تمهيد:
"لقد كان لوقف الاجتهاد نتائج سلبية قطعاً بالنسبة إلى الفقه، فقد أدى ذلك إلى ركوده وجموده، والوقوف به حيث وقف الأولون، فأصبحت مستجدات الحياة ومشكلاتها لا تجد حلولاً على يد فقهاء الشريعة، مما صار يوحي بضيق الشريعة عن أن تستطيع تلبية الحاجات المستجدة بالأحكام المناسبة. وقد كان ذلك سبباً في أن يلجأ الأمراء والحكام الإداريون إلى إصدار أوامر إلزامية في بعض الشؤون (بمثابة القوانين والأنظمة اليوم) بدافع الحاجة لأنهم لم يجدوا لدى فقهاء عصرهم تلبية لحاجتهم وحلولاً لمشكلاتهم الإدارية من فقه الشريعة"(1 ) .
يمثل النص المذكور مفتاحاً أساسياً لفهم منطلقات العلامة الزرقا في أعماله التجديدية في الفقه الإسلامي، فهو يعتبر المشكلة التي اقتضت التجديد مشكلة ذاتية، يتحملها المسلمون وفقهاؤهم، ذلك أن وقف الاجتهاد حال دون توفر الحلول الفقهية للقضايا المستجدة والتي تحتاج إلى دفق مستمر من الاجتهاد والنظر الفقهي، وحيث غابت الحلول الشرعية ستحل مكانها الحلول الأخرى، لذلك نذر الشيخ حياته للتأسيس العلمي لفقه إسلامي معاصر قابل للتطبيق وفق مستجدات العصر، فأسس لمنهجية جديدة في عرض الفقه الإسلامي واكتشاف مبادئه الكلية من خلال نظريات تتناول موضوعاته، وخصص جوانب من أبحاثه لمعالجة نماذج من القضايا المستجدة، وقد شهد علماء العصر بأهمية إنتاجه العلمي ومكانته وعمقه ومرجعيته، فسمي فقيه العصر، وفقيه الأمة، وكان من مؤسسي الموسوعات والمجامع الفقهية، ومن واضعي مشاريع القوانين المستمدة من الفقه الإسلامي، كما كان مرجعاً معتمداً لدول ومؤسسات ومنظمات مختلفة في معالجة الكثير من المستجدات المتصلة بالفقه.
هذه الأهمية لشخصية الشيخ الزرقا تجعل من الضرورة بمكان دراسة منطلقاته التي جعلت منه مجدداً للفقه الإسلامي في العصر الحديث، وبالخصوص فيما يتعلق بالمسائل التي تفرد بها أو رجحها لاسيما ما خالف فيه معاصريه أو المتقدمين من الفقهاء، ومعرفة الأسس التي تحدد معالم مدرسته الفقهية التي تزداد الحاجة المعاصرة لإحيائها ونشرها وتعميقها، فما حفزه على هذه الحيوية في زمنه هو اليوم أضعاف ما كان في عصره.
ولن أسرد مفردات الفقيه الزرقا فذلك يستحق دراسة خاصة، لكن سأركز على منطلقاته في رؤاه وترجيحاته الفقهية، والتي يمكن ملاحظتها في مختلف إنتاجه وبالخصوص في فتاويه التي اعتمدت عليها بشكل أساسي، إذ تلخص منهجه، وسأعرض هذه المنطلقات فيما يلي:
أولاً- المقارنة وتنوع التخصص لمن يشتغل بتجديد الفقه:
يمكن أن نلحظ ذلك من خلال شخصيته أولاً ومن خلال نصوصه ثانياً، فتتميز شخصية العلامة الزرقا بنبوغ وطموح برز منذ طفولته وعزز ذلك مجموعة من العوامل البيئية والثقافية التي ساهمت في تكوينه العلمي، ويمكن أن نسرد ملخصاً لتلك المؤهلات في شخصيته: فقد ولد في بيت علم معروف، فوالده وجدّه كلاهما من كبار علماء مذهب الأحناف في حلب، وقد التحق بمدرسة الفرير الفرنسية وتعلم فيها مبادئ اللغة الفرنسية، وانتسب إلى المدرسة الخسروية، وتلقى بموازاة ذلك العلوم الشرعية على يد كبار علماء عصره، وظلّ يتابع دراسته الشرعية والمدنية معاً في المراحل الابتدائية والثانوية والجامعية، حتّى تخرّج من كلّيتي الحقوق والآداب في الجامعة السورية (جامعة دمشق حالياً) سنة 1933م، فكان أول من جمع في سورية بين الفقه والقانون والأدب، وحاز عام 1947م دبلوم الشرعية الإسلامية من كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)،
واكتسب خبرة عملية إذ اشتغل بالمحاماة في حلب عشر سنين، ثم انتقل إلى دمشق سنة 1944م للتدريس في جامعتها ودرَّس في كليات الحقوق والآداب والشريعة حتّى التقاعد سنة 1966م، ثم عاد إلى التدريس في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية سنة 1976م.
وفي الشأن العملي تولّى رئاسة لجنة موسوعة الفقه الإسلامي في كلية الشريعة، واختارته وزارة الأوقاف في الكويت خبيراً للموسوعة الفقهية فيها سنة 1966م، كان عضواً في لجنة الخبراء لوضع مشروع قانون مدني موحّد مستمدّ من الفقه الإسلامي للبلاد العربية سنة1981م، وكان عضواً في اللجنة التي وضعت قانون الأحوال الشخصية السوري سنة 1952م والذي لا يزال نافذاً، وكان رئيساً للجنة وضعت مشروع قانون موحّد للأحوال الشخصية لمصر وسورية أثناء الوحدة، وهو مشروع مستمدّ من مجموع المذاهب الفقهية، وفيه أحكام اجتهادية جريئة، لكنه لم يطبّق، كما كان عضواً في المجامع الفقهية المعروفة، وشارك في تطوير برامج كليات الشريعة في أكثر من جامعة(2 ) .
هذه العناصر تضافرت في تكوين وتطوير شخصيته وأهلته ليكون المؤسس لمنهج الدراسة الفقهية المعاصرة والمقارنة، وأود أن أركز على أهم هذه العناصر والتي يمكن أن نلحظ أثرها في دراساته، وهو تنوع تكوينه العلمي وجمعه بين أكثر من تخصص ذي صلة، فمن جهة أولى تعلم الفرنسية منذ صباه ومن مدارسها ما أهله لاحقاً لدراسة القانون من مصادره والتعمق فيه وفهم فلسفته واستثماره في تطوير الفقه الإسلامي، كما جمع في دراسته للعلوم الشرعية علوم اللغة العربية التي تعتبر أساساً في استنباط الأحكام ودراسة النصوص.
ولقد كان العلامة الزرقا مدركاً لأهمية المعرفة القانونية من مصادرها ليتمكن الباحث في الفقه من المقارنة الحقيقية واكتشاف فلسفة الفقه والتمكن من عرضه وفق الموضوعات الشاملة، وقد أوضح ذلك بقوله في مقدمة مشروعه المدخل الفقهي: "إن هذا العمل التجديدي في طريقة عرض الفقه الإسلامي بالانتقال من الشكل الفروعي إلى الشكل الموضوعي يقتضي أن تتعاون عليه جهود جماعة من الأساتذة العلماء المطلعين على الفقه الإسلامي وعلى علم القانون الحديث في مصادره وأساليبه الأجنبية، كما يقتضي من الوقت ما يروي الروية في التخطيط والإحاطة والترتيب والتهذيب والتنقيح"(3 ) .
ونظراً لهذا التكوين العلمي المتنوع كان له قصب السبق في الدراسات المقارنة وتعتبر نزعة المقارنة هذه مدخلاً للمعاصرة أو شاهداً عليها، وكانت المقارنة مظهراً للعمق في وعي علوم القانون ونظرياته، فنتج عن ذلك دراسات فقهية متقدمة أنتجت نظريات ما تزال مرجعاً للقانونيين والفقهاء سواء في دراسة الفقه أو القانون، وكل ما جاء بعد هذه الدراسات المؤسسة كان عالة عليها.
هذا التخصص المزدوج الذي أورث العمق في تلك الدراسات يفسر لنا التراجع والسطحية والنزوع إلى الشكلانية والمفاضلة في الدراسات الفقهية المقارنة بالقانون في العقود الأخيرة، فغاب التفكير بفلسفة العلوم نفسها في بناء المنهج والمقارنة، وتحول الاهتمام إلى ملء عناوين العلوم القانونية أو الاقتصادية أو غيرها بمضامين إسلامية بغض النظر عن الانسجام فيها أو اتساقها مع بناء العلم نفسه، والتركيب بطريقة قهرية لإثبات وجود هذه المفاهيم في الفقه أو الأسبقية فيها أو إبراز اكتمال المنظومة الفقهية وفق المعطيات المعاصرة، بينما كانت دراسات الزرقا في النظريات الفقهية وإن اعتمدت المنهجية القانونية إلا أنها كانت تستحضر فلسفة القانون في التأليف والصياغة الفقهية، فأظهرت دراساته عمق وثراء الفقه الإسلامي والمرونة التي كانت تحكمه، فشهد الفقه الإسلامي بجهوده وجهود من هم في طبقته مرحلة جديدة تمثلت بصياغته صياغة معاصرة أو لبس ثوباً جديداً -حسب تعبير الشيخ الزرقا- وبدءاً من السبعينات أصبحت تلك الدراسات مرجعاً وسيطاً لكل من جاء بعدها، ومعظم ما جاء بعدها تكرار أو تطوير لها، بل وفي الكثير منها تراجع عن رؤى واجتهادات جريئة في الاقتصاد والسياسية وغيرها نبغ فيها رواد التنظير الفقهي، والذين جمع الكثير منهم بين أكثر من تخصص علمي.
ثانياً – التركيز على الاجتهاد الجماعي:
لقد كان الشيخ الزرقا من أوائل من دعا إلى تأسيس المجامع الفقهية وأسهم فيها، فقد قدّم في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي الذي عقد في مكة المكرمة سنة 1384 هـ 1964 م، اقتراحاً يقضي بإنشاء مجمع فقهي، ومما جاء في الاقتراح: "إذا أريد إعادة الحيوية لفقه الشريعة بالاجتهاد الواجب اســتمراره شرعاً، والذي هو السـبيل الوحيد لمواجهة المشكلات الزمنية الكثيرة، بحلول شرعية حكيمة، عميقة البحث، متينة الدليل، بعيدة عن الشبهات، والريب، والمطاعن، وتهزم آراء العقول الجامدة والجاحدة على السواء. فالوسيلة الوحيدة هي: اللجوء لاجتهاد الجماعة، بدلاً عن الاجتهاد الفردي، وطريقة ذلك: تأسـيس مجمع للفقه يضم أشهر فقهاء العالم الإسلامي،... ويضم إلى هؤلاء علماء موثوقين في دينهم من مختلف الاختصاصات الزمنية اللازمة في شؤون الاقتصاد، والاجتماع، والقانون، والطب، ونحو ذلك، ليكونوا بمثابة خبراء يَعتمد الفقهاء رأيهم في الاختصاصات الفنية"(4 )، وقد أخذت الرابطة بهذا الاقتراح، وأنشأت مجمع الفقه الإسلامي، ومقره في مكة المكرمة، وكان الشيخ الزرقا عضواً فيه وفي غيره من المجامع الفقهية.
لكن ما ينبغي التنبه إليه، أن الاجتهاد الجماعي الذي يدعو إليه لا يرى ضرورته كشرط للاجتهاد أو بديل تام عن الاجتهاد الفردي الذي ينبغي أن يكون، إنما يعتبر أهميته من ناحيتي المشورة والنقاش والتداول في القضايا الهامة المعاصرة، ويلح على الاجتهاد الجماعي عندما يكون الرأي الفقهي المقترح للنقاش من شأنه التشديد في الحكم عما كان سابقاً، يمكن أن نلحظ ذلك في قوله في معرض الفتوى حول زكاة العمارات والآلات (المؤرخة بـ1970) "على أن من فقهاء العصر من يرى ضرورة إخضاع معامل الصناعة الآلية اليوم بآلاتها ومبانيها للزكاة، لأنها قد تمثل اليوم رؤوس أموال (ضخمة استثمارية نامية) بخلاف آلات الصناعة اليدوية قديماً. لكنني أرى أن هذا لا يجوز لفرد أن يفتي فيه من تلقاء نفسه، بل يتوقف على اجتهاد جماعي من وظيفة مجمع فقهي نرجو أن يوجد في العالم الإسلامي"(5 )، أما ما كان تيسيراً على الناس فلم يكن يرى - فيما يبدو- ضرورة للتقيد بالاجتهاد الجماعي فيه، لذلك نجده يخالف المجامع الفقهية وينفرد بالرأي أحياناً عندما يرى أن الأدلة وقواعد الاستنباط لا تؤيد ما يراه الأكثرية، ويصر على التمسك برأيه مستنداً لما يراه من أدلة أو أكثر يسراً على الناس ومراعاة لمصالحهم.
كما يلاحظ في مقترحه لإنشاء المجمع أن يكون متعدد التخصص بحسب القضايا المطروحة، وهذا تأكيد لما ذكرناه سابقاً من اعتبار التنوع في التخصص منطلقاً للتجديد عنده.
ثالثاً-فقه الواقع ومراعاة أثر العصر والمكان في الاجتهاد:
يلاحظ المتأمل في كتب الفقيه الزرقا تكرار ألفاظ من مشتقات الزمن والعصر، مما يدل على إدراكه العميق لأثر الزمن في تغير الأحكام الاجتهادية، وكذلك أثر البيئة العلمية والاجتماعية في فهم الفقهاء للنصوص واجتهادهم في الأحكام والفتاوى، لذلك فإنه يلح إلحاحاً شديداً على أن مستجدات هذا العصر لا تخضع لاجتهادات الفقهاء السابقين، ويرفض مقايسة المعاملات المستجدة إلى أنماط العقود والمعاملات السابقة ويصر على أنها ينبغي أن تخضع لاجتهاد تراعى فيه القواعد والمصالح، ويمكن الاستشهاد على ذلك بالأمثلة التالية:
1- ملاحظة اختلاف المسائل المستجدة عن المسائل المبحوثة في كتب الفقه، فمن ذلك موقفه من عقد التأمين: ويمكن اعتبار رأيه فيه من أبرز الأمثلة على فقه الواقع لديه، يقول: "إن عقد التأمين عقد مستحدث فيجب أن نحاول تخريجه على ضوء القواعد والمصلحة، فقد كانت المصلحة وحدها دليل الفقهاء في القرن الخامس لتخريج بيع الوفاء وتصحيحه"(6 ) ، ويؤكد ذلك بقوله "فالتأمين عقد جديد لا يجوز قياسه أو إلحاقه بأحد العقود التقليدية وتنزيل أحكامه عليها، بل يجب أن تقرر له أحكام تناسبه بحسب غايته ضمن إطار القواعد العامة لنظام التعاقد، ومع بعض استثناءات إذا اقتضت الحاجة ذلك"(7 )، فهو يرفض منطق إلحاق عقد التأمين بنماذج من العقود السابقة وتقييده بشروطها وقواعدها، إنما يرى أن عقد التأمين صورة جديدة من العقود المستجدة وكل مستجد ينبغي أن يتم الحكم عليه من خلال مقاصده أولاً وطبيعة المصلحة التي يمكن أن يحققها، ومن ثم يخضع للقواعد العامة للعقود والمعاملات وقد تخضع بعض الجوانب لاستثناءات ترجحها جوانب أخرى من حيثيات العقد نفسه.
2-ملاحظة ظروف النصوص التي استندت إليها الأحكام، فمن ذلك رأيه في مواقيت العبادات في المناطق القريبة من القطب والتي يطول فيها الليل أو النهار: خالف الشيخ الزرقا في هذه المسألة قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة والذي يرى الاستناد في ذلك إلى النصوص التي حددت المواقيت طالما يتمايز الليل والنهار دون مراعاة لطوله أو قصره، وما يترتب على ذلك من مشقة، لكن الشيخ الزرقا يرى أن ما يكتشف من مناطق لها أحوال جوية خاصة لا تنطبق عليها النصوص لكون تلك النصوص تتعلق بحكم ما هو قائم ومعلوم في عصرها، أما ما يكتشف فله حكمه الخاص الخاضع للاجتهاد، مثل الصلاة والصوم في المناطق القريبة من القطب، يقول: "إن هذه الأماكن القاصية والمجهولة شمالاً وجنوباً مما اكتشف فيما بعد. يجب أن تعتبر مسكوتاً عن حكم أوقات الصلاة والصيام فيها، فهي خاضعة بعد ذلك للاجتهاد بما يتفق مع مقاصد الشريعة"(8 )، ذلك أن الأحاديث التي استند إليه القرار يجب أن يفترض أنها مبنية على الوضع الجغرافي والفلكي في شبه الجزيرة العربية، وليس بجميع الكرة الأرضية التي كان معظمها من بر وبحر مجهولاً إذ ذاك لا يعرف عنه شيء، ويرى أن تخضع تلك البلاد للحد الأعلى لليل والنهار صيفاً وشتاء في شبه الجزيرة العربية أو ما وصل إليه الفتح الإسلامي من بلاد، وتوزع الصلوات يما يتناسب مع فواصل ذلك الحد الأعلى، ويرى في خلاف ذلك حرجاً رفعه القرآن، وفي هذا التوزيع رعاية لمقاصد الشريعة في مواقيت الصلاة.
فقد لاحظ أن النص الذي استند إليه لا يعم الزمان والمكان إنما البيئة في عصر النبوة، وبالتالي فإن ما يكتشف من أماكن تخضع لفقه جديد، وما دعاه لهذه المخالفة ما في الرأي الآخر من مشقة وبعد عن مقاصد الشريعة.
3-ملاحظة ظروف اجتهادات الفقهاء ومعطيات عصرهم: فمثلاً يعلل رفض اعتماد الفقهاء القدامى على علم الفلك في حساب الشهور لتداخله مع التنجيم المنهي عنه واختلاطه بالشعوذة، ولكون ما توفر لديهم من هذا العلم كان يعتمد على الحدس والتخمين فهو ظني بخلاف علم الفلك اليوم(9 )، وذلك في سياق تأكيده لضرورة اعتماد الحساب الفلكي. وفي فتواه بعدم نقض الوضوء بالطهر الذي تراه المرأة وعدم نجاسته، يقول:"ولم يكن فقهاؤنا يعلمون الصلة بين الحيض والمبايض مما كشف عنه الطب الحديث"(10 )
رابعاً- التأكيد على مكانة العقل في الاستنباط وفهم علل الأحكام:
"إن الدين الإسلامي ميزته أنه يقوم على العقل، وأحكامه العملية معللة برعاية المصالح والأصلح، وكون النقل – أي:النصوص- هو المعول عليه قبل كل شيء لا يعزل العقل عن مرتبته المعروفة في الشرع، لأن فهم النص يحتاج إلى عقل علمي. وفي أصول الإسلام أن الإيمان بدون دليل عقلي لا يقبل، أو هو مختلف فيه، كما هو معروف في علم الكلام"(11 ) و"للعلة تأثيرها في فهم النص وارتباط الحكم بها وجوداً وعدماً في التطبيق، ولو كان الموضوع من صميم العبادات"(12 ).
هذه العبارات للشيخ الزرقا تؤكد أهمية إعمال العقل في فهم النصوص وتحديد علل الأحكام المستنبطة منها، ونظراً لهذه المكانة للعقل –والتي أهملها الكثيرون- خصص كتاباً بعنوان "العقل والفقه في فهم الحديث النبوي"، ضمنه مجموعة من المباحث التطبيقية، وقد حدد فيه ثلاثة أدوات لا بد منها لحسن فهم الأحاديث، وهي: التعمق باللغة العربية ومعرفة أساليبها البيانية، والعقل لأنه هو الميزان الذي ربط به الله التكليف، والتمكن من فقه الشريعة الذي به يعرف العالم مقاصدها ويقيس الأمور بأشباهها ويعرف محامل النصوص.(13 )، ثم عرض لنماذج لأحاديث صحت لكن الفهم الاجتهادي لها لم يكن دقيقاً وصحيحاً، وأن إعمال هذه الأدوات يكشف عن فهم أقرب لمقاصد الشريعة، ويزيل كل التباس. وسأعرض نماذج لإعماله العقل واستناده إلى العلل في فهم النصوص أو الترجيح بين المسائل والاجتهاد في القضايا المستجدة:
1- رؤية النبي(صلى الله عليه وسلم)في المنام: في فهم الحديث المروي في البخاري عن النبي (صلى الله عليه وسلم):"من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي" وبعد دراسته لروايات الحديث وشروحها يصل إلى أن هذا الحديث خاص بعصر النبي (صلى الله عليه وسلم)وعصر صحابته الكرام وليس له امتداد في الزمان ولا في الأشخاص، ويعتبر الحديث منتهياً بوفاة آخر صحابي عرف صورته الحقيقية، ويستند بذلك إلى إرجاع ضمير المتكلم في النصوص إليه (صلى الله عليه وسلم)أي إلى شخصه بذاته وهيئته، وهذا لا يتحقق إلا لمن عرف صورته(14 )، في هذا جواب عن التناقض الذي يحصل عند من يدعون رؤية النبي (صلى الله عليه وسلم)على أوصاف مختلفة ومتناقضة وكل يدعي أنها رؤية حق.
2-تعليل مستند الفقهاء في رفض الاعتماد على الحساب الفلكي: أشرنا فيما سبق إلى تبريره موقف القدامى في رفض الحساب الفلكي لاختلاطه بعلم التنجيم، وهنا نشير إلى تعليله الأحاديث التي استند إليها المصرون على الرؤية، والتي لا يعللونها لأنها من مواضيع العبادات، لكنه يرى أنها ترجع إلى حديث: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا"، فقد علل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)أمره باعتماد الرؤية بكون الأمة حينذاك أمية، مع عدم توفر علم بالنظام الفلكي المحكم، ورؤية الهلال هنا وهي الوسيلة الممكنة الميسورة إذ ذاك وليست عبادة بحد ذاتها، فلو كان عندهم معرفة بالحساب الفلكي لاعتمدوه، وما دامت قد انتفت علة اعتماد الرؤية وهي الأمية، "فما الذي يمنع أن نعتمد الحساب الفلكي اليقيني، الذي يعرفنا مسبقاً بموعد حلول الشهر الجديد، ولا يمكن أن يحجب علمنا حينئذ غيم ولا ضباب إلا ضباب العقول؟!" (15 )
3-نماذج من اعتماده العقل في بعض اجتهاداته المعاصرة:
- جواز صرف الفوائد الربوية المتحصلة للشخص إلى الفقراء، استناداً إلى أن كل كسب خبيث سبيله الصدقة، ويجيب المنكرين لهذا الرأي بقوله:"فهل من المعقول أن نمنع أخذ شيء من أموال المصارف التي تتعامل بالفائدة لإعطائه الفقراء؟.وهل بقاء الفائدة في المصرف ليزيد بها معاملاته الربوية أولى شرعاً من سحبها منه وتحويلها إلى الفقراء؟"(16 )
-التفريق في القرض الحسن بين القرض الشخصي فلا يزاد فيه شيء وكل زيادة تعتبر ربا، وبين القرض الجماعي الذي يقصد به إدامة وجود رأسمال يستفيد منه أكبر قدر ممكن من المنتفعين، ويحتاج إلى جهاز إداري يشرف على استرداد المبلغ، وهذا يحتاج إلى مصاريف تحسب بنسبة على المنتفعين وتكون هذه النسبة مصروفة فعلياً لهذا الغرض وليست فائدة باسم آخر، ويقدرها أهل الخبرة، ويتسامح بالفارق البسيط بين عائد النسبة المقتطعة وبين المصاريف الفعلية(17 ).
خامساً- تفعيل مقاصد الشريعة وقواعدها، ومراعاة المصالح العامة:
لا تكاد تخلو فتوى من فتاويه من ذكر مقاصد الشريعة والقواعد التي استند إليها في بيان رأيه، بل إننا نجده يفَعِّل بعض القواعد التي تبدو مهملة كالاستحسان، والمصالح، والظروف الخاصة. ومن الأمثلة على ذلك:
- يقول في سياق فتواه بعدم اشتراط ترتيب الرمي والذبح والحلق: "أما إذا نظرنا بمنظار القواعد الشرعية الاستثنائية للحالات والظروف الخاصة، كقاعدة الضرورات أو الحاجات العامة، وكقاعدة الاستحسان التي تفتح طرقاً للخروج من تحت القواعد القياسية لتقرير أحكام استثنائية خاصة ببعض المسائل، رعاية لظروفها وملابساتها الخاصة التي لم تراع، بل طبقت فيها القواعد القياسية العامة، تنتهي بها إلى نتائج تناقض مقاصد الشريعة، وتوقع في الحرج، .."(18 ) .
-يقول في تأكيده جواز التأمين بمختلف أنواعه: "وأن مقاصد الشريعة تؤيد قيامه (يقصد التأمين)، لأنه في جميع أنواعه الثلاثة هو نظام تعاوني جديد على ترميم المصائب"(19 )
- ويقول في فتواه حول زكاة العمارات والآلات:"على أنه إذا نظرنا إلى أعمق من الظاهر قد ندرك أن المصانع الآلية المتطورة بصورتها الحاضرة الضخمة اليوم، آلات وبناء، قد يكون في عدم إخضاعها للزكاة مصلحة لا تقل عن المصلحة الملحوظة في إخضاعها إن لم تزد، فإن ما تفتحه من أبواب العمل المنتج للعمال والفقراء، فتحرك فيهم طاقات كبرى كانت عرضة للتعطيل والشلل وتدر أرزاقاً لأولادهم وأسرهم، وتدير دولاب الاقتصاد العام في جميع أنواعه"(20 )
- ويقول في إباحة العمل في شركات يختلط فيها الحلال والحرام: ""فالأولى أن يعفى عن الكتابة والمحاسبة القانونية في الشركات لعموم البلوى، جمعاً بين مقاصد الشريعة والواقع الذي لا يستطيع الأفراد تغييره"(21 ).
سادساً-التيسير و البعد عن التعصب:
من أهم خصائص الشريعة الإسلامية التيسير ورفع الحرج ودفع المشقة، بل إن ما يحصل من مشقة في التكاليف المقررة ترفعها قواعد خاصة تتعلق بحال المكلف، لكن هذه الميزة تجلت للبعض في فهم حكمة التشريع دون اعتمادها في الفتوى أو الاجتهاد في القضايا المعاصرة، ومما زاد في عدم إظهار وتفعيل هذه الميزة للتشريع الإسلامي التعصب المذهبي الذي أغلق باب الاجتهاد ودفع الناس إلى التحجر في التزام المذهب الواحد حتى لو كانت فيه مشقة، ولئن كان هذا مقبولاً من قبل الفرد كسلوك شخصي إلا أن تعميمه على الجماعة وعلى أنه الوجه الأفضل والأصوب فيه شيء من التجني، لذلك كان الشيخ الزرقا في تجديده للفقه الإسلامي وحرصه على إحياء الفقه حريصاً على إعمال هذا المبدأ واستحضاره في كل مسألة سواء كان ترجيحاً بين الآراء أو اجتهاداً معاصراً، ومن شواهد ذلك:
- يقول قي سياق حديثه عن التأمين: "إننا في مثل هذه العقود التي فشت، (يقصد عقد التأمين) وأصبحت من ضرورات التجارة العصرية، يجب أن نتلمس في النصوص القديمة نوافذ الترخيص والتجويز، فمتى وجدنا لجوازها منفذاً نفذنا منه، لا أن نأخذ بدلائل التضييق ووجوهه عندما يكون في النص وجهان في الدلالة، هذا ما أعتقد أنه يجب أن يكون منهاجنا الفقهي في معالجة الأمور الزمنية، بعد أن يكون في هذه الأمور مصلحة ظاهرة لا مفسدة"(22 ) .
- ويحذر من التعصب الأعمى والسلبية باتخاذ التشديد والحظر أصلا ومنهجاً، ويعزو رفض العلماء للكثير من المسائل والترخيص فيها إلى هذا الورع الموهوم أو التعصب، يقول – وفي سياق الحديث عن التأمين أيضاً-:"..فإذا لم تكن للباحث خلفية مسبقة كونت لديه رواسب يتعصب لها ولا يقبل عنها تحولاً بأي برهان كان، وإنما يريد فهم الحقيقة العلمية متجرداً من الخلفيات والتعصب لها، لا يتردد أبداً في تقرير جوازه. ولكن مع الأسف قليل ما هؤلاء!! بل هناك من يتاجرون بالسلبية فيما لا يعلمون، دلالة على أنهم ورعون، وغيرهم لا يبالي!! لستر جهلهم أو تعصبهم الأعمى لخلفياتهم بستار الورع!!"(23 )، ويقول في سياق الحديث عمن يرفض اعتماد الحساب الفلكي:"أستغرب كل الاستغراب موقف السلبيين من رجال الشريعة في هذا العصر، الذي ارتاد علماؤه آفاق الفضاء الكوني،.....، إني على يقين لو أن علماء سلفنا الأولين، الذين لم يقبلوا اعتماد الحساب الفلكي للأسباب التي سأذكرها قريباً (نقلاً عنهم) لو أنهم وجدوا اليوم في عصرنا هذا، وشاهدوا ما وصل إليه علم الفلك من تطور وضبط مذهل، لغيروا رأيهم، فإن الله قد آتاهم من سعة الأفق الفكري في فهم مقاصد الشريعة ما لم يؤت مثله أتباعهم المتأخرين"(24 ) .
- وفي إيضاح منهجه في الإفتاء يقول:"إني لا أريد أن أفتي بأضيق المذاهب الفقهية إذا كان بعض المذاهب فيه سعة في الموضوع أكثر من الأخرى، ولاسيما لإخواننا الذين يعيشون في المهجر"(25 ) .
- وفي تعليله لفتواه في طهر المرأة ونقده لمن يعترض عليه يقول:"فإذا قلنا إن هذا الطهر ينتقض به وضوؤها، فمعنى ذلك أنه لا يستقر للمرأة وضوء!! وهذا أبعد ما يكون عما تتسم به الشريعة من اليسر، ودفع الحرج"(26 ).
- وفي رفضه الاقتصار على مذهب واحد وتأكيده ضرورة اعتماد مختلف المذاهب والأخذ عن جميعها، يقول: "والحق أن المذاهب الأربعة يجب أن تعتبر بمجموعها مذهباً واحداً يمثل الفقه العام، وأن يكون كل واحد منها بمثابة الآراء المختلفة في المذهب الواحد، لكي يستفاد منها جميعاً في وقت واحد، فكل مذهب وحده بمفرده لا يكفي حاجة الأمة ولا يغني عن سواه، ولكن مجموعها لا يضيق عن حاجاتها المستجدة إذا أردفه الاجتهاد في اختيار الأفضل في كل مسألة جديدة"(27 ) ، ويربط حيوية الفقه الإسلامي بالتقنين منه و"إن التقنين من الفقه الإسلامي يستلزم الانفتاح على المذاهب الفقهية كلها، وأخذ أفضل ما في كل منها في كل مسألة"(28 ).
هذه النصوص تدل بمجموعها على منطلق الشيخ الزرقا في التجديد، فهو يبتدئ مما هو موجود من اجتهادات من أي مذهب كان، يتخير منها ما هو أيسر وأوفق وأصلح للناس، وما لم يكن فيه رأي مما هو مستجد أو ما هو مشكل مما هو قديم من الآراء يجتهد فيه، ملاحظاً المصلحة ومقاصد الشريعة وقواعدها، ورفع الحرج عن الناس.
سابعاً- التدرج في تطبيق الأحكام:
من منهج الشريعة الإسلامية أن أحكامها نزلت بالتدريج، لكن الكثيرين لا يرون هذا التدريج في التطبيق ويعتبرونه من خصائص بدء التشريع، أما بعد اكتماله فهو كتلة واحدة لا تتجزأ في التطبيق، وإن كان الأمر كذلك على مستوى التصور والاعتقاد، إلا أنه على مستوى التطبيق ليس كذلك، فأمر التدرج مستمر بحسب الظروف وحال الناس ومواقفهم، لاسيما في هذا العصر، ويرى الشيخ الزرقا أن ذلك ضروري اليوم، ولا ينبغي أن يعلن كل شيء من أحكام الشريعة ما لم تتهيأ عقول الناس ونفوسهم لتطبيقها، بل يرى فيما هو شاق وعسير على الناس قبوله تبني وجهة النظر الأخف ومن ثم تشديدها إن قبلها الناس، فمثلاً في سياق ترجيحه اعتبار رجم الزاني المحصن من قبيل التعزير وليس الحد، يؤكد أهمية اعتماد هذا الرأي في هذا العصر، يقول:"ولا ننسى أن الشريعة الإسلامية الغراء قد سلك الله تعالى ورسوله(صلى الله عليه وسلم)فيها خطة التدرج في إعلان أحكامها، ... فقد يكون من الخير أن يقتصر الآن على إعلان تطبيق حد الجلد فقط في جميع أحوال الزنى بانتظار الوقت المناسب لإعلان حد الرجم تعزيراً أو حداً بعد أن تأتلف النفوس أحكام الشريعة، وترى مزاياها"(29 ).
ثامناً- التأكيد على هوية المسلم وإظهارها:
بدا للبعض أن منهج الشيخ الزرقا في التيسير ومخالفة معاصريه في الاجتهاد بالمسائل المستجدة هو من باب التساهل ومسايرة العصر، كما استغل البعض جرأته فنسبوا إليه من الأقوال ما لم يقله لتبرير مواقفهم، لكنه كان شديد الغضب عندما يرى الناس يتناقلون رأيه محرفاً أو من غير دليله أو يفسرون رأيه ويسقطونه على الصورة التي في أذهانهم، في الوقت الذي يرى فيه المسألة على غير ما يرون، ومما يدفعه إلى الغضب أنه في تيسيره على الناس إنما ينطلق من ورع أشد من منطلق المعسرين، ولم يقل بمسألة فيها مخالفة لما هو سائد إلا أشبعها أدلة وقواعد وشواهد مختلفة تؤيد رأيه.
يقول محذراً من الافتراء عليه:":"وإنني أستعدي الله تعالى على كل من ينسب إلي فتوى أو رأياً لم يسمعه مني، ولم يقرأه مكتوباً بقلمي. فقد بلغني أن أناساً يفترون عليَّ، وينسبون إليَّ من الآراء ما أنا منه براء، مستغلين حرية تفكيري في الفهم الفقهي الذي يلهمني الله تعالى، ومنهم من يفعل ذلك على سبيل الطعن، ومنهم من يفعله لتبرير انحرافاته. ولن أسامح أحداً من هؤلاء أمام الله تعالى"(30 ).
ومما يؤكد حرصه على التقوى في فتاويه واجتهاداته أنه يؤكد دوماً على هوية المسلم، ويتحفظ عندما يبدو السؤال أنه بحث عن تبرير أو ترخيص، فمما قاله في هذا السياق: "ولكن نفسي لا تطمئن إلى هذه الظاهرة من التبرير (بيع الخمر في بقالية في بلاد أجنبية لرواج البضاعة)، فإن المسلم يجب أن يكون عنواناً على مبادئ الإسلام في سلوكه أينما وجد"(31 ) .
وقال في سياق آخر حول أمور تتعلق بحياة المسلم في الغرب يقول:"فإذا كان الحل المطلوب هو أن يسمح للمسلم أن يعيش في البلاد الأجنبية كما يعيش أهلها الكفرة، لأن في الالتزام بالسلوك الإسلامي تلك المشقات المادية والمعنوية التي شرحتها شرحاً وافياً في رسالتك، لا يبقى عندئذ فرق بين الإسلام وغيره إلا في مجرد اسم المسلم الذي لا يبقى له مدلول عملي، مع أن الفارق الأساسي بين المسلم والكافر إنما هو في السلوك النظيف الطاهر الإسلامي. أما المشقة التي يواجهها المسلم فإنها المشقة التي لا يخلو عنها التكليف، فأي معنى يبقى للمسلم إذا كان يعيش في البلاد الأجنبية مثل أهلها الكفرة؟!"(32 ) ، و"أي فرق يبقى بين المسلم والكافر إذا كان المسلم الذي يعيش في بلاد الكفار يعيش مثلهم ويمارس ما يمارسونه؟ بل عليه أن يلتزم بأحكام الإسلام ويكون سلوكه دعاية إسلامية"(33 ) .
الخاتمة:
إن تتبع الآثار العلمية للعلامة المجدد مصطفى الزرقا – لاسيما الفتاوى – يقودنا إلى ملامح منهجه الفقهي، ومنطلقاته في تجديده، فعلى مستوى مؤهلات الفقيه المعاصر يلح على تمكنه من أكثر من تخصص علمي وبالخصوص علوم القانون وفلسفته ومن مصادره الأصلية، وعلى مستوى الجماعة يؤكد على أهمية الاجتهاد الجماعي والمؤسسي واستشارة المختصين في المسائل من غير الفقهاء لمعرفة حيثيات المسائل.
وكان في اجتهاداته ينطلق من فقه الواقع ويدقق في أحوال المسائل المستجدة ويحدد المعايير التي ينبغي أخذها في الاعتبار عند إطلاق الحكم، فيحدد ما للزمان والمكان من أثر في الحكم على المسألة، أو في فهم النصوص واستنباط الأحكام، أو في تفسير وتعليل مواقف الفقهاء في فهم النصوص واستنباط الأحكام، لذلك يرفض المقايسة بين ما هو مستجد من أنماط المعاملات ومقتضيات الحياة وبين ما كان من صور أفتى بها الفقهاء السابقون، فما هو مستجد يخضع للمصالح والقواعد لا إلى القياس على ما هو قائم.
وفي تخريجه للحكم واستنباطه للنص يستند ابتداء على العقل ويرى أن دوره أساسي في فهم النصوص، وبالدرجة الأساسية فهم علل الأحكام، لاسيما ما يتضمنه النص من علل، ويربط ذلك بحذق اللغة العربية وفقه الشريعة العام لما لذلك من أثر في تحديد الدلالة الدقيقة للنصوص، وعندما تتخلف هذه العناصر ربما يأتي الفهم مخالفاً لمقاصد التشريع رغم صحة النص.
مقاصد الشريعة بدورها تعتبر من أهم منطلقات التجديد، سواء في فهم النص أو تخريج الحكم وإصدار الفتوى، وكذلك تفعيل قواعد التشريع والتي تعالج المسائل المستجدة والمتغيرة، كالمصلحة والاستحسان والضرورات والظروف الخاصة، وغيرها، مما يسهم تفعليه في تقديم إجابات غير متبادرة عند طرح المسائل.
ولا ينفصل عن مقاصد الشريعة اعتبار التيسير ورفع الحرج ودفع المشقة في التشريع أو الفتوى، ويحول دون ذلك التعصب المذهبي، الذي يرفضه الشيخ الزرقا بشدة، ويرى أن لا حياة للفقه إلا باعتماده في القانون أخذاً من مذاهبه المختلفة والمتنوعة.
لكن ظروف العصر تقتضي التدرج في التطبيق واختيار الآراء التي فيها اليسر والقبول، والتي لا تثير حفيظة المخالفين وتعطل الاستفادة من رحابة الفقه الإسلامي ومرونته، على أن التيسر والتسهيل والتدرج لا يعني بحال تخلي المسلم عن هويته وسلوكه، بل ينبغي أن يكون بذلك عنواناً على الجانب العملي من إسلامه.
هذه المنطلقات التي استخلصناها من آراء الشيخ الزرقا وإنتاجه العلمي ما هي إلا خطوط عامة لما ينبغي أن يكون عليه الفقه والفقيه المعاصر دراسة واجتهاداً وإفتاءً، وما لم تؤخذ منطلقاته في الاعتبار لن يكون للفقه حياة، بل إن تطورات العصر ستسبق الفقهاء، وسيتحملون وزر ضعف الاجتهاد وتأخره في تأمين البديل الإسلامي، وسيظل الفقيه المجدد مصطفى الزرقا نموذجاً بل مدرسة يحتاجها كل فقيه معاصر، ولن يكون راضياً ما لم يتجاوزه من يأتي بعده من الفقهاء، ويستند إلى ما فعله من منطلقات للتجديد والمعاصرة.
الإحالات:
(*) هذا البحث ورقة قدمت في ندوة "جهود علماء حلب جهود علماء حلب في العلوم الإسلامية" التي نظمتها كلية الشريعة في جامعة حلب أيام: 11-13/2/2007، وذلك بمناسبة افتتاحها.
(1) مصطفى الزرقا، الفقه الإسلامي ومدارسه، ط:1 دار القلم- دمشق1995، ص 106
(2) هناك ترجمة وافية عن الشيخ مصطفى الزرقا في مقدمة الفتاوى.
(3) مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، ط:9 دار الفكر – دمشق 1968، ص17
(4)مناع القطان، تاريخ التشريع الإسلامي، ص 339
(5) انظر: فتاوى مصطفى الزرقا، اعتنى مجد أحمد مكي، ط:2، دار القلم – دمشق 2001، ص128، وسأعتمد عليها في البحث وأختصرها بعبارة " الفتاوى"
(6) الفتاوى، ص405
(7) الفتاوى، ص417
(8) الفتاوى، ص115 (فتوى حول المواقيت في المناطق القريبة من القطب 11/6/1995 مخالفاً رأي المجمع الفقهي بمكة)
(9) الفتاوى، ص167-168
(10) الفتاوى، ص99
(11) الفتاوى، ص579-580
(12) الفتاوى، ص159
(13) انظر: مصطفى الزرقا، العقل والفقه في فهم الحديث النبوي، ط:1 دار القلم – دمشق 1996، ص8.
(14) العقل والفقه في فهم الحديث النبوي، ص17-34، هذا ومن أمانة الشيخ العلمية ودقته أنه وبعد أصدر اجتهاده الذي تفرد به ولم يره من قال به من قبل عثر على عبارة لابن جزيء في القوانين الفقهية تؤيد ما وصل إليها صراحة، فنص عليها في آخر بحثه .
(15) مصطفى الزرقا، العقل والفقه في فهم الحديث النبوي، ص80-81، الفتاوى، ص166
(16) الفتاوى، ص580
(17)انظر: الفتاوى، ص 680-681
(18) الفتاوى، ص206
(19) الفتاوى ص 416 (تاريخ الفتوى16/5/1993)
(20) الفتاوى، ص129
(21) الفتاوى، ص486 (مؤرخة 1998)
(22) الفتاوى، ص404
(23) الفتاوى، ص 416
(24) الفتاوى، ص158
(25) الفتاوى، ص566
(26) الفتاوى، ص 98
(27) الفتاوى، ص373
(28) الفتاوى، ص373
(29) الفتاوى، ص395
(30) الفتاوى، ص617-618
(31) الفتاوى، ص562
(32) الفتاوى، ص269
(33) الفتاوى، ص275