(1)
لم يكن الإسلام دينا عربيا، رغم أن القرآن نزل باللغة العربية على نبي ينتسب للعرب. وكان من الطبيعي أن تكون الأغلبية ممن آمنوا في عهد الرسول (ص) من أبناء الجزيرة العربية، لكن بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وآخرون كانوا أيضا من كوادر الجيل الأول من الصحابة، ومن بين المؤسسين لعالمية الإسلام. هذه العالمية التي سرعان ما اتخذت حجمها الحقيقي عندما تحولت شعوب وأمم بكاملها إلى الإسلام، دون أن تتخلى عن خصوصياتها القومية والثقافية. ورغم الصراع عن الحكم، واغتصاب الأمويين للخلافة التي حولوها إلى ملك عضوض، فإن المسلمين من غير الغرب لم يتخلوا عن الإسلام، ولم يتنازلوا عن حقوقهم التي وفرها لهم الإسلام . هذا الإصرار على الانتماء إلى عقيدة أعلى من القوميات والجغرافيا هو الذي مكن من انتشار " العولمة الإسلامية " وجعلها تستمر قرونا طويلة. وبفضل ذلك، حصل تمازج ثقافي خلاق، أفشل محاولات احتكار الدين والسلطة والثروة، وجعل مركز الخلافة ينتقل – بعد اللجوء إلى القوة – من المدينة إلى الشام، ثم بغداد، فالقاهرة، ليتوزع في النهاية على عدد كبير من الوحدات السياسية والحضارية الممتدة من الشرق إلى الأندلس، مرورا بالمغرب. وعندما أنهكت المنطقة العربية، تمكن العثمانيون من تأخير انهيار الحضارة الإسلامية مدة أربعة قرون على الأقل، فنقلوا مركز " الخلافة " إلى خارج المنطقة العربية، وفرضوا نوعا من الوحدة السياسية والثقافية الرمزية، وأصبح العرب طرفا من بقية أطراف عديدة يقرون بالولاء الفعلي ثم الشكلي لسلطة من خارج " حدودهم الجغرافية ".
(2)
بدا قرار إلغاء الخلافة التي استنفدت أغراضها وكأنه في وجه من وجوهه إشعارا بتوقف رمزي لعالمية الإسلام كما صاغها العثمانيون، مقابل صعود القوميات، وقيام مرحلة الدولة الأمة. هذا الحدث التاريخي جعل من الأمة الإسلامية بعد موت الرجل المريض إلى تركة يتنافس على قسمتها الأقوياء، كان من نتائجه انهيار الجسور بين الدوائر الحضارية الإسلامية، التي أصبحت كل واحدة منها مرتبطة ثنائيا بالمركزية الغربية التي فرضتها موازين القوى العسكرية الجديدة، إلى جانب الثورة العلمية والرأسمالية الصاعدة. وفي ظل هذه التحولات الدولية، والمحاولات الجزئية لمواجهة مخاطر الذوبان والانقراض، بلغت العلاقات الإسلامية الإسلامية أقصى درجات الضعف، وتراجعت المعرفة المتبادلة بالآخر، وانخفضت كثيرا درجة الشعور بالمصير المشترك. وفي تلك الأجواء عمل البعض على تعميق التناقض المفتعل بين الانتماء الإسلامي والانتماء القومي، أو بين الخصوصيات وبين عالمية الإطار المرجعي. وتحول السعي إلى حماية الوطن الصغير وإقامة الدولة القطرية " المستقلة " إلى هدف أقصى لا علاقة له بأهداف استراتيجية تتجاوز الانتماء الجغرافي واللغوي.
(3)
رغم الانقلاب التاريخي الذي تمت الإشارة إليه، ورغم صعود عديد القوى الانعزالية في كل البلاد الإسلامية، إلا أن عددا من الأصوات التي تمسكت إلى آخر لحظة بالوحدة الرمزية للأمة بقيت تدوي في أرجاء المنطقة. لقد جاهد جمال الدين الأفغاني حتى آخر لحظة في حياته من أجل إصلاح الأوضاع السياسية والدينية للعالم الإسلامي دون تمييز بين اسطنبول والقاهرة وطهران، وربط ذلك بالعمل على بناء جبهة إسلامية عريضة قادرة على منع حصول انهيار كامل يؤدي إلى تفتت الجسم الإسلامي وابتلاعه كليا من قبل الاستعمار الغربي. لقد تمسك الأفغاني إلى آخر رمق في حياته برؤية شمولية لأوضاع الأمة الإسلامية، مما جعله في تناقض مع المخططات الغربية إلى جانب تآمر حكومات المنطقة.
كما أثر عدد من المفكرين المسلمين الهنود في الساحة الفكرية والأيديولوجية العربية وغير العربية، خاصة بعد بداية صعود الإسلاميين على الركح السياسي. في مقدمة هؤلاء محمد إقبال الذي كان يقول " إن جوهر الإسلام ولبه قد حجب حتى الآن، أو بالأحرى حل محله الفتح العربي في القرون الأولى لظهور الإسلام ". وبالرغم من دفاع إقبال القوي عن مشروع إنشاء دولة باكستان لتكون وطنا لمسلمي الهند، إلا أنه كان شديد الإيمان بالوحدة الرمزية للمسلمين، وهو ما جعله محل تقدير واسع لدى قطاعات عريضة من النخب الإسلامية. لم يكن إقبال شاعرا روحانيا فقط، وإنما كان أيضا فيلسوفا وأحد الداعين الأقوياء إلى الإصلاح الديني، إضافة إلى كونه محاور كفئ لرواد الثقافة الغربية. لكن مشكلة النخب الإسلامية العربية مع إقبال، أنها بقدر تقبلها لآثاره الشعرية التي أعلت من قيمة الإيمان والتوحيد، وعمقت مبدأ الوحدة الثقافية بين المسلمين، فإنها في المقابل تجاهلت أو لم تتفاعل مع الأطروحات الفكرية التي تضمنهـا كتابــه الشهيــر "تجديد الفكر الديني". لهذا جاء نموذج الدولة الإسلامية التي تحدث عنها إقبال مختلفا كثيرا عن الدولة التي عمل من أجل إقامتها كثير من الإسلاميين العرب.
خلافا لما حدث ما محمد إقبال، تقبلت الحركات الإسلامية العربية بتفاعل كبير أدبيات كل من أبو الحسن الندوي، وبالأخص (أبو الأعلى المودودي)، الذي عاش في نفس الفترة، وواجه ذات التحديات . لقد اعتمدت بعض كتب المودودي، بعد ترجمتها إلى العربية، كمراجع أساسية في بناء أيديولوجيا الستينات والسبعينات والثمانينات لكوادر الحركات الإسلامية السنية. وقد خلقت بعض أفكار المودودي، التي تأثر بها سيد قطب وأدرجها ضمن رؤية عقائدية وحركية، متاعب كثيرة لهذه الحركات، وجعلتها في صدام متواصل مع الأنظمة والنخب.
هذه ليست سوى عينات، تدل على استمرار التفاعل بين النخب العربية والإسلامية، بعد انهيار الخلافة العثمانية، وانغماس الجميع في الهموم المحلية والقطرية.
(4)
عندما حصلت الدول العربية والإسلامية على استقلالها، لم يشكل ذلك حافزا على إعادة نسج العلاقات التاريخية بينها على أسس جديدة. وانما انشغلت بقضايا التنمية وإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية. كما استمرت في التعامل مع مختلف القضايا والملفات من منظرو جزئي، وبقلية وصفها مالك بن نبي بالعقلية الذرية. وبالرغم من أن الرئيس جمال عبد الناصر أقام سياسته الخارجية على نظرية الدوائر الثلاث، وجعل إحداها الدائرة الإسلامية، غير أن العمق الإسلامي لم يتحول إلى خيار استرتيجي لدة أنظمة الحكم والنخب المهيمنة. ولولا حجم القضية الفلسطينية وتعدد أبعادها، لتوارى ذلك الخيار نهائيا. حتى القوى المعارضة التي صعدت في فترات الستينات والسبعينات، لم يكن أغلبها معنيا بالدفاع عن هذا العمق الاتراتيجي. فالشيوعيون العرب كانوا يرفعون شعار الأممية، بهدف بناء تحالفات عالمية ترتكز على البعدين الاقتصادي والاجتماعي، تمهيدا لتحقيق انتصار تاريخي للنظرية الاشتراكية العلمية، التي لم تكن تضع المسألة الدينية ضمن أولوياتها. أما القوميون، فكان حلمهم المركزي يتمحور حول توحيد العرب، وبناء دولة قومية مركزية، تباينت الآراء حول طبيعتها وكيفية الوصول إليها. وتوجه "الليبراليون" العرب نحو ترسيخ أسس الدولة الوطنية بمفهومها الضيق، واعتبروها الوسيلة الوحيدة للخروج من "الخلف الاقتصادي والاجتماعي". ولأن هؤلاء الليبراليين المتأثرين بالنموذج التاريخي للدولة كما تشكلت في أوروبا، لم تكن لديم ثقافة ليبرالية عميقة، ولم يكن جهدهم السياسي مرتكزا على طبقة رأسمالية قوية وفاعلة، أصبحت سياساتهم محكومة بسقف منخفض جدا. فهم لا يثقون في جدية الطرح القومي، ولا يمكنهم أن يحالفوا مع المنظومة الاشتراكية التي تلغي وجودهم. ولم يبق سوى الإسلاميون الذين استمروا في دفاعهم عن العمق الإسلامي ووحدة العقيدة للتراث، لكن دون أن تكون لديهم القدرة السياسية والفكرية على تحويل دعوتهم إلى رؤية استراتيجية قابلة للتحقيق. وقد دار جدل عقيم بين كل هذه التيارات والاتجاهات الأيديولوجية والسياسية، حول مسألة العلاقة مع المسلمين من غير العرب.
(5)
جاءت المفاجأة من جهة لم يكن يتوقعها الجميع. فبد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أعاد الاستراتيجيون الأمريكان والأوروبيون النظر في تقسيماهم الجيو/ سياسية للعالم، وبالأخص للمنطقة العربية وما حولها. وقادتهم تلك المراجعة إلى صك مصطلح " الشرق الأوسط الكبير أو الموسع". هذا المفهوم ليس فقط مفهوما جغرافيا، وإلا لما أدرجت ضمنه دول المغرب العربي ودول شرق آسيا. لقد أدرك الغربيون عموما بأن، باستثناء إسرائيل، فإن بقية الدول الإسلامية لا يزال يحكمها موروث ثقافي مشترك، ولا تزال تشقها تقاطعات استراتيجية هامة، حتى لو لم تقم الأنظمة والنخب الإسلامية باكتشاف ذلك من جديد. وبالرغم من الجدل الذي أثاره المصطلح، والتقسيم الذي من بين أغراضه إدماج إسرائيل في في المنطقة، غير أن منظمة العالم الإسلامي قد استعادت بسبب ذلك شيئا من شرعيتها التاريخية والاستراتيجية التي تعرضت للتشكيك والتهميش طيلة القرن الماضي. فاليوم بدا يدرك الكثيرون بأن ما يجري في أفغانستان ليس مقطوع الصلة عن التراكمات التي حصلت في مصر أو السعودية أو لبنان. كما بدأت بوصلة التفكير الاستراتيجي الإسلامي تتحرك في اتجاه تعميق التقارب مثلا بين إيران والعرب الجمهوريات الإسلامية التي كانت جزء من الاتحاد السوفياتي سابقا. وأخذت تركيا تلتف نحو جريانها العرب وغيران، رغم استمرار رهانها على الاندماج في الإطار الأوروبي. وشرعت ماليزيا، من خلال عدد من قادتها (مهاتير محمد) في البحث عن صيغ توثق صلتها بالدول الإسلامية باعتبارها، خاصة بعد تصاعد المواجهة الاقتصادية والسياسية بينها وبين الغرب. وقد كشفت حادثة الصور الكاريكاتورية المسيئة للرسول (ص) عن وجود مساحة تتداخل واسعة جدا بين عموم المسلمين، كما دلت أيضا عن تشابه في الآليات الثقافية المنتجة للمواقف والأحاسيس وردود الأفعال، مما دفع بعدد من المثقفين والسياسيين الغربيين إلى الاعتراف بضرورة أخذ العالم الإسلامي بعين الاعتبار، واحترام الإسلام الذي يملك كل هذا الزخم البشري المتنوع.
(6)
بناء على ما تقدم، يمكن القول بأن الإطلاع على ما تجارب المسلمين من غير العرب في مجال تجديد الثقافة الإسلامية والإصلاح الديني من شأنه أن يساعد على تحقيق الأغراض التالية :
أولا: الإسراع في إعادة بناء جسور التعارف والتواصل بين النخب المستنيرة في العالمين العربي والإسلامي، بعد فترة طويلة من العزلة والقطيعة التي فرضتها المراحل السابقة. وسيشكل التعارف وتبادل الخبرات والتجارب خطوة هامة نحو اكتساب رؤية أوسع للقضايا، والتحرك في اتجاه بناء تحالفات جديدة تكون قادرة على مواجهة التحالفات المضادة في المجالين الفكري والسياسي.
ثانيا: تحديد مجالات التشابه والاختلاف بالنسبة للمسائل المطروحة بحدة في مجال الثقافة الإسلامية. بمعنى آخر، هل أن أزمة الفكر الإسلامي التي يكثر الحديث عنها في العالم العربي شبيهة في مسائلها وتفاصيلها في ما يجري في بقية البلاد الإسلامية، أم هناك تفاوت واختلاف؟. ثم كيف يواجه الآخرون هذه المسألة والإشكاليات المترتبة عنها ؟. هل صحيح أن المنطقة العربية هي المسؤولة عن تصدير الفكر السلفي إلى بقية الدول الإسلامية كما يقال، أم أن الحالة تبدو أكثر تعقيدا ؟.
ثالثا: يبدو العالم العربي وكأنه قد استنفد محاولات الخروج من مأزقه الثقافي والسياسي، حيث لا يزال يعتبر المنطقة الأخيرة في العالم التي لم تنجز مرحلة التحول الديمقراطي، ولم تتجاوز حالة التمزق والتذبذب بين عدد من الثنائيات التي صاحبت الفكر العربي منذ القرن الثامن عشر إلى اليوم. في مقابل ذلك، يلاحظ أن بلادا إسلامية كثيرة نجحت في الانتقال إلى العصر الديمقراطية رغم الصعوبات والتعثرات والعراقيل المتنوعة. فهل كان للثقافة الإسلامية دور في تحقيق ذلك الانتقال وتوفير أرضية صالحة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ؟. وبالتالي هل يمكن أن تساعد تجارب المجتمعات الإسلامية الأخرى، أو إبداعات أبناء الجاليات الإسلامية في البلاد الغربية الفكر العربي في نقد بنيته، وتجاوز عوائقه الذاتية ؟. يجب أن يعترف العرب بأنهم فقدوا مركزيتهم القديمة، وأنهم لم يعودوا مصدرا لتوجيه الآخرين بحجة أن بلادهم كانت نهبط الوحي، وأن لغة القرآن هي العربية. لقد حصل التداول منذ قرون خلت، ولم ينجح العرب طيلة هذه الفترة في استرداد المبادرة السياسية والثقافية. لهذا عليهم أن يبحثوا عن الحكمة في بقية البلاد الإسلامية وفي غيرها من البلدان. إنها فرصة ليطلعوا على قراءات للإسلام بلغات غير عربية، ومن منطلقات ومجتمعات تختلف في تجاربها وأولوياتها ورموزها التراثية.
رابعا: بعد أن تحولت السلفية - كطريقة صارمة في فهم القرآن والتجربة الإسلامية التأسيسية – إلى رؤية مخترقة للمجتمعات والنخب في كل مكان، وبعد أن اتخذ الجهاد معاني وأشكالا لا علاقة لها بالدفاع المشروع عن الأوطان والقيم، أصبح التجديد فريضة عامة لتحرير الإسلام ممن قاموا بمصادرته. وبما أن التيار السلفي أصبح متجاوزا لحدود الجغرافيا، فإن التجديد الإسلامي مدعو بدوره إلى أن يشكل جبهات عالمية، ويبني تحالفات فكرية قوية تمكنه من تحقيق التراكم المعرفي، وتعطيه القدرة على التواصل مع أوسع الفئات من المسلمين وغيرهم.
--------------------
(*) من أوراق مؤتمر: "حقوق الإنسان وتجديد الخطاب الديني:كيف يستفيد العالم العربي من تجارب العالم الإسلامي غير العربي؟" الإسكندرية في 18-20 أبريل 2006