق من أدنى إلى أعلى، وهي أشبه بالمبادرات المطلبية التي تحمل مطالب محددة تناشد فيها السلطات الرسمية العربية تحقيقها. وهي لذلك تقع في فخ الإهمال والتجاوز بحكم تغير المصالح السياسية وممانعة السلطات الرسمية للتغيير.
إن التغيير في العالم العربي يرتبط بشكلٍ وثيق بولادة جيل من النخب «الإصلاحية»، والنخب هنا ليس بمعناها الثقافي أو المعرفي، وإنما بمعناها الواسع الذي يشمل النخب السياسية والثقافية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية. إن الدور المناط بها في التغيير دور محوري، إن لم يكن المفتاح الرئيس لعملية التحول الديمقراطي الذي يفترض أن تمر بها البلاد العربية.
بيد أن التطور التاريخي لدور النخب في العالم العربي غالباً ما ارتبط بنمطٍ سلبي في التحول بحكم استفادة معظم الأنظمة التسلطية العربية من هذه النخب وتوظيفها لحسابها. فضلاً عن الخلافات العقائدية الكبيرة التي تنازعت هذه التيارات من أجلها ما أفسح المجال واسعاً للعسكر من أجل الانقضاض على السلطة والسيطرة على مقاليد الحياة السياسية، وهذا الفشل غالباً ما تحمله الدراسات الاجتماعية –السياسية الحديثة إلى دور النخب في عملية تشكيل الدولة العربية الحديثة، وعدم قدرتها على بناء نمط الدولة المؤسساتية وإنما نجحت في تقوية السلطة التسلطية ذات القدرة الكبيرة على قمع المواطنين واحتجاز حرياتهم.
لكن مع تعزيز قدرات المجتمع المدني عالمياً وعربياً فإن ذلك أفسح المجال لولادة نخب من نوع جديد قادرة على قيادة عملية التغيير في اتجاه بناء دولة المؤسسات مستندة في خبراتها على التفاعل النشط مع منظمات المجتمع المدني العالمية التي تمتلك ميزات مهمة في بناء القدرات وتوجيه الأهداف نحو التغيير.