/
الرؤية التاريخية والفعل الحضاري في فكر النهضة
محمد عادل شريح
لقد عاد سؤال النهضة ليطرح نفسه بقوة في الثقافة العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة[1]، وما من شك في أن مثل هذه العودة تمتلك نصيباً كبيراً من المشروعية النظرية و العملية، ذلك أن الواقع العربي على امتداد القرن العشرين و مع بدايات الألفية الجديدة هو في المحصلة نوع من الحصاد لما تم غرسه من توجهات و أفكار في هذه الفترة بالذات. و بالرغم من أن الحديث عن النهضة و رموزها قد طال العديد من المسائل بدأً من دلالات التسمية و صولاً إلى الأفكار المكونة لهذه المرحلة،إلا أن السؤال- المفارقة- الذي لا نفتأ نشعر به كلما لامست مسامعنا كلمة "النهضة" و الذي لم يلق جواباً واضحاً و صريحاً حتى اليوم هو التالي: لماذا نطلق مسمى النهضة على فترة وصل فيها انحدار المسار التاريخي للأمة مراحل متقدمة جداً، حيث فقدت الأمة رمز وحدتها السياسية المتمثلة بدولة الخلافة، و تحولت فيها شعوب هذه الأمة إلى شعوب مستعمرة، مما هيأ لاحقاً لإمكانية غرس الكيان الصهيوني في قلب الأمة. هل كان ذلك نتيجة لعوامل خارجية متمثلة في تآمر الدول الاستعمارية الأوروبية على بلادنا و شعوبنا فقط؟ أم أن هناك وزر تتحمله هذه النهضة متمثلاً في عجزها عن إدراك مخاطر اللحظة التاريخية و متطلباتها.
1. الفعل الحضاري و الرؤية التاريخية يتسم فكر النهضة بكونه فكراً يصبو إلى تحقيق نقلة حضارية في واقع الأمة و المجتمع، و كذلك كانت كافة المشاريع الأيديولوجية التي عاشتها الساحة العربية والإسلامية في القرن العشرين التي هي وليدة عصر النهضة، و يأتي كونها مشروعات حضارية من طبيعة التغير الذي كانت تسعى لتحقيقه و كونه يلامس البنى المكونة للرؤية الحضارية في محاولة لاستحضارها و قولبتها و إعادة أنتاجها بما يتناسب و التصورات الأيديولوجية الخاصة لهذه أو تلك من المشاريع. لكن هل استكمل خطاب النهضة مستلزمات و مقدمات النقلة الحضارية التي كان يصبو إليها أم لا؟ إن عملية التغير الحضاري تتطلب أولاً و قبل كل شيء رؤية تاريخية واضحة تعطي للفعل الحضاري سياقات منهجية و ضوابط نظرية تمنعه من الشطط و الزلل، ذلك أن الفعل الحضاري هو فعل في التاريخ، و التاريخ هو حركة الوجود العام في الزمان ، و هذه الحركة، سواء اعتقد البعض أنها تسير تبعاً لتصورات فبلية أو أنها فاقدة لهذه التصورات، فهي تسير تبعاً لقوانين يرى البعض أنها قوانين متعالية، و يرى آخرون أنها متضمنة داخل الدائرة الوجودية و يقوم الإنسان بصياغتها و تحديدها. و في كلا الحالتين، فإن هذه الرؤية التاريخية تمثل المقدمة الضرورية و الإطار الناظم للفعل الحضاري الذي يقوم بترجمتها إلى ممارسة حضارية عملية شاملة. من ناحية أخرى فأن هذه الرؤية التاريخية لا تقل في قيمتها و أهميتها بالنسبة للفعل الحضاري عن قيمة و مكانة المنظومة العقائدية بالنسبة للظاهرة الحضارية ، فكما أن المرتكزات العقائدية الكونية هي إعلان عن تصور هذه الحضارة للامتداد المكاني، فإن الرؤية التاريخية هي إعلان عن تصور هذه الحضارة للامتداد الزماني، ولا بد للفعل الحضاري المثمر من تكامل عنصري الزمان والمكان في رؤيته الحضارية. بالرغم من التباين في طروحات الفكر النهضوي بين رموزه و تياراته المختلفة، فإن ما يوحدها جمعياً هي هيمنة رؤية تاريخية واحدة على أطروحاتها المتباينة،عبرت عنها بعض التيارات العلمانية بوضوح، و حاولت بعض التيارات الدينية الإصلاحية تمريرها تحت مسميات مختلفة. هذه الرؤيا تمتاز بإيمانها الكبير بالقناعة الفلسفية التاريخية التي كرستها الفلسفات الغربية في القرن التاسع عشر و المتمثلة بعقيدة التقدم ، فالمجتمعات تسير عبر التاريخ نحو حتمية حضارية تمثل الحداثة الغربية نموذجاً لها وبالتالي فإن كل من يتصدى لهذا المسار فهو يتصدى لحركة التاريخ الحتمية ، التي صارت تسمى في أدبيات الفكر الإصلاحي بالسنن الاجتماعية التي هي شأنها شأن السنن الطبيعية خلقها الله لنعرفها ونسيّر أمور حياتنا على هديها. و قد لاحظ ألبرت حوراني هذه السمة المميزة لأيدبولوجيا النهضة فكتب يصف مفكري النهضة بأنهم " : تأثروا بنمط التفكير الذي عبر عنه " كل من كونت، ورينان، و مل، و سبنسر، و دركهايم، الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه، بحكم سنة التقدم الذي لا يعكس و لا يقاوم، نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل، و اتساع أفق الحرية الفردية و ازدياد التخصص و التشابك"[2]، وإذا كان ألبرت حوراني قد عنى بقوله السابق الجيل الذي جاء من وراء محمد عبده و الذي تلقى في معظمه تعليماً في الدول الغربية، فإن محمد عبده الذي سعى جاهداً لأن يؤصل إسلامياً كل آرائه و أفكاره لم يخرج في دعواه عن هذه الفلسفة التاريخية، و لو أردنا أن نلخص دعواه الإصلاحية في شقها الاجتماعي لقلنا أنها كانت دعوة للعمل بمقتضى " السننية" التي هي قانون ثابت في الكون و المجتمع،يقول عبده في ذلك " إن لله في الأمم و الأكوان سننا لا تتبدل والسنن هي الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون و على حسبها تكون الآثار، و هي التي تسمى شرائع أو نواميس... أن نظام الجمعية البشرية و ما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير و لا يتبدل، وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يردّ إليها أعماله و يبني عليها سيرته و ما يأخذ به نفسه. فإن غفل عن ذلك غافل فلا ينتظرن إلا الشقاء"[3]. و لن يجد القارئ لكتابات محمد عبده تأويلاً آخر لهذه السننية سوى في سنة التقدم التي تأخذ بالعلم و الصناعة الحديثين و تنادي بالمدنية الحديثة.
2. غياب الحس التاريخي بين المقدمات و النتائج إن هذا الربط بين خطاب النهضة و عقيدة التقدم التي هي من الأفكار المكونة لأيديولوجيا الحداثة الغربية، سيؤدي حتماً إلى ربط الصيرورة التاريخية و الحضارية لفكر النهضة بأفق النموذج الحضاري الذي أنتج هذه الأيديولوجيا، أي الحضارة الغربية الحديثة، و قد ترتب على عملية الربط هذه نتائج عديدة، كما أنها كانت محصلة لمقدمات. أما هذه المقدمات فهي تتمثل في ملابسات اللحظة التاريخية التي استشعر فيها الوعي المسلم المعتد بذاته الحضارية حقيقة الفوات الحضاري الذي يعيش فيه، و واقع أن الغرب قد تفوق عليه و أنه قد عاد ليغزوه و يستعمره. و قد شكلت هذه المعرفة الجديدة صدمة قوية للوعي المسلم، و قد كانت ردة الفعل الأولى بعد تجاوز الصدمة، هي السعي لاكتشاف هذا الأخر، لكن هذا السعي لم تنتجه عقول هادئة متزنة بل أنتجته عيون مسحورة مبهورة، و من يطلب الدليل على هذا فليقرأ كتاب الطهطاوي" تخليص الآبريز في تلخيص باريز" حيث يصل انبهاره بحسن عقول الفرنسيين و دقة فهومهم و تنظيمهم الاجتماعي و السياسي إلى الحد الذي يفقد فيه الإحساس بالحدود الثقافية والتاريخية التي تميز الذات عن الآخر فنراه يقرر أن الفرنساوية في أخلاقهم و آدابهم و أحوالهم السياسية هم أقرب إلى العرب من باقي الأمم و الشعوب حتى المسلمة منها كالأتراك مثلاً[4]. أما النتائج التي ترتبت على غياب إستراتيجية الفعل التاريخي في فكر النهضة، فقد تمثلت في: أولاً: إن اللحظة التاريخية التي كان من المفترض لها أن تعبر عن النهضة بمعنى الانبعاث الحضاري لأمة عريقة في التاريخ و الحضارة، أصبحت محاولة لعملية استنساخ تاريخي تستقرأ النهضة الأوروبية لتقوم بإعادة إنتاجها في الواقع العربي و الإسلامي و تكون بذلك قد انسجمت مع حتمية الحركة التقدمية للتاريخ. أن النهوض الحضاري يتطلب إدراك الخصوصية الحضارية و وضع استراتيجيات تنسجم مع السياق التاريخي و الحضاري الذي يميز هذه الأمة تاريخياً و حضارياً، لكن هذا ما لم يفعله و لم يقله فكر النهضة إنما صب جهوده كلها نحو إيجاد نوع من الموائمة بين المسار التاريخي و الحضاري والفكري للغرب مع الحالة التاريخية و الحضارية الإسلامية من خلال " التوحيد بين بعض المفاهيم التقليدية للفكر الإسلامي و بين الأفكار السائدة في أوروبا الحديثة. و على هذا النهج انقلبت "المصلحة" تدريجياً إلى المنفعة، و "الشورى" إلى الديمقراطية البرلمانية، و "الإجماع" إلى الرأي العام وأصبح الإسلام نفسه مرادفاً للتمدن و النشاط اللذين كانا قاعدتي التفكير الاجتماعي في القرن التاسع عشر"[5]. ثانياً: إن فقدان الإدراك التام لحقيقة و أهمية هذه الخصوصية في الفعل الحضاري أدى إلى التقليل من أهمية العديد من المؤسسات الاجتماعية و على رأسها مؤسسة الخلافة، ففي عام 1925، أي بعد عام واحد من الإلغاء الرسمي و النهائي للخلافة، خرج علي عبد الرزاق بكتابة الشهير " الإسلام و أصول الحكم " الذي ينسف فيه فكرة الخلافة الإسلامية، و قد خرجت مجموعة من الردود على كتابه هذا، لكن المهم في الأمر أن هذا الكتاب و الردود عليه قد ضيعت جوهر الأمر و حقيقته. ففي ثنائية الدولة و الأمة يعطي الإسلام الأولوية للأمة و الثانوية للدولة، و سواء كانت الخلافة هي نظام الحكم في الإسلام أم لم تكن، فأن و حدة الأمة هي من أولويات الشأن الديني و السياسي، وهذا هو المهم، و إن دولة الخلافة على ضعفها و علاتها هي التي كانت تنظم هذه الوحدة و ترمز لها. بعد سقوط الخلافة في بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله علي يد التتار، قام الظاهر بيبرس في مصر و بتشجيع و حضور علماء الأمة في ذلك الوقت وعلى رأسهم العز بن عبد السلام بتنصيب المستنصر بالله خليفة للمسلمين. إن هذه الحادثة التي لم ير فيها على عبد الرزاق سوى محاولة من الظاهر بيبرس، الذي يصفه بالدهاء[6]، لاستغلال الموقف لصالحة، دون أن يرى ذلك الرابط البين بين مؤسسة الخلافة ووحدة الأمة، هذه الوحدة هي التي كان ينشدها ويسعى للحفاظ عليها، على الأقل العز بن عبد السلام، إذا ما جارينا على عبد الرزاق في التشكيك بنوايا الظاهر بيبرس. ثالثاً: لقد أسس هذا الفكر لمرحلة طويلة من الفصل و الفصام بين نسقين معرفيين أحدهما يمثل ثقافة النخبة المغتربة بمفرداتها الخاصة و الغريبة و المغتربة، و ثقافة الجماهير التي تنهل من معين مغاير تماماً، و قد تعمق هذا الشرخ و ازداد إلى حد القطيعة بين ثقافة النخبة و الثقافة التقليدية التي صارت تمثل في وعي المثقف العربي نوعا من الماضي البعيد الذي غادرناه نحو الحداثة المأمولة، و هذا ما أدى إلى اضطراب الشخصية الثقافية العربية و كان سبباً من أسباب عدة أنتجت فيما بعد تيارات التطرف الإسلامي كردة فعل على محاولات المثقفين العرب تهميش الفكر التقليدي و إخراجه من ساحة الفعل السياسي و الثقافي. هذا بعض من النتائج التي ترتبت على مقدمات و ملابسات فكر النهضة، و إذا ما كانت مراجعة واستعادة فكر النهضة تمتلك المشروعية، فإنه يجب على هذه المراجعة أن تخرج من أسر الأفكار الناظمة والموجهة لرؤى النهضة التي حكمت وتحكمت في مسارات الفكر العربي نحو أفق جديد ليقول ما لم تقله النهضة و كان يجب عليها أن تقوله. --------------------------- [1] من الأمثلة على ذلك انظر مثلاً: محمد عابد الجابري، المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1966م. و كذلك : أبو يعرب المرزوقي، "عوائق النهضة العربية وملهياتها النظرية" مجلة دراسات عربية، العدد 7-8 أيار 1998 ص 2-30. و أيضاً محمد وقيدي و احميدة النيفر، لماذا أخفقت النهضة العربية؟، دمشق، دار الفكر، 2002م. [2] ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، بيروت، دار النهار، ط4، 1986م، ص 202. [3] محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، تحقيق طاهر الطناجي، ( القاهرة، كتاب الهلال، 1960، ص 103. [4] رفاعة الطهطاوي، تخليص الأبريز في تلخيص باريز، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993م، ص 380-381. [5] ألبرت حوراني، الفكر العربي، مصدر سابق، ص 179. [6] انظر في كتاب: وجيه كوثراني، الدولة و الخلافة في الخطاب العربي، دراسة و نصوص، بيروت، دار الطليعة، 1996م، ص 172. |
07-10-2005 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=334
|