/

 

 

كيف يستفيد العالم العربي من تجديد الخطاب الديني في العالم الإسلامي غير العربي؟

رفيق عبد السلام

ثمة قراءة رائجة بين قطاع واسع من الدوائر البحثية والسياسية الغربية، وحتى العربية، مفادها أن مجمل الأزمات السياسية والاجتماعية التي تعانيها المنطقة، بما في ذلك العطالة الديمقراطية، أو ما يعبر عنه عادة بالفشل الديمقراطي وصعود تيارات العنف السياسي مردها أسباب ثقافية ودينية ولا شيء غيرها، وهذا ما يفسر المطالبات المتكررة بالإصلاح الثقافي والديني، وما يرتبط بها من عناوين مشابهة من قبيل الإصلاح التربوي والتعليمي، والتحديث والعلمنة وما شابه ذلك.
فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر طفت على سطح الخطاب الفكري والسياسي الأمريكي والأوروبي مسألة إصلاح الإسلام بناء على قراءة تتلخص في كون مجتمعاتنا مجتمعات فاشلة، وثقافتهم مريضة ومأزومة بسبب ثقل الوطأة الدينية فيها، مع ما يستتبع ذلك من ممانعة المجتمعات الإسلامية في قبول قيم العلمنة وولوج بوابة الحداثة السياسية والاقتصادية، أو التعايش مع "الثقافة" الديمقراطية. فقد وفرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر فرصة ذهبية لقوى غربية كثيرة لإحياء نزوعات ماهوية ثقافية تصل حد العنصرية البغيضة في الكثير من الأحيان، من ذلك مهاجمة ثقافة المسلمين وأنماط حياتهم ومعاشهم، ودمغهم بكل الشناعات، ولا يقف الأمر عند القول بأن ثقافة المسلمين وعقائدهم مصادمة في الصميم لقيم الحداثة الفكرية والسياسية فحسب بل أكثر من ذلك اعتبارها مغذية بطبعها لنزوعات الإرهاب والعنف الأهوج التي تهز عوامل الاستقرار في العالم، كما أنه غدا أمرا شائعا تفسير كل الأزمات والعاهات التي تعاني منها المنطقة العربية والإسلامية بعوامل الثقافة والدين بصورة معزولة عن لعبة السياسة والاستراتيجيات الدولية الكبرى التي كانت ومازالت تتحكم في مسارات المنطقة ومصائر شعوبها، سواء أكان ذلك بقوة الأساطيل والاحتلال العسكري الفج أم كان ذلك بقوة التدخلات السياسية والديبلوماسية والضغوط الاقتصادية. ومن المعلوم هنا أن هذه التفسيرات الثقافوية توفر ملاذا آمنا للقوى الغربية لغسل أيديها جملة من تحمل تبعات الأزمات والمشكلات التي تتخبط فيها المنطقة، من ذلك أن ما يشهده عراق اليوم مثلا من دمار وفوضى واحتراب طائفي لا يتم إرجاعه إطلاقا إلى الاحتلال العسكري الأمريكي الأنجلوسكسوني غير المشروع لهذا البلد بقدر ما يتم إرجاعه إلى أسباب دينية ونفسية، من مثل وجود حالة عدوانية دينية كارهة للديمقراطية والاصلاح السياسي. أما ما يعانيه العرب عامة من مشكلات سساسية واقتصادية فهي ليست سوى نتيجة طبيعية للإخفاق الثقافي والديني وليس أكثر من ذلك. هكذا يتم تغييب العوامل الأكثر قوة وحضورا، وخاصة عامل السياسة وتعقيداتها، وألاعيب الاستراتيجيات الدولية ودورها في إثارة الأزمات لصالح مقولات عائمة حول الثقافة والدين، أو التكوين النفسي وما شابه ذلك.
كان الاتجاه الطاغي على دوائر الفكر والأكاديميا وأوساط الساسة والاعلام في الغرب ومنذ أواسط القرن التاسع عشر، وبداية القرن المنصرم خصوصا، يعلق آمالا واسعة على حركة التحديث و"العلمنة" التي شهدتها المنطقة منذ بدايات الاجتياح الاستعماري الغربي والتي تقوى نفوذها، واتسع مداها أكثر مع نشأة "دولة الاستقلال"، ومما عزز الشعور بنجاح هذه الحركة في المنطقة الإسلامية ظهور الدولة الكمالية في تركيا التي وضعت حدا لنظام الخلافة العثمانية سنة1925، وأقامت محله نظاما علمانيا جذريا على منوال يعاقبة الثورة الفرنسية، إلى جانب التوجهات التحديثية للنظام البهلوي في ايران، ثم ظهور التيار العروبي بشقه الناصري والبعثي بطموحاتهما التحديثية، ولكن الانتصار الفجائي والمدوي للثورة الاسلامية في ايران سنة 1979، ثم تزايد نفوذ الحركات الإسلامية خلال العقدين الأخيرين قد وضع حدا لهذه الآمال العراض، لتحل محلها مقولات التراجع العلماني، والإخفاق الحداثي، الصعود الإسلامي، والاحيائية الإسلامية، والأصولية الإسلامية وما شابه ذلك.
كان المستشرق البريطاني هاملتون جيب، والمعروف باطلاعه العميق على أوضاع المنطقة وأحوال شعوبها، فضلا عن اتقانه للغة العربية ومعرفته الثاقبة بالثقافة الإسلامية قد عبر عن مخاوفه الشديدة منذ ثلاثينات القرن الماضي من كون موجة التغريب الكاسحة التي تجتاح مصر وبقية البلاد الإسلامية ، ربما أتت على ما تبقى من مؤسسات الإسلام العريقة ومواريثه المديدة، ومن ثم تخلف وراءها فراغا مريعا في الضمير والاجتماع الإسلاميين لا يقوى التحديث على ملئه أوتعويضه(1) .أما زملاؤه وخلفاؤه اليوم من أرباب الاكاديميا وما يسمى بخبراء الإسلاميات والشرق الأوسط فهم خلافا لكل ذلك يرون في المنطقة الإسلامية الواسعة قلعة دينية وثقافية حصينة في الممانعة ورفض قيم الحداثة "الكونية.

بيد أن هذه الصورة الدرامية القاتمة للعالم الإسلامي، والشائعة بين القطاع الأوسع من أرباب الأكاديميا وصانعي السياسات الغربية بدأت تصاحبها خلال السنوات الاخيرة قراءة متفائلة بعض الشيء تعلق قدرا من الآمال على "الأطراف" الإسلامية غير العربية، وقد مثلت التجربة التركية وصعود حزب العدالة والتنمية، ثم ظهور التجربة الخاتمية قبل ذلك في إيران نوعا من الجاذبية بالنسبة للكثير من الباحثين والمراقبين الغربيين، وكأن لسان حال هؤلاء يقول إذا كانت الحالة الإسلامية ميؤوس منها بحكم ما يطبعها من تخلف ثقافي واجتماعي، إلا أن ثمة بعض البؤر الإسلامية غير العربية "المنيرة" التي تبعث بعضا من الأمل في تشكل ما أسماه الباحث الأمريكي كروزمان بالإسلام الليبرالي.
على أن بسط هذه المقدمة لا يعني بأية حال من الأحوال القول بأن التجارب الإسلامية غير العربية لا تستحق المتابعة والرصد، أو ليس فيها ما هو جدير بالتعلم والاعتبار سواء بالنسبة للمنطقة العربية أو لغيرها، ولكنننا أردنا التنبيه بداية إلى فداحة بناء تحليلات على مقدمات خاطئة أو في الحد الأدنى مشوهة، بما يؤدي بالضرورة إلى نتائج خاطئة ومشوهة.
سنتناول في هذه الورقة ثلاث مسائل أساسية: أولا موضوع التصنيف بين إسلام عربي وآخر غير عربي، ثانيا موضوع الإصلاح الديني وكيف يمن النظر إليه، وثالثا نتناول بعضا من ملامح التجارب الإصلاحية في المنطقة الإسلامية غير العربية ثم الدوس التي يمكن استيفاؤها منها.

في مسألة التصنيف
يبدو لي أنه من الصعب إقامة خطوط فاصلة وقاطعة في مجال الخطاب الديني بين الرقعة العربية والرقعة الإسلامية غير العربية، وذلك بالنظر إلى ما يطبع الثقافة الإسلامية العامة بشقيها العربي وغير العربي من تمازج وتداخل بين مختلف الحلقات المكونة للفضاء الحضاري العربي الإسلامي. صحيح أن الثقافة الإسلامية لا تخلو من تعدد وتنوع بحسب تنوع الفضاءات الجغرافية والموراريث التاريخية وأنماط حياة الشعوب التي انصهرت ضمنها، إلا أنه من الصعب إقامة خطوط فاصلة على أساس ثنائية مسلم عربي، ومسلم غير عربي . أما إذا تناولنا المسألة من زاوية الخطاب الإصلاحي على نحو ما تطرحه أوراق هذه الندوة، فليس ثمة فعلا ما يستحق أن يوصف بأنه خطاب إصلاحي مختلف أو متميز عن الخطاب السائد في الرقعة العربية اللهم من جهة لغة التعبير وليس أكثر من ذلك. بل إنه إذا تناولنا المسألة من زاوية الخطاب المدون يتبين أن الرقعة غير العربية مازالت تتغذى بشكل أو بآخر مما يكتب وينشر في العالم العربي.
وعلى هذا الاساس يمكن القول أن التقسيم الأقرب إلى الواقع يرتبط بالتيارات والمدارس الفكرية التي تبدو متشابهة بين الرقعة العربية و الرقعة الإسلامية غير العربية أكثر مما يرتبط بثنائية عربي، غير عربي.
فقد ولدت صدمة الحداثة التي اجتاحت عالم الإسلام على حين غرة هزات عميقة في البنى الاجتماعية والسياسية ونمط الحياة العامة للمسلمين، كما أصابت بنى الوعي الإسلامي بارتجاجات هائلة كان من نتائجها المباشرة انقسام النخبة الإسلامية إلى ثلاثة تيارات كبرى مازالت ارتساماتها قائمة إلى يومنا هذا في مختلف مواطن الفضاء الإسلامي الواسع بشقيه العربي وغير العربي . تيار أول عمل على مواجهة هذه الصدمة العنيفة عبر الاحتماء الدفاعي والتلقائي بمواقع الموروث، ودفء المؤسسات التقليدية، محاولا إغلاق المنافذ التي من شأنها أن تتسرب منها هذه "الحداثة" العدوانية والمتجاسرة على كل شيء، وهذا التيار شمل القطاع الأوسع من العلماء والجماعات الصوفية، والقوى الأهلية التي ألفت وتيرة الاستقرار ودفء العلاقات الحميمية من العائلة الممتدة والعشيرة والحارة والسوق وما شابه ذلك، فلم يكن يسيرا على هذه الجماعات الخروج من سلطة الموروث وحماية الجماعة العامة إلى عالم الاضطراب والفردية القلقة والمتذررة التي ينبئ بها تيار الحداثة الجارف. أما التيار الثاني فقد حاول مواجهة هذه الصدمة العنيفة بضرب من الاحيائية الإسلامية، مراهنا على العودة إلى المنابع الإسلامية ممثلة في القرآن والسنة الصحيحة ومثال النبوة والخلافة الراشدة، حاملا على ما اعتبره جمودا على الماضي وتنكبا عن الاجتهاد واستيعاب روح العصر وأدوات المدنية الحديثة، ومن المعلوم هنا أن المدنية الحديثة التي يقصدها رجال الإحيائية الإسلامية هنا ليست شيئا سوى مدنية الغرب الحديث على نحو ما تجسدت واقعا في مدن الرفاه والانضباط الإداري الناجع في باريس ولندن وروما وفيينا وغيرها التي كان لبعضهم تجربة زيارتها أو الاقامة فيها لبعض الوقت، كما هو حال الطهطاوي وخير الدين التونسي والأفغاني عبده. وقد حاول رموز الإصلاحية الإسلامية مع السيد جمال الدين الأفغاني وعبده ثم رشيد رضا وبقية تلاميذهم إيجاد معادلة توليفية بين "الحفاظ" على أسس الإسلام الكبرى، أي إسلام القرآن والسنة والجيل الأول من الصحابة، وبين الأخذ بأدوات المدنية الحديثة ممثلة في الإدارة والصناعة ومناهج التعليم الحديثة وغيرها. ورغم أن رجالات هذا التيار ينحدرون في الغالب الأعم من المؤسسات التعليمية التقليدية، وبعضهم كان له باع كبير في مجال المعارف الإسلامية التقليدية من فقه وعلم أصول ونحو وبلاغة وعلم كلام إلا أنهم حاولوا بدرجات متفاوتة تطعيم ثفافتهم التقليدية بمعارف غربية حديثة، ووسعوا أفق تساؤلاتهم وإشكالاتهم، كما أن حالة الاضطراب الكبير الذي حل بالمجتمعات الإسلامية بفعل موجة الاجتياح الاستعماري الغربي، إلى جانب شعورهم القوي بجلل المخاطر التي تتربص بكيان الجماعة، وتتهدد بيضة الإسلام في الصميم قد فرض عليهم دخول عالم السياسة بكل تعقيداتها وصراعاتها المكلفة، بما ينأى عن تقاليد الهدوء والابتعاد عن الشأن السياسي المباشر التي تعودها العلماء والمؤسسات التعليمية التقليدية عادة.
إنهم قد عاشوا بشكل أو بآخر ما يمكن تسميته قلق الوعي، هذا القلق الناتج عن التحديات الهائلة والمحزنة التي ولدتها بدايات الاجتياح الغربي لعالم الإسلام، كما عاشوا نوعا من الغربة وحتى الاستبعاد المتبادل بينهم وبين الجماعات والمؤسسات التقليدية التي رأت فيهم نوعا من الخروج عن أسس "الاجماع" واندفاعا غير مبرر نحو قبول فكر المتغلب.
أما التيار الثالث فهو الذي راهن على التكيف مع النموذج الاجتماعي والثقافي الغربي باعتباره التجسيد الأكمل والأمثل للمدنية الحديثة التي لا مفر منها، ويتفرع هذا التيار بدوره إلى رافدين رئيسيين، رافد أول يتكون من رجالات الدولة والثكنات العسكرية الذين لا يهتمون كثيرا بالأبعاد الفكرية والثقافية بقدر ما يهتمون بمبدأ النجاعة العملية التي تقتضي الأخذ بأسس النظام الحديث في مختلف مجالات الحياة ، ورافد ثان كانت تغلب عليه مسحة ليبرالية غربية واضحة لا يرى مانعا في الأخذ بأسباب "الرقي" والتمدن الغربي باعتبارها أدوات كونية وحيادية. على أنه من المهم التنبيه هنا إلى هذا التمييز لم يكن قاطع المواقع، بائن الخطوط بقدر ما كان هناك قدر من التداخل والتزاوج بين هذه التيارات الثلاثة، من ذلك مثلا أن التقليديين مثلا لم يكونوا بمنأى كامل عن ضغوطات العصر الذي اضطرهم بأشكال متفاوتة إلى الأخذ ببعض أدوات العصرنة، كما أن الإحيائيين لم يكونوا بعيدين عن أجواء الثقافة والمؤسسات التقليدية، ولا منفصلين بالكامل عن الخط الليبرالي الذي خرج بدوره من تحت عباءتهم، أما الليبراليون فلم يكونوا بدورهم منقطعين تماما عن الثقافة الإسلامية والأجواء العامة للمجتمعات الإسلامية.

الإصلاح الديني
• إن مسألة الإصلاح الديني، وما يتفرع عنها من عناوين أخرى مصاحبة، مثل الإصلاح الثقافي والتعليمي، والإصلاح الاجتماعي والسياسي وغيرها لم تكن غائبة إطلاقا عن ساحة الوعي والخطاب الإسلاميين. فمنذ أواسط القرن التاسع عشر بدأ عالم الإسلام يمور بتساؤلات كبرى ومحرقة للضمير والاحتماع الإسلاميين تتلخص على النحو التالي: كيف يمكن التغلب على الأخلال الداخلية التي أصابت العمران الإسلامي في الصميم إذا استعملنا المصطلح الخلدوني هنا؟ وكيف يمكن رد المخاطر الخارجية التي أضحت تتهدد الكيان الإسلامي في الصميم؟ وما هي مداخل العلاج والإصلاح: هل تبدأ بالإدارة والتنظيم؟ أم بالثقافة والفكر والتربية؟ أم بالسياسة والاجتماع؟
وعلى هذا الأساس يبدو لي من الاجحاف تصوير الساحة الثقافية الإسلامية وكأنها حالة جدباء يابسة لا حياة فيها سوى بعض البؤر المحدودة من الاستنارة المعزولة في بحر "من الجمود والتعصب" على نحو ما هو غالب على الأدبيات الغربية المهووسة بظواهر التطرف الديني وما تسميه بالإسلام الأصولي . لقد بدأت الحركة الإصلاحية منذ السيد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وبقية تلاميذهم منذ أوخر القرن التاسع عشر جهدا احيائيا رائدا لوصل حركة الإسلام بالمستجدات السياسية والفكرية الهائلة التي فرضها الاحتلال الغربي لديار المسلمين، وقد راهن هذا التيار على اختلاف تفريعاته والوانه على التجديد ضمن منابع الإسلام وأصوله الكلية، فقد كان هذا التيار متشبثا بالأصول بقدر ما كان نابذا للتقليد والجمود، وكان معتصما بحبل الإسلام بقدر ما كان منفتحا على مشاغل العصر، وكان فضل هذا التيار عظيما في نقل لغة الإسلام ومختزناته الرمزية من المؤسسات التعليمة التقليدية، إلى قلب المؤسسات التعليمية والاجتماعية الحديثة، ومن السجالية الكلامية الجافة إلى لغة ميسرة وحديثة، علما وأن تيار الإحيائية الإسلامية هذا مازالت تفاعلاته جارية وتأثيراته بائنة في أرض الإسلام الواسعة. لكن يبدو أن قارب"الإصلاح" الديني يراد له أن يجدف هذه المرة في وجهة مغايرة تماما، يراد له أن يكون خروجا عن هذا الجهد الاحيائي لصالح نزعة دهرية جامحة كان السيد جمال الدين الأفغاني نفسه قد انتبه إليها بحاسته الثاقبة منذ وقت مبكر فخصها برسالته الشهيرة المعنونة برسالة في الرد على الدهريين.
• من المؤكد أن هناك حاجة ماسة إلى التطوير والتجديد في العالم العربي والعالم الإسلامي الأوسع ولكن بما يفتح أفق الإسلام على راهنية الزمن وبما يمكنه من تعزيز دوره وحضوره في هذا العالم بدل محاولات الالتفاف عليه وتعويق حركته ، وهذا يحتاج إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه في اتجاهين وليس في اتجاه واحد، الاجتهاد في قضايا الإسلام، وفيما يرد علينا من "فكر الحداثة" مغلفا بادعاءات كونية لا علاقة لها بالواقع.
ثمة آفة مضاعفة ومهلكة في الساحة العربية والإسلامية، آفة الجمود على الموروث الديني بحجة الدفاع عن الهوية المهددة دونما إعمال نظر أو تفكير، وآفة التنكب عن التفكير الحي فيما يفد علينا من فكر الحداثة تحت دعاوى العقلانية والنقد والاستنارة وما شابه ذلك من العناوين المخادعة. وليس أدل على حالة الجمود الفكري التي تطبع الساحة الفكرية العربية والإسلامية من كون القطاع الأوسع من المثقفين العرب على كثرة ما يثيرونه من ضجيج وادعاءات حداثية وعقلانية لم يرتقوا بعد حتى إلى أداء وظيفة الوساطة الفكرية الأمينة والبعيدة عن التلبيس والتشويه ، أي استيعاب الأفكار الغربية ونقلها للقارئ العربي بلغة سليمة وأمينة، إذ يكتفي غالبيتهم بالتحصن خلف ادعاءات التنوير والابداع دون أن يكون لهم جهد ابداعي ولا تنويري يذكر. ولعل التشخيص الأقرب إلى الواقع هنا كون المنطقة العربية والإسلامية عامة تعاني من خلل ثقافي عميق ناتج بدوره عن وجود خلل مؤسسي علمي، أي إن المشكلة متأتية من غياب الدور الفاعل والرشيد للمؤسسة التعليمية والتثقيفية الدينية وليس في وجودها.فقد تراجع دور المؤسسة التعليمية الدينية العريقة مخلفة وراءها حالة من الفراغ المريع لم تقدر الجامعات الحديثة على ملئه، كما أن ما يسمى "الانتلجنسيا" العربية الحديثة لم تتمكن من ملئ الموقع الذي كان يشغله العالم التقليدي، الأمر الذي شرع الباب واسعا أمام حالة من الفوضى الاخلاقية والدينية والعلمية مازالت حلقاتها الدرامية ماثلة أمام أعيننا، أي إن المشكل متأت من ضعف المؤسسة التعليمية الدينية وضمور التكوين الديني وليس في وجودهما.
• أخيرا: فإننا نقول بأن مهمة الإصلاح يجب أن تكون استجابة لحاجة مجتمعاتنا ومصالحها، بدل أن تكون استجابة لمصالح ورهانات الآخرين، مهمة ينهض بها أهل الدراية والنظر في عالمنا العربي والإسلامي ممن تتوفر فيهم خصلة النزاهة والكفاءة عوض أن يكون أجندة في أقسام الخارجية الأجنبية أو تعليمات استخبارية، كما إن مصير الإسلام يجب أن يكون مفتوحا على عامة المسلمين على اختلاف مذاهبهم واجتهاداتهم وخياراتهم التأويلية حتى يكون الإسلام قاعدة الشرعية العامة وحاضنا للجميع كما كان شأنه ماضيا وسيظل حاضرا ومستقبلا، وهذا يقتضي نبذ المتطرفين وعزلهم من المعسكرين، متطرفي الدين الذين يسوغون القتل باسم المقدسات، ومتطرفي العلمانية الذين يغذون ثقافة التحارب والاقصاء.

الرقعة الإسلامية غير العربية
إذا أردنا توخي الدقة والضبط ما أمكن فإنه يسعنا الحديث هنا عن تجارب إصلاحية في المنطقة غير العربية، أكثر من الحديث عن خطاب إصلاحي، وهذه التجارب غير متجانسة،ولا هي تسير على هدي وجهة محددة، أو نمط واحد، وعليه من الصعب التسليم بحتمية محددة في مسار هذه التجارب المختلفة، من قبيل القول بأن الأمور تسير نحو "ليبرالية إسلامية"، أو حركة علمنة صامتة وغير معلنة. ففي الوقت الذي تمكن حزب العدالة والتنمية ذوالجذور الفكرية المحافظة (هكذا يقدم أردوجان حزبه) من الفوز للمرة الثانية بثقة الناخب التركي على حساب القوى العلمانية التقليدية، تراجعت حظوظ الإصلاحية الخاتمية لصالح تيار أحمدي نجاد الجذري مسنودا بدعم قوي من تيار الشباب والنساء والقطاعات الاجتماعية المحرومة التي همشها الإصلاحيون.
لعل أهم ميزة لهذه التجارب السياسية غير العربية تتمثل في ملمحها البراجماتي العملي، أي الاهتمام بما يمكن تسميته بالبراكسيس السياسي أكثر من الانشغال بالتنظير السياسي، إذ أن ما يشغل أصحاب هذه التجارب البحث عن النجاعة والجدوى السياسية أكثر من الاهتمام بالفكر أو التنظير الديني والسياسي. فأردوجان أو عبد الله جول في تركيا أو أنور ابراهيم أو بدوي في ماليزيا مثلا هم أولا وقبل كل شيء سياسيون متمرسون ورجالات حكم أكثر مما هم أصحاب تنظير وفكر أو أهل فقه، وإذا كان هنالك ما يوجب المقارنة فهم أقرب من هذه الناحية إلى رجالات التنظيمات العثمانية منها إلى رجالات الإصلاح الديني، هذا إذا استثنينا الرئيس السابق محمد خاتمي الذي عرف بالكتابة والتنظير السياسي من داخل المدرسة الشيعية الإثني عشرية، وإلى حد ما مهاتير محمد في ماليزيا الذي يظل أقرب إلى تيار التحررية العالمثالثية ومناهضة العولمة ببصمات إسلامية منه إلى التيار الليبرالي. بل إن ما يميز الحالة الإسلامية غير العربية فقرها الفكري وعزوفها عن الكتابة والتدوين، إذا استثنينا الملمح السجالي الذي يطبع خطاب هؤلاء "الإصلاحيين" من قبيل التأكيد على التوافق بين الإسلام والديمقراطية، أو التعايش بين الإسلام والحداثة وليس أكثر من ذلك. وفعلا بقدر ما مثلت هذا الجانب (عدم الاهتمام بالتظير) عامل قوة من بعض الوجوه، من ذلك تغليب الحس العملي والتحلي بقدر غير قليل من المرونة السياسية بحكم عدم التقيد بمدونات نظرية أو فكرية جاهزة، بقدر ما مثل عامل ضعف في نفس الوقت، من ذلك خطورة الانزلاق بهذه المرونة السياسية إلى نوع من الذرائعية السياسية التي لا تنشد غير المصلحة السياسية، فضلا عن العجز عن صنع تيار أومدرسة سياسية محددة الشخوص والمعالم بسبب غياب التراث الفكري المدون الذي يمكن الاعتماد عليه. فأردوجان مثلا وبغض النظر عما يتمتع به من كفاءة وحسن الأداء إلا أنه في نهاية المطاف لم يشكل تيارا أو مدرسة معينة تختلف عن مدرسة "شيخه"أربكان الذي نشأ تحت عباءته.
على أنه إذا تناولنا المسألة من الزاوية السياسية العامة دون الاقتصار على جانب الخطاب الديني، ومن دون التوقف كثيرا عند الأشخاص، فإنه يسعنا القول على سبيل الجملة أن أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من التجارب الإصلاحية غير العربية في اندونيسيا وماليزيا وتركيا والسينيجال وإيران مثلا تتمثل في نجاحها إلى صنع وفاقات سياسية بين الثقافة الإسلامية والأعراف المحلية الإسلامية من جهة، والنظام الديمقراطي الليبرالي من جهة أخرى، ودونما كبير انشغال بإثارة مماحكات نظرية مجردة أو صراعات ايديولوجية عقيمة، من قبيل السجال عما إذا كانت هذه الديمقراطية تتوافق مع الإسلام أو تتعارض معه، أو ما إذا كانت هذه الديمقراطية رديفا ملازما للعلمانية أم لا. فقد رأت هذه التجارب الإصلاحية غير العربية في النظام الديمقراطي وبكل بساطة (بساطة بالمعنى الايحابي هنا) جملة من الآليات الاجرائية التي تسمح بإدارة الشأن السياسي بصورة رشيدة، وأداة للتخلص من الاحتكارية السياسية ومواقع التسلط السياسي دونما حاجة للخوض في المسائل الايديلوجية...هكذا أثبتت هذه التجارب واقعا ومن دون إغراق في التنظير أو التفكير أن ما يسمى بالثقافة السياسية الإسلامية لا تقف حجر عثرة أمام عملية انتقال ديمقراطي جاد، فلا الإسلام ولا مقولة الاستبداد السياسي الشرقي الرائجة في سوق الاستشراقيين ومشايعيهم من المثقفين العرب حالت دون قيام انتخابات حرة ونزيهة وفرض مبدأ التداول السلمي للسلطة في هذه الدول الإسلامية.
لقد أدرك القائمون على شؤون هذه التجارب بحاستهم السياسية العملية والخبرية، الحاجة إلى اجتراح ديمقراطية وفاقية، كما أدركوا أن أهم الخصال التي يتوفر عليها النظام الديمقراطي مهما كانت ثغراته، تتمثل فيما أثبته واقعا من قدرة على امتصاص التوترات السياسية والصراعات العنيفة والمهلكة حول السلطة، خصوصا إذا ما قام هذا النظام على الاجماع العام حول أسس النظام السياسي والاجتماعي، وذلك بالنظر إلى ما يتيحه من آليات ضابطة للشأن السياسي والتداول السلمي على السلطة فضلا عن قدرته على التخفيف من نزوعات التطرف والعنف بسبب ما يوفره من مساحة واسعة للمناظرة والمقارعة التداولية والحوارية، أي قدرة الديمقراطية على تحويل العدو إلى مجرد خصم سياسي على ما تقول الباحثة البلجيكية شنتال موف يمكن مقارعته بسلطان البيان وبقوة حشد الأصوات وصناعة الرأي العام بدل العمل على سحقه أو إلغائه بالعنف.
واحد من الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه التجارب تتمثل في حاجتنا في العالم العربي إلى تجريد الديمقراطية من الحمولة الايديولوجية التي ألصقت بها، وتحريرها من آفة الاحتكار والاستبعاد، ومن ثم افتكاكها من بين أيدي النخبة وبسطها بين أيدي الناس، والإلقاء بها في قلب حركة المجتمع حتى تتوفر الفرصة الكافية لاختبارها على أرض الواقع، وهذا الأمر يقتضي تغليب الخبرة الحية على الايديولوجيا، أي فك العلاقة الاعتباطية المزعومة بين الديمقراطية وما يسمى عادة بالثقافة الديمقراطية، والتأكيد بدلا من ذلك على طابعها الاجرائي الوظيفي. الديمقراطية كما نفهمها هي جملة من الأدوات الإجرائية التي تسمح بتنظيم الشأن السياسي بصورة ناجعة، أو إذا شئنا تعريفا اكثر بساطة فهي علاج عملي لداء الاستبداد السياسي لما توفره من آليات ضابطة ومنظمة للحياة السياسية من مثل علوية القانون والفصل بين السلطات وتوزيع السلطة بدل مركزتها، وتداول السلطة ضمن آماد زمنية محددة والحيلولة دون احتكارها إلى الأبد، واستقلال المجتمع المدني عن المجتمع السياسي والسماح بتنظيم الأحزاب والهيئات المستقلة عن الدولة ورقابة المحكومين على حاكميهم المفوضين. وما نقصده بكون الديمقراطية آلية اجرائية على وجه الدقة هو أنها ليست عقيدة ولا ايديولوجيا على نحو ما هو شائع في أدبيات الكثير من السياسيين والايديولوجيين العرب الذين تستهويهم لعبة التصنيف الايديولوجي، بقدر ما هي أسلوب عام في إدارة السياسة وشؤون الحكم. فالمهم في الديمقراطية ليس الأسسس النظرية أو الايديولوجية التي تتأسس عليها (هذا إن كانت لها أسس نظرية محددة وثابتة) بل في الآليات والوسائل التي يتم استخدامها في مجرى العملية السياسية، وهذا ما يسمح بالقول أن الديمقراطية تظل نظاما منفتحا وغير مكتمل باستمرار وهي تخضع لوجوه شرعنة مختلفة باختلاف الخلفيات الثقافية والفكرية التي تشتغل ضمنها.
ولا يحتاج المرء أن يكون علمانيا ولا ليبراليا حتى يقبل هذه الآليات الوظيفية، ودليل ذلك أن الديمقراطية اشتغلت في الأحزاب العلمانية والدينية على السواء، وتعايشت مع الاستعمار ومطالب التحرير، وتبنتها بلدان ذات جذور مسيحية كما أخذت بها بلاد أخرى ذات خلفيات بوذية وهندوسية وإسلامية.
وجماع القول هنا: إن مقولة انعدام الثقافة الديمقراطية في الفضاء العربي والإسلامي الأوسع والتي شاع استخدامها في الخطاب السياسي العربي ليست إلا شماعة يتم استدعاؤها للالتفاف على المطلب الديمقراطي لا غير. فأمريكا الجنوبية مثلا حينما انتقلت من طور الحكم العسكري الشمولي إلى الحكم الديمقراطي لم تشهد انتقالا نوعيا في ثقافتها السياسية ، وكذا هو الأمر بالنسبة للعديد من البلاد الأفريقية والآسيوية الأخرى التي نهجت الحل الديمقراطي. أما إذا افترضنا فعلا أن هناك علاقة ما تربط الديمقراطية بما يسمى بالقيم الثقافية أو الثقافة السياسية فلا أتصور أن الثقافة العربية الإسلامية على هذه الدرجة من الجمود والهشاشة التي تستحق كل هذا الحدب والإدانة، لا أتصور أن الثقافة السياسية في جنوب افريقيا أو أوجندا أوكينيا أكثر تطورا من الثقافة السياسية في مصر أو العراق أو سوريا أو تونس أو الجزائر هذا تجديف فارغ لا معنى له.

ولذا من الضروري إعادة توجيه مركز الاهتمام من الثقافة إلى السياسة ومشاغلها ورهاناتها، وأنا ممن يزعمون أن عطالة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي والعالم الإسلامي عامة لا علاقة لها بنظام الثقافة أو الدين على ما يعن للكثير قوله إنما يعود الأمر إلى ممانعة الخارج المتحالف مع مراكز التسلط في الداخل في قبول الخيار التداولي الديمقراطي مع العمل على الالتفاف عليه بمسوغات ودعاوى مختلفة ، أكثر مما يتعلق الأمر بعالم الثقافة والدين.الواضح أن الأطراف الدولية ليس لديها مصلحة في فسح مجال الاختيار السياسي الحر أو قبول الاحتكام لسلطة صناديق الاقتراع لأن أي عملية ديمقراطية جادة لا بد وأن تأتي بقوى اجتماعية وسياسية غير منسجمة ضرورة مع مصالح ورهانات الخارج، وربما يعود ذلك إلى كون القوى المرتبطة بالخارج والمتوائمة مع مصالحه لا تستطيع أن تصمد أمام إرادة الناخبين، ولذلك غدا مألوفا في الأوساط السياسية والأكاديمية الغربية والعربية على السواء الهروب من مواجهة المشكل السياسي والتركيز بدلا من ذلك على شماعة الثقافة والدين. يوجد اليوم حديث متتال عن أولوية مطلب العلمنة و"اللبرلة" على أولوية الانتقال الديمقراطي في العالم العربي،بما يدل على أن القوى الأجنبية تراهن على إعادة رسم الخارطة الثقافية أولا وقبل كل شيء، أي القيام بعمليات جراحية تطال الثقافة والقيم العامة بما يتيح إعادة بناء "المربع السياسي"، ثم تداول السلطة لاحقا في دائرة النخب المطلوبة أمريكيا، وهذا الأمر حسب رأينا أشبه ما يكون بمناطحة الصخر وذلك بالنظر إلى ما تتمتع به شعوب المنطقة من وعي مرهف وعميق بقضاياها الكبرى وسلم أولوياتها، ولذلك ما أن تتقدم لصناديق الاقتراع حتى تفاجئ الكثير من التوقعات، ومن ثم تعيد الأمور إلى نقطة الصفر، ولعل هذا ما يفسر محنة الديمقراطية في العالم العربي.
-----------------
هوامش

(*) من أوراق مؤتمر: "حقوق الإنسان وتجديد الخطاب الديني:كيف يستفيد العالم العربي من تجارب العالم الإسلامي غير العربي؟" الإسكندرية في 18-20 أبريل 2006

Gibb H. A. R., Modern trends in Islam, (Chicago, 1947) (1) 
 


 

 

06-06-2006 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=343