/
الإسلام المعاصر: تياراته الفكرية والسياسية والتحولات الثقافية في العالم
رضوان السيد
هل هناك تغيير في رؤية العالم لدى الاسلاميين؟ وأين هو اسلام «التيار الرئيسي» أو التيار المعتدل اليوم؟ وما هي امكانات «الاسلام الليبرالي» للظهور والتقدم؟ وما هي حظوظ تشكل رؤية أخرى للعالم لدى الاسلاميين تعتبر التعددية الديموقراطية مبدأ في الداخل والخارج؟ أذكر انني قرأت في النيويورك تايمز مقالة لكارين أرمسترونغ في العشرين أو الحادي والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2001 دعتنا فيها نحن المسلمين الى ان نستعيد السلام ممن خطفوه. وكرر هذا المطلب الرئيس بوش وآخرون من بينهم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، الذي اقترح علينا إضافة الى ذلك العودة للاسلام المعتدل، اسلام الـMain Stream. وفكرة الـMain Stream أو «السواد الأعظم» فكرة سنية قديمة عزيزة على قلوب رجالات التقليد الاسلامي، لأنها تعني اسلام الأكثرية. فالاسلام السني أو الأرثوذكسي هو الطريق الوسط، والآخرون فرق وانقسامات، يقاس صدق اسلامها بمدى قربها أو بعدها عن الاسلام الأكثري في الاعتقادات والممارسات. والواقع ان هذه هي المشكلة اليوم. فالاسلام السني لا يملك هرمية محددة، ولا قانون ايمان، ولا مرجعية مقدسة. وقد مكنته هذه اللامركزية الواسعة من قبل من البقاء موجداً على رغم تنوعه واتساع بيئاته. لكنها تصبح مشكلة في الأزمات، مثل الأزمة التي نعاني منها منذ عقود عدة. فقد قام الاصلاحيون بهجمات شرسة على التقليد الاسلامي، شاركهم في ذلك السلفيون والاحيائيون. وحجة الطرفين أن التقليد الاسلامي جامد، وأنه مطيع للسلطات وتابع لها. وعندما حدث الاشتباك بين الاحيائيين والاصلاحيين واستطاع الأصوليون هؤلاء تنحية الاصلاحيين عن الساحة، أقبلوا على مصارعة التقليديين المسلمين على المرجعية، وكسبوا عليهم جولات بسبب نزوعهم الاحتجاجي الذي يجلب الشباب، وقدرتهم على الاستجابة للتحديات باجابات جاهزة تعتمد التغيير الجذري استناداً الى القرآن بطرائق رمزية، كما هو معروف عن الاحيائيين في الديانات الابراهيمية. فالتقليديون القدامى والجدد (المتأثرون بالاصلاحيين) ما عادوا منفردين بالمرجعية، أي الفتوى والاجتهاد والتعليم، ثم انهم يزايدون على الاحيائيين أحياناً بدواعي المنافسة أو الاقتناع أو الاستضعاف ولهذا فهناك اليوم: بل ومنذ عقدين من الزمان، صراع على روح الاسلام السني، ليس بين الأصوليين المتشددين والتقليديين، بل بين الاحيائيين المعتدلين، والتقليديين الجدد. ويحاول الاحيائيون الاستيلاء على المرجعية من طريق العودة لآليات الاجتهاد التقليدية شكلاً وظاهراً في عمليات انتاج «تقاليد جديدة» Invented traditions على طريقة Hopsbawm، بينما يحاول التقليديون الجدد العودة لأطروحات الاصلاحيين مطلع القرن العشرين وما بعد. وما ذكرت في الاستعراض السابق للمسائل غير الاحيائيين لأن فتاواهم واجتهاداتهم هي المؤثرة في الجمهور اليوم، على رغم ان التقليديين الجدد لا يزالون أكثر انفتاحاً منهم. وأرى ان هذا هو المكان الملائم لمعالجة المسألة التي تحدث عنها المؤرخ الكبير أريك هوبسباوم، وأعني بها: انتاج «التقاليد الجديدة» مع ما في هذه التسمية من مفارقة، أي تقاليد وجديدة. التقليد الجديد الذي نجح الاسلاميون في انتاجه في وعي سائر المسلمين وغير المسلمين، في العصر الحاضر، هذا التلازم بل الاندماج بين الدين والدولة في الاسلام. والواقع ان كل الديانات ذات الانتشار الجماهيري تؤثر وان بطرق مختلفة في الشأن العام وصولاً لقيام الدول أو انهيارها. لكن السؤال أو الإشكال ليس في هذا التأثير، بل في كيفية هذه العلاقة بين الدين والدولة، وهل هي في مؤسسة واحدة أو مؤسستين؟ وفي المسيحية والاسلام القديمين، وبخلاف اليهودية الأولى، كانت هناك مؤسستان، واحدة دينية، والأخرى سياسية. وقد حدث النزاع التاريخي داخل المسيحية نتيجة محاولة المؤسسة الدينية الاستيلاء على النظام السياسي. وما حدث نزاع بين المؤسستين في الاسلام القديم الا مرة واحدة عندما قال المأمون بخلق القرآن، أي انه تدخل في المسائل اللاهوتية، وأراد ارغام الفقهاء والمحدثين وعلماء القرآن على القول بذلك. وباستثناء تلك الفترة القصيرة بين 218هـ و235هـ كان هناك اتفاق على فصل السلطتين وتعاونهما اذا صح التعبير، أي الفصل بين الشريعة والسياسة، وليس بين الدين والدولة. فالدولة ما كانت لديها صلاحيات لاهوتية أو تشريعية، والعلماء ما كانت لهم صلاحيات أو سلطات سياسية وان ظل كل من الطرفين مؤثراً بقوة في المجال الآخر أو على أطراف المجالين. والماوردي صاحب «الأحكام السلطانية» وهو كتاب في الفقه الدستوري يحدد صلاحيات السلطة السياسية بأنها حراسة الدين وسياسة الدنيا – حراسة الدين، وليس المشاركة في تحديده أو الاجتهاد فيه فهي أمور من صلاحيات الفقهاء. بيد أن شيئاً من ذلك لا يمكن الحديث فيه الآن، بل ومنذ ستين عاماً. أنهى مصطفى كمال ذاك التحالف أو الاحتضان بين الاسلام والدولة. وقامت دولة محايدة أو معادية أو مستتبعة للمؤسسة الدينية. ورد الاحيائيون الاسلاميون على لسان حسن البنا ان الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف، وصولاً لرؤية الحاكمية التي تدغم الدولة في الدين، بل تعتبر ان الاستيلاء على السلطة السياسية شرط وجودي لاستمرار الدين الاسلامي. وفكرة النظام الكامل والشامل في الإسلام، والتي اكتملت في الحرب الباردة برنامج صراعي مع الدولة القائمة طبعاً، ولا يمكن فهمها من خلال الأفكار الجديدة للاسلاميين فقط، بل هناك الهجمة السياسية والثقافية قبل الحرب الباردة وبعدها، وهناك التجربة السياسية العربية والاسلامية ومصائرها، والتي سنعود اليها في الخاتمة. وما يهمنا هنا أن الدمج بين الدين والدولة من خلال رؤية الحاكمية، في تقليد غير واع لأنظمة الحكم العربية ذات الطابع الكوربوراتي، زاد الاسلاميين بعداً عن فكرة الديموقراطية وممارساتها في الستينات والسبعينات، مع ان الاسلاميين باعتبارهم حركات جماهيرية كانوا الأقرب لاستخدام الديموقراطية في صراعهم مع الأنظمة الاستبدادية القائمة، كما سبق القول. ولا شك أن المراجعين من الاصلاحيين الجدد خرجوا من هذه الثنائية الصراعية. لكن أحداً منهم لا يجرؤ على مناقشة موضوعة: الاسلام دين ودولة. بيد ان الموضوع يظل حيوياً في بحوث ودراسات الاصلاح الاسلامي الحاضر والمستقبلي، استناداً الى ضرورات الاصلاح والمصالحة بين الدين والدولة في الوطن العربي، بعد هذا الصراع المهلك الذي استمر لخمسة عقود. لقد قطع الاصلاحيون الاسلاميون الجدد من جماعات التيار الرئيسي شوطاً فعلاً في الخروج من الأصولية والدخول في العالم. وأكثر هؤلاء اليوم من غير الحزبيين، ثم انهم في الغالب ذوو علاقات مقبولة بالسلطات. ويضاف الى ذلك انهم في الأكثر أقاموا تواصلاً في العقدين الأخيرين مع مجلس الكنائس العالمي، والكنيسة الكاثوليكية تحت عنوان: الحوار الاسلامي – المسيحي. ومع ان رجالات الكنائس ما كانوا هم الوحيدين الذين تواصل معهم هؤلاء عن الجانب الغربي، فإنهم كانوا الأكثر تأثيراً ايجابياً فيهم لجهة تغيير نظرتهم السابقة للغرب كأنه جبهة موحدة في مواجهتهم. وفي الوقت نفسه كانت هناك بعض التجارب الايجابية في بلدانهم. فهم يعلمون اليوم انهم يستطيعون التأثير والمشاركة في الحياة السياسية اذا انفتحت الأنظمة. فالقدر المحدود من الانفتاح جلب لهم نحو ثلث الأصوات في بلدان عدة. وعلى رغم أن الأميركيين يقفون من وراء كل الأنظمة العربية تقريباً، فإن الاسلاميين الجدد يعرفون أن الغرب وحده يمكنه الضغط باتجاه التغيير والانفتاح، وكل تغير باتجاه الديموقراطية سيكون لمصلحتهم. وهم يلاحظون تراجعاً عن الانفتاح الديموقراطي منذ أواسط التسعينات، سببه توقــف الغـــرب عن الضـغــط من أجل ذلك، بسبب سوء علاقـاته بالاسلاميين. لكن اذا كان التغيير الفكري والسياسي الذي أجري ويجرى في صفوف هؤلاء الاسلاميين ليس كافيــاً (فما تزال أطروحة الدولة الاسلامية، وتطبــيــق الشريـعـة قائمة)، فـإن ذلك يـعود بالدرجة الأولـى الى عدم قـدرتهم على المشاركة في الحيــاة السياسيــة بالقــوة والعلانية المطلوبتين والمرغوبتين. فقد تغير الاسلاميون الأردنيون واليمنيون بالتدريج بسبب القدرة على الفاعلية والحراك في البيئات السياسية، وحرية التنظيم، والتمكن من الوصول لمجلس النواب والوزراء، ومناصب الدولة الأخرى. ومع ان الجماعات العنفية ما عادت صادرة عن انقسامات في حركات التيار الرئيسي (بل صارت لها تنظيماتها المستقلة تماماً منذ مطلع الثمانينات)، فلا شك في ان الانفتاح السياسي، ومراعاة الحقوق السياسية، وحقوق الانسان، في التعامل معها، أي مع جماعات التيار الرئيسي، يمكنها أكثر من ضبط اعضائها، وتجنيبهم الانزلاق نحو العنف تحت الضغوط الأمنية والاقتصادية والدواعي الرمزية. يحتاج الاسلام المعتدل اذاً لكي يمارس مسؤولياته في التصدي لنزعات التشدد والعنف الى رؤية أخرى للعالم، ولامكانات وفرص المشاركة فيه. وعلى رغم الكثير الذي قيل بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 عن حاجتنا للعالم أكثر من حاجته الينا، فإن كتابات التظلم والتشاؤم ما تزال هي السائدة لأسباب أهمها القضية الفلسطينية، ووضع الأنظمة العربية بين المطرقة والسندان. ولست ممن يقيمون علاقة ميكانيكية بين الواقع والوعي. لكن لا شك في أن حل المسألة الفلسطينية حلاً مقبولاً، سيرفع من أسهم المراهنين على علاقة طيبة وصحية بالعالم، من قوميين واسلاميين. وبعد هذا كله، نسأل سؤال هاملتون غب قبل نحو الخمسين عاماً: الى أين يتجه الاسلام؟ يومها رأى غب الأمل في اسلام شبه القارة الهندية. بيد ان المشهد الذي عرضته طالبان، وقدرة الأصوليين المتشددين على الاستيلاء على قرارها، واحساس الأقلية الذي يعاني منه المسلمون هناك تجاه الهند، يجعل الأفق أغبر بعض الشيء. ويبدي دارسون آخرون خيبتهم تجاه الاسلام العربي لبروز الأصوليين فيه، ويوجهون النظر الى اعتدال الاسلام الشرق آسيوي. بينما يرى باحثون عرب ان المسلمين في أميركا وأوروبا هم مستقبل الاسلام. لكن لا مستند لهذه الرؤى غير الانطباعات الشخصية، التي يزيحها Clifford Geertz عن الطاولة بالقول ان ليس في ما بين المغرب واندونيسيا اسلام واحد، بل عشرات الاسلامات. بيد ان طلال اسد يجيبه بالحديث عن وحدة الوعي أو الـPerceptions أو رؤية العالم على مديات واسعـة في العالم الإسلامي. وهكذا، فما هو المقياس فعلاً للقول إن هذا الاسلام حسن والآخر سيئ أو أن هذا الاسلام ليبرالي وديموقراطي، وذاك متشدد ومنغلق؟ فمن جوانب الصحوة الاسلامية التي لم تدرس بعد جيداً نهوض الحركات الصوفية بما يفوق الأصولية بعشرات المرات من حيث الحجم لا من حيث التأثير: فهل يشكل الاسلام الصوفي البديل للاسلام التأصيلي الاحيائي؟ والواقع انني لا أرى المشكلة في اسلام اليوم في هذه الأطروحة أو تلك، أو في هذه الممارسة أو تلك، فالأديان الأخرى تشهد حركات احيائية عنيفة أيضاً. المشكلة في شعور كثير من المسلمين بعدم الراحة أو عدم القدرة على التلاؤم مع العالم المعاصر. انه نوع من التشاؤمية الثقافية Cultural Pessimism التي تبعث على الجمود والكآبة أكثر مما تبعث على العنف. وفي النهاية ربما لم يكن كثير من هذه الاسئلة وارداً أو مهماً لولا أحداث الحادي عشر من أيلول، والتطورات في فلسطين والعراق. لذلك فالذي ينبغي أن نعمل له نحن العرب على الخصوص: تصحيح العلاقة مع العالم، أو المضي في تغيير رؤية العالم في مجالنا الثقافي والسياسي. فلست أعتقد بأن مشكلات اليابان أو الصين في الثقافة كما في الاقتصاد والسياسة مع الولايات المتحدة ومع الغرب بشكل عام كانت أقل أو هي أقل اليوم من مشكلاتنا. وهم عملوا ويعملون على معالجتها دونما حاجة لاعلان الحرب، ودونما حاجة لضرب مركز التجارة العالمي. الاسلام المنفتح ذو الاطار الواسع، هو اسلام العلاقة الطبيعية مع العالم، اسلام المسؤولية والمشاركة والتأثر والتأثير والعيش الواحد، وبناء المستقبل المشترك. لقد كانت تلك فلسفة التجربة التاريخية في حضارتنا، اذا لم يكن تكرارها ممكناً، فلتكن لدينا الشجاعة والارادة لمواجهة هذه التشاؤمية والكآبة التي تطبع رؤيتنا للعالم وعلاقتنا به. فهذه الكآبة، وهذا الاحساس باللاجدوى، واللذان ما عاد يمكن ارجاعهما لسبب محدد، اصلهما الفشل المريع للتجربة السياسية العربية. اذ لماذا ينشئ الناس دولاً؟ ولماذا تنشئ الشعوب أو نخبها كيانات سياسية؟ تفعل ذلك لهدفين اثنين: صون الوجود الوطني والقومي، وتحسين حياة الناس وجعلها ذات معنى، بمشاركتهم جميعاً في ادارة شأنهم العام. وقد فشلت التجربة السياسية العربية في تحقيق أي من هذين الهدفين. فالسيادة منتهكة في كل مكان، والوجود العسكري والسياسي الأجنبي يتزايد كل يوم، وقد خربت دول عدة عربية، وهناك من يسير في طريق الخراب. وتتحدث الجماعات النسوية العربية عن تمكين المرأة، والواقع ان ما نحتاج اليه تمكين سائر الناس من المشاركة في ادارة الشأن العام. وكما كانت الاستبدادية العربية بين أهم أسباب استشراء الظاهرة الأصولية، فإن الإصلاح السياسي، كفيل بإخمادها في المدى المتوسط. وعندها يصبح الاصلاح الديني أسهل، ولا تعود هناك مشكلة نظرية أو عملية بين الإسلاميين والديموقراطية. اذ الذي أراه أن المشكلات السياسية والاقتصادية أكثر أهمية وتأثيراً وبقاء في الوعي من المشكلات الثقافية، والتي تتبادل التأثير والتأثر مع العوامل السالفة الذكر. ولهذا اختتم بالقول إن بالنظر الى نقاشات وممارسات العقدين الماضيين نستنتج أن ما عادت هناك مشكلات كبرى فكرية أو عملية بين الاسلاميين ومسألة الديموقراطية في العالم العربي. ويظل الاصلاح الديني مهماً لتغيير رؤية العالم، وعلائق الدين بالمجتمع والدولة في المجالين العربي والاسلامي. أما الضرورة الوجودية فالتغيير السياسي القوي، الذي ينتج بيئات للمشاركة الشاملة، كفيلة بتبديل الأفكار والممارسات، ليس لدى الاسلاميين وحسب، بل ولدى سائر الفئات الاجتماعية.
|
21-10-2005 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=335
|