/

 

 

في ارتباط الفكري بالاجتماعي: محاولة في فهم مشكلات العمل الحضاري الإسلامي

محمد عمر سعيد

. تجدر بنا في البدء ملاحظة تاريخية هامة قبل الدخول في مناقشة مفهوم العقل وحضوره في البناء الفكري والاجتماعي الإسلامي المعاصر؛ وهي أن الفكر الإسلامي الحديث لم تتح له فرصة السعي الجاد للتأسيس لمنهج حضاري نهضوي إلا بعد نضوب العقل الحداثي الغربي وانكشاف أوهامه المركزية عبر النقد الحداثي نفسه؛ فالعقل الأنواري كانت له مسلمات أساسية ولدت في النهاية أيقونة كبرى لم تكن في النهاية إلاّ أسطورة اكتشفها العقل ما بعد الحديث فأحدث ردّات فعله التي سنأتي على توصيفها بعد أن نقوم بمحاولة ترسيم تقريبي لأسطورة العقلانية رغم المحاولات التجاوزية التي كانت محكومة بنقد ديني انطلق من المبادئ المسيحية نفسها.
فقد أنتج التنوير الأوروبي أعداء للأيقونات الدينية سبّلوا أنفسهم لمحاربتها، تماما كما كانت الوضعية ورائدها أغوست كونت حسب تحليلات السوسيولوجي الفرنسي دوران جيلبير الذي يبدو أنه كرّس نفسه لإعادة استكشاف تجليات الخيال في بنية العقل الأوروبي وكشف التداخلات بينه وبين "العقول الأخرى" على مسلّمة أن توظيف الخيال للصور الرمزية ليس إلا جزء من عمليات ذهنية إنسانية ما كان له ليقوم بمحاولة إقصائها اللهمّ إلا عبر الوعي به وتهذيبه من خلال عمليات المراجعة والنقد للوصول إلى تحقيق خيال يتوافق ومعطيات العقل؛ كذلك لم يكن أمام كانط (إبّان تشكيل العقل الحداثي) إلا أن ييأس من البحث الميتافيزيقي ويقتصر على وظائف العقل في تجلياته النظرية والعملية؛ إذ أن مراجعات "دُوْرَان" تتسم بطابع حضاري وكوني يدرس فيها التداخلات والتقاطعات الفكرية بين غرب ما بعد القطيعة مع الكنيسة و بين الكنيسة نفسها والديانة اليهودية وكذا حضارة الإسلام دون أن يُغفِل العهد اليوناني في محاولة منه لتفكيك البنية المركزية للعقل الأوروبي على ذاته النافي للآخر والمستعبد له والناكر لعرفانه، وطبعا لا يمكن أن تكون جهود جيلبير وحيد، فثمة باحثون آخرون، منهم الفيلسوف اليوناني المعاصر "كورنيليوس كاستورياديس" الذي حاول إخراج النسق الإيديولوجي الماركسي من اجتراره المبتذل على الدوام؛ فألّف "التأسيس الخيالي للمجتمع" من المنطلق الماركسي، واكتشف وجها أنطولوجية الإنسان الذي لم تكن ليقتصر على بعد واحد فقرر أن الجانب الذي لا يمكن كشفه عبر الدرس العلمي واسع جدا بالمقارنة مع ما يستطيع كشفه ـ من أجل زرقة عيون الإسلام أو غيره سوى ما كان في الإطار "النفعي"!! 
لكن هذا يجعلنا نتساءل ما عساها هي الآفاق التي يمكن أن يفتحها نسق مستحدث يراجع أعتى المفاهيم الغربية جمودا غير الاعتراف بالآخر واحترامه؟! فلا شك أنه لن يكون ذلك الموقف الهروبي في المذهب البراغماتي الذي تأسس خارج المجال الجغرافي الأوروبي (على يد "شارل بيرس"، و"جودن ديوي"، و"وليم جيمس") و الذي يعدم الفكر والمعرفة كشق أنطولوجي هو من دونه العدم للتعامل مع محض الواقع، أو قل "الروح المخبرية" كتجلّ يكشف محاولة العقل الغربي التخلص من بداياته الفكرية ونهاياته على حد سواء، كونه في العمق الشفاف فرار استكباري يكشف عنه الموقف الشيطاني من السجود لآدم وهو هنا يكشف عن فرار الغربيين من الاعتراف بالآخر و احترامه.
و ما قد يبدو نزوعا نحو ذلك (الاعتراف بالآخر واحترامه) هو ما يتجلى في النزوع ما بعد الحداثي الذي افتتحته أعمال معمارية هندسية حاولت التخلص من التجانس في البناء الغربي بمطالبتها بحق الانصراف نحو الإبداع التلقائي، وقدم لأسسه الفكرية "جون فونسوا ليوتار" في "الوضع ما بعد الحداثي" بما يمكن عده وجها آخر لحداثة "فائقة" على حد عبارة "علي حرب" أو "صدى" لها ـ كما ألف الدكتور رضوان زيادة في ذلك كتابا كرّس للنخب العلمانية علها تراجع نفسها بانسياقها الكامل و الدائم وراء مبدعات الغرب الثقافية ـ، بما يمكن إجمال ماهيته في محاولة التحرر من الوصول إلى مقترح وحيد الأمر الذي يدعوا إلى الاقتناع بالاختلافات الثقافية للآخر؛ وهو الوضع الذي ظهر كرد فعل على خيبات الأمل من الحداثة ووعودها، حيث انتهى إلى هلامية قيمية أتت على الأسس العقلانية؛ فتحولت إلى اللاعقلانية وإعدام المعنى من النص عبر فكرة (الاإختلاف) أو إرجاء تحديد معنى نهائي للنص(إيزوتيريا) والاختلاف على تحديده (إيكزوتيريا)؛ لذلك لا يمكن اعتبار هذا "الوضع" خروجا عن الأسس الحداثية التي أتينا على ذكر أساسها المتمركز على الذات، فما هو إلا حل صادِق تماهى مع جذوره عكس ما حاول البراغماتيون القيام به، فالاعتراف بالآخر واحترامه يدخل ضمن المسار العميق لهذا التيار المتأسس على اللاعقل والأوهام العبثية!! 
لقد نحى العقل الأوروبي منحنيات عدة وعرج تعريجات كبرى بدءا من الإصلاح الديني مع لوثر وكالفن بداية من القرن الخامس عشر(حيث تجب الإشارة إلى أن الإصلاح الديني في أوروبا تلى الفترة الخلدونية وأعماله في نهايات القرن الرابع عشر وبدايات القرن التالي التي حاولت دق ناقوس الخطر منبّهة إلى الغيبوبة الحضارية التي دخلتها الأمة الإسلامية، وهي الفترة التي اندرجت فيها في سبات عميق تماما كما حددها بن نبي بفترة ما بعد الموحدين أي بعد القرن الحادي عشر؛ إذ لم يكن ابن خلدون فقيها كما تظهر أعماله حيث أوغلت في "واقعية" جديرة بأن نستفيد منها حاليا)؛ وصولا إلى الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر والتجسيد العملي للعقلانية الديكارتية بشعار الحرية والعدالة والمساواة، وعودا بعدها إلى انتقاد الحداثة مع "آلان تورين" في "نقد الحداثة" و"أنطوني جيدنز" في "نتائج الحداثة"، ثم خروجا علنيا عليها في "ما بعد الحداثة".

في المقابل الأوروبي ...مسلمون يتعثّرون: 
لم يكن الفكر الإسلامي في معزل عن التأثير أوروبي، بالتأكيد هو تأثير فرضته عوامل التاريخ والجغرافيا، فبعد الأنوار الأوروبية وبعوامل داخلية أهمها سقوط الخلافة، بدأت في العالم الإسلامي محاولات إصلاحية انطلقت مع جمال الدين الحسيني الأفغاني بـ "الرد على الدهريين" في الهند ومناهضة الاستبداد في مصر، منتهياً إلى اقتراح مشروع إسلامي وحدوي بـ" الأستانة"، لكن ورغم كون جهوده لم تلق الاهتمام بل وجوبهت باللامبالاة إلا أن مقولاته تبقى منجما يلتقط منه الفكر الإسلامي مبادئ مقولاته الأساسية وتجلياته الإبداعية (حسب رؤية عبد الجبار الرفاعي)؛ فكان أن توقف المسار وانقطع بعوامل اجتمعت ووجّهت المعطى النفسي - الاجتماعي من فقدان لمبررات العمل والنباهة الحضاريين بشكل يمكن أن يفسر على أنه انعكاس فكري أوروبي حدد مسلماته وقناعاته بعدما تلقف الإشعاع الحضاري الإسلامي ليمضي سهمه في غمار الأحداث والتاريخ العالميين، كانت له نتائجه على الواقع الإسلامي المستسلم، والذي لم يع بعد أنه قد سقط رسميا بانتهاء الخلافة وبدء الاحتلال وعقد وعد بلفور إذ عليه أن يعيد البناء؛ لكنه ما كان يستطيع القيام بذلك وهو مازال على وقع ماض قريب مملوء بالأمجاد كان له أن يستأنس بها في غمرة حاضر بائس لا ينذر مستقبله إلا عن شؤم كبير، وهي الحقيقة التي لم تصدم إلا أذهان نخبة من الأفراد كان لهم أن يبدؤوا بإنجاز منطلقات ضاوية تكون أنيسا في خريف مسلم أتت رياحه على الأخضر واليابس.
نخبة من العالم العربي والإسلامي حاولت استجماع قدراتها الذاتية لرأب الهوة والصدع في النفس المسلمة التي كان يجمعها عمق واحد هو "القابلية للاستعمار"، في وقت كانت فيه الحضارة قد هاجرت إلى فضاء ومجال آخر أتم إنجاز مشروع حضاري أسس نفسه على عزل نفسه وإغلاقها فكريا بسياج ثقافي، لم يكن للإنسان للمستعمَر أن يكشف عن حقائق أخيه المستعمِر، إذ كان أمام "وضع ما بعد حضاري" لم يملك فيه قدرة على تحرير نفسه بجدية إلا ما كان ثورات آحاد تشتعل هنا وهناك من حين لآخر فيسهل إطفاؤها كونها تحركت خارج إطار العصر داخليا حيث غياب الإجماع والجماعية وخارجيا حيث الافتقار إلى الوسائل رغم نباهتها الفكرية والروحية العالية والتي قد نفتقدها اليوم؛ مثل ثورة الأمير عبد القادر الجزائري؛ إذ ورغم الحكمة الصوفية التي امتاز بها و المرتبطة بفروسية نادرة لم تكن لتفعل شيئا مع عدو كان فعالا ومنهجيا في كل ما يقوم به. 
هنا يطرح إشكال مركزي نفسه في مسار هذا البحث يحاول معرفة أسباب عدم نجاح المحاولات الفكرية والعملية في التحرير رغم كونها لم تنقطع عن الظهور مذ بدء السقوط الحضاري الإسلامي وكذا تحملت رفع تحدي إكراهات الاستعمار والقابلية للاستعمار على السواء؟


لقد كان بالفعل التحدي الذي ما إن يبصر الاستعمار فيه جدية وإشعاعا يمكن أن ينعكس على الوعي الاجتماعي المسلم إلا وعمل على إخماده في مهده، كذلك يخبرنا بن نبي في "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة" الذي يجعل من المستعمَرين فردا وجماعة محلا للافتتان الداخلي الخفي بينهم؛ فيختلط الحابل بالنابل حتى يفقد الفرد جديته في جهود التغيير والتحرير بالسقوط في مهاوي اليأس والإحباط أمام هول من الهجمات الداخلية والخارجية المدروسة بدقة متناهية، حيث يصوب الاستعمار مدافعه تجاه الفكرة ورائدها، والغريب أنه لا يقوم بمحاولة تصفية الفكرة مجسدة في صاحبها كونه يعلم أن نهايته جسديا هي بداية حياة الفكرة وانتعاشها!!
هي تحليلات يقدمها اليوم لنا مالك بن نبي على طبق حتى نحقق مقاصده ـ التي ربما لم يدرك هو أبعادها الراهنة ـ والتي كان يمكن أن نوظفها للتعامل مع قضايانا المعاصرة في المرحلة ما بعد الاستعمارية وفي إطار العولمة وهيمنة القطب الواحد، فقد صار من السهل جدا عليه أن يوجه أنظارنا إلى الجوانب الهامشية باختلاق أحداث وشخصيات تقوم بعمل "المنديل الأحمر" وما الصراع الهامشي حول قضية الإساءة للرسول إلا مثالا واضحا استهلك به الغرب الأوقات والجهود التي كان يفترض بها تبقى موجهة نحو البناء إن كانت تبني!! ...فقد أصبح تسييس البنية الفكرية والاجتماعية المسلمة سهلا جدا بأكثر من الانعكاس الشرطي، كون الوعي المسلم نشأ منذ عهوده الأولى مكبّلا تماما عاجزا عن التحرر من فكر صفّين ـ كما قد أتينا على ذلك في ملاحظاتنا التي قدمناها على مسيرة التاريخ الإسلامي وانعكاساته على العقلية المسلمة ـ والذي غلق كل آفاق تخرج به من السياسة، و مزيدا إليها الإعلام كقيمة مضافة تعمل على الاحتياط من أي انفلات من قيود الصراع.
فهذا الحدث وغيره أعراض لمرض قديم هو فقدان مبررات العمل المنطلق من الذات المسلمة لإنسان مازال حتى اليوم لم ولا يستشعر جوهر سقوطه الحضاري اللهم في لحظات يتم استصدارها من الخارج الإسلامي، سقوط لم يستشعر جوهره سوى نخبة من الأفراد أُدخلت أفكارها في إحباطات متوالية.
لقد جنى الاستعمار ويجني ثمار ربح معركته الفكرية التي كان بمكن أن تكون أكبر هاجس يؤرق المفكّر المعاصر، كيف نجح الاستعمار في قتل الأفكار المهددة له؟ وكيف ينجح الآن؟ ...إنه برأيي ينجح لا لصراع وجهد يقوم به اليوم إلا على وجه أخفى من ذلك الذي اعترف بن نبي بعدم استكشاف خيوطه الرفيعة رغم اقتناعه بوجودها؛ وهنا قد يتساءل القارئ: لماذا هذا الاستطراد في تحليل بسيط لإشكالية الصراع الفكري؟ كما قد يعترض معترض قائلا: إن الصراع في هذه اللحظة هو صراع شعوب مع الأنظمة، أو صراع فكر شرقي بآخر غربي أو ما شابه ذلك!.
نقول: إن ما خسره المسلمون بفعل الصراع الفكري في بلادهم كان فرصة تأسيس تواصل فكري تمتد يده الطولى إلى الواقع المجتمعي محدثا رجّة في عمقه و على مستوييه الأفقي على امتداد الجغرافية المسلمة و اتساعها خارج أقطارها، والمستوى العمودي بالاستمرارية التاريخية المبنية على التراكم الفكري؛ إنّ تحقق ذلك كان يعني الكثير للأمة إذ الفرض الممكن أنه سيربطها بمبدأ وجودها مع كلمة السماء الأولى "إقرأ" (بالإجتهاد العلمي) وصفتها المميزة لها "الأمية" (بجهاد العالمية)، أما واقعا فقد كان الفرَض كذلك خلق مأسسة فكرية جادة لعقل إسلامي جماعي مستنير بالتجربة الاستعمارية المباشرة إبان عهد الاحتلال ومرتبطة به نقديا مع تجربة ما بعد التحرير لأنها وببساطة ستستوفي إذ ذاك شرط التواصل مع جوهر المرض الذي لم يزل بالتحرير بل تواصل وبأكثر إحكام بعده.
هذا بالضبط ما حققه نجاح الاستعمار في الصراع الفكري، إنه فك الارتباط الاجتماعي والتاريخي بين النخبة النابهة التي عايشت الكيد الاستعماري عن قرب وبين أخرى نشأت بفعل ذلك منقطعة عن تاريخيتها وذاتها إما بالانزواء إلى الماضي (حيث تشكل العقل السلفي بكل تلويناته) أو الإنجرار وراء الآخر وتحديدا الغرب ذاته!! (حيث تشكل العقل العلماني بمختلف تشكلاته)، فبهذه الطريقة كذلك قطع الاستعمار الشريان الأكثر حيوية في البنية الفكرية والاجتماعية المسلمة.
إننا نعرف ونرى فردانية مستفحلة في المجتمع الأوروبي أدت إلى تفكيك أنوية المجتمع، مبدؤها الأسرة وآخرها فقدان المرجعية الأخلاقية، إلا أنه من الواجب أن نعلم بوجه مقابل الجماعية التي تسم تقاليده الفكرية والعلمية إلى غاية يومنا آخذين نماذج مدرسية هي مدرسة فرانكفورت وحلقة فيينا التي تحولت إلى مدرسة هارفارد التي تعتبر روافد لآلاف الأساتذة المنتشرين في أنحاء المجال الغربي، بل وحتى الفكر مابعد الحداثي كان له خطاب جماعي يؤسسه؛ عكس الفكر الإسلامي المعاصر المؤسس طبقا للآية القرآنية {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }(32)الروم، بل وأكثر من ذلك عندما نجده يتبنى هدفا موحدا هو البحث عن مخرج لأزمة الأمة وحتى عند تمسكهم بخلفية نظرية واحدة هي المرجعية الإسلامية طبقا للآية {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}(14) الحشر، فالغريب أن الفكر الإسلامي كان إبان الاحتلال يتم عزله بقوة خارجية تمثلت في الصراع الفكري المباشر أما اليوم فإنه قد تذرّر عن سبق إصرار أصحابه وصار كل مفكر له ادعاءاته وأيديولوجيته التي يتحزب بها؛ إن ما نعنيه بالتحديد من كل ذلك هو الوزن الذي يمكن أن تخلقه جماعية مؤسسية تكون انعكاسا للواقع الاجتماعي تعمل على قاعدة "الفكر الإنساني المشترك" كما يقترح الدكتور طه جابر العلواني.
نستكشف هنا تقابلا واضحا بين البناءين الفكري والإجتماعي الغربي والمسلم المتمثل في جماعية فكرية غربية مقترنة ببناء اجتماعي موغل في فردية مابعد حداثية وذَرِيَّة فكرية إسلامية (كان واجب المفكرين فيها تحديد مجالاتهم البحثية فيها، كون أغلب اختلافاتها وجدت في المنطلق والأهداف مع تشاركها في المضمون الفكري الإسلامي) مقترنة بجماعية تقليدية في مجتمعه (لا جماعية فيها إلا الصفة)، والله يعلم مآلاتها، لكن وجب أن نفصح بأنه ليس مجديا محاولة قلب المعادلة بالنسبة للطرف المسلم بل وجب لنا البحث ليس عن شعارات يمكن أن نقوم بنحتها لكن المسألة هي في محاولة إبداع موقف فكري محكم الاقتران بالوضع الاجتماعي.
وليست هذه دعوة إلى تأسيس وعي إسلامي مؤسسي فالأمر أرقى بكثير من مجرد الدعوة والادّعاء، لكن هذه المحاولة تتوجه بعد تحليل وكشف بنيوية الموقف إلى السعي نحو تأصيل الموقف الثقافي الإسلامي الذي صار يسبح دونما بوصلة تاريخية لعلنا نساهم من إنجاز وصلة تفسيرية لما تم العمل على بتره.

محاولات تفسيرية توقفت:
فيتركز البحث حول كيفية استرجاع ومراجعة الموروث المقطوع عن جذوره فصار هو الآخر يخضع لقراءات نظرية لا تحاول وصله بجوهر المشكلة الحضارية التي تتأسس ابتداء على المعطى الواقعي المعطل والفاقد للمنهج؛ قد نذكر البعض ممن قام بجهود جادة وواعية نذكر جمال الدين (1839/1897) ومحمد عبده (1849/1905) ومحمد إقبال (1873/1938) ومالك بن نبي (1905/1972) كنماذج عليها ننجز قراءة ليست بالضرورة موسوعية لكن تسعى أن تتعامل مع المعطى الواقعي والظرفي محاولة التأويل الظاهراتي للوصول إلى المقاصد بالزاد الكافي قدر المستطاع، مع ملاحظة أن الرجال الأربع يشملون في انتماءاتهم العالم الإسلامي ابتداء من الهند مرورا بأفغانستان ووصولا إلى مصر وثم الجزائر على التوالي وجاءت مساهماتهم في فترات متقاربة. 
يلاحظ الفرق أولا بين الرجال الأربعة في مستوى العمل وكيفيته، فكان الأولان جمال الدين وعبده عاملان على تنوير اجتماعي يجتهدان فيه الامتداد الأفقي بالإنكباب على محاولة التأثير الأفقي من خلال الإصلاح الديني بواسطة العمل الاجتماعي فكان الأستاذ الأفغاني يعمل في "الحقل السياسي" حيث ناهض الاستبداد في مصر واقترح مشروعا وحدويا في الأستانة وفضل التلميذ الجانب "التربوي والعقيدي" فدعا إلى إعمال العقل وحاول التجديد في علم الكلام، بينما اعتمد كل من إقبال وبن نبي محاولة الإيغال في استكشاف الخلل في الجسم الفكري والاجتماعي للأمة عن طريق البحث العلمي والفلسفي، الأول اختار طريق التجديد "في تجديد التفكير الديني في الإسلام"، ولو أنه كان شاعرا صوفيا في أغلب ما أنتج، أما الثاني فوهب حياته في سبيل تمحيص "مشكلات الحضارة" محاولا صياغة تقاليد علمية وعملية في الفلسفة الاجتماعية. 
ويجب التنبيه إلى أن الفرق والتمييز بين النماذج الأربع وبالتحديد بين النموذجين كما صنفناهما لا يعني وجود فارق في الوعي بقدر ما كان فارقا منهجيا تجلى في منحى السعي نحو النهضة نفسه، يفصل بينها حدود الاستيعاب العميق لمدى التطور الفكري والاجتماعي الحاصل على الضفة الشمالية من حدود العالم الإسلامي أين هاجرت الحضارة منذ زمن يسير آنذاك، حيث تم التعامل مع الغرب من طرف إقبال وبن نبي تعاملا لم يحمل أثقال الثقافة التقليدية الراسية على أسس مخيال لم يصنع إلا صورة ضبابية قاتمة عن الآخر عموما والغرب على وجه أخص؛ فقد دخلاها وهما متحرران من أي معطى اجتماعي مسبق، الأول تعلم الفلسفة في انكلترا وألمانيا، والثاني تعمق في فلسفة التنوير في فرنسا، على أنهما لم يحرما من النشوء كغيرهما من أبناء العالم الإسلامي على تشرب مبادئ الدين منذ نعومة أظافرهما، فمقولة والد إقبال معروفة لابنه محمد "إقرأ القرآن وكأنه يتنزل عليك"، أما مالك فكان مواظبا على تعلم مبادئ الدين في الكتّاب.
ومع أن كل الأفغاني وعبده كانت لهما فرصة الدخول إلى بوابة التنوير في باريس حيث كانا يصدران منها "العروة الوثقى"، إلاّ أن جهودهما في الإصلاح حرمتهما من إتقان اللغة الفرنسية، وبالتالي حرما من التواصل الفاعل مع الثقافة التي فرضت عليهما تحدي النهضة نفسه!!، على أن جمال الدين كان قارئا ومترجما للفرنسية، لكن مآل التلميذ الذي لم يتقن الفرنسية يدل على عدم مركزية الشأن التفاعلي لدى المدرسة الإصلاحية، وإن كان ذلك لا يجب أن يدلنا خطأً على انغلاق فكراني (أيديولوجي)، بل لو جاز لنا أن نسميه انغلاقا فهو من إنتاج الظروف النفسية والتاريخية، و كانا متفاعلين تماما ومتواصلان مع المجتمع الأوروبي و في الوقت سليلان للمؤسسة الدينية، خاصة التلميذ الذي كان أزهريا بمعنى الكلمة، حيث لم ينبهرا به مثلما انبهر الطهطاوي كما يظهر ذلك في " تخليص الإبريز في تلخيص باريس"!!
فالمسألة الفارقة إذن تتحدد في إطار الهم الوجودي وسعة الإطار العميق لمعنى التفاعل مع الآخر فكانت أفضلية النهج البحثي في مقابل النهج الإصلاحي كونه تحرر من العوائق الشكلية (في مثال إتقان اللغة)؛ بما يشير في العمق إلى تحرر أنطولوجي ظاهر لدى الباحثين إقبال وبن نبي على أنه لم يكن تحررا من أجل اللغة فحسب، بل كان من أجل تحقيق التماس المباشر من دون عُقَدٍ مع ما كرسه المخيال المسلم من قطيعة نفسية مع الآخر، بما يقتضي شجاعة نفسية/فكرية خاصة في ظرف حضاري غير مسبوق توكل فيه مهمة التأسيس لثورة فكرية بحاجة إلى تراكمات معرفية لو تمت آنذاك لكنا اليوم في مرتبة كونية أليَق بحاملي دين هو الإسلام العظيم. 
هكذا تشكل العقل المسلم من جديد وبشكل ما وجب الرجوع عنه مع إقبال وبن نبي بإحداث قطيعة إيجابية مع المنهج الإصلاحي، منهج يسلم بتغير العلاقات الدولية ومعطياتها السياسة في كنف تفاعل غير واعي لحضارتين أحداهما استعلت عقلانيا والأخرى دونية عصبيا، أي أن الأولى قامت بالاحتلال على أسس نفعية وأخرى احتُلّت ضمن إطارها التقليدي المنبني على العصبية التي استحكمت بالمسلمين بعد وفاة الرسول مباشرة!! فصار المنهج يسلّم بانقضاء عهد الإصلاح الأفقي بنشر الأفكار ومحاولة التأثير وإذكاء الوعي في النفوس عبر الجرائد والمجالس الفكرية والدينية، والتحول إلى التأسيس لمرحلة التنوير الفكري من خلال توجيه الجهود نحو سبر أغوار الأزمة وارتباطاتها بمنهجية تحكم ربط العلاقة بين العقل كمعطى فطري للإنسان والعلم كصياغة محدثة في تناول الأزمة الحضارية التي دخلها العالم برمته بقيادة حضارة رأينا ونرى اليوم النتائج التي أدت إليها المقدمات التي تأسست عليها في داخلها وخارجها؛ مؤكدين في نهاية هذه المحاولات التفسيرية على أن المسألة تاريخية بحتة حيث أن التنوير اليوم لا يلغي مسألة التربية وضروراتها، وهي الوجه الأساسي للفكر الإصلاحي بل يتأسس عليه كون حتى التربية اليوم لا يجب أن تقوم إلا على معطيات علمية ومعرفية من دونها فقدان حتى الوعي الذي امتلكه رجال الإصلاح أنفسهم وتحلت به الحركة التنويرية آنئذ؛ كون النهج الإصلاحي افتقد أي مبرر لوجوده اليوم إلا ما بقي في كمونه من طاقة إشعاعية!! 

ماذا بعد المحاولات الأولى؟ 
لو انتقلنا إلى المرحلة الراهنة محتفظين بملاحظة نجاح الصراع الفكري الاستعماري في البلاد الإسلامية، وكذا استصحبنا مآل الفكر والمجتمع في الغرب بعدما مررنا عليها ولاحظنا مآلاتها خاصة، ثم وكذا فلنستحضر هاهنا الملاحظة المبدئية التي أتينا على ذكرها في رأس هذه المحاولة؛ ليكون بمقدورنا الآن تقديم وصفة تحليلية وتأويلية ترمي نهاية إلى التأصيل باستدراك ما فات.
نجدنا أمام جملة من المعطيات الفكرية والاجتماعية تشترك بنيويا في صفة واحدة هي "التشتت" أو "اللاوحدة" الذي يتمظهر في المجال السياسي المعبّر الذي يعبر أيضاً عن المضمون الاجتماعي والفكري للأمة، فالفرقة ترسم اليوم معالم الوجود الإسلامي وتسمه في كل تجليات حضورها بـ"الضعف" النابع من الترهل النفسي والروحي لدى النخب التي تعيد إنتاج الماضي في أطر حديثة، كونها ـ أي النخب ـ اندرجت ضمن بنية مجتمعاتها دونما فكاك عنه، فصارت خاضعة لأنماطها التقليدية المنبنية على العصبية كما صاغها ابن خلدون منذ ستة قرون، هذا رغم كونها تنهل من مصادر معرفية هي الأكثر جدّة زمنيا، فهي تقتبس من نمط معرفي قد قدّمنا لمبدئه ومآله، ثم هي تتعامل معه على أساس كونه آليات معرفية منفصلة عن جوهرها الوجودي ـ كذوات إنسانية ـ، ومن جهة أخرى لا ترى في الفضاء الثقافي الإسلامي وتاريخه الخاص إلا من زاوية كرونولوجية خالية من الرؤية النقدية الجذرية على قاعدة كونهما معطيات تتم دراستها دونما استشعار لحضورها ضمن وعيها كنخبة كذلك.
أما المهمة المفترضة لها كنخبة هي أن تقوم بعملية غربلة لا تمر عبر "عقل محض"، بل يجدر بها أن تجعل من عمقها الوجودي الرافد لرؤيتها الدينية/الميتافيزيقة ـ الخاضعة للتجربة التاريخية وإكراهاتها ـ مجالا خصباً، تحاول بواسطة تمرينه بـ"الرياضة الدينية" حسب عبارة "محمد إقبال"؛ الرياضة التي تُنضج الجانب النفسي والروحي (بما هو علاقة أصيلة بين تسبيح الروح وتعينات الجسد) وتملؤه بأنوار العقل عبر تجلياتها الإيمانية والمعرفية؛ فتفيد التجربة الروحية التخلص من ازدواجيتها التي رسمها المخيال الاجتماعي والذي يتأسس على السلوك الفردي المندرج ضمن المضمرات النسقية، حيث تنتج في النهاية "الفعل الاجتماعي" حسب تعريف "ماكس فيبر"، فنكون أمام اقتراح المخياليين المعاصرين لمراجعة منطلقات الحضارة الغربية عبر استكشاف التداخلات الحضارية بينها وبين باقي الحضارات والأديان، وهو نفس الجهد الذي يتوجب على الثقافة الإسلامية المعاصرة القيام به لكن عبر الرياضة الروحية/الدينية للتخلص من ترسبات مخيالها المغلق، ...هنا ومن أجل ذلك قد نوافق المقولة المرفوضة لدينا تبعا للمخيال نفسه والقائلة بعقلانية الغرب وإشراقية الشرق، لكن وجب القبول بها على أنها ذات نهايات حضاريا تتماهى جوهريا.
وتلك هي الوحدة التي كان ممكنا تأسيسها لولا الإجهاض الاستعماري لها، وحدة جوهر وجودي قائم على "شراكة الجهد الروحي/الديني"، فما كان يحاربه الاستعمار في صراعه الفكري الذي كان في حقيقته حربا روحية في إطار معركة من أجل الحفاظ اللاتكافؤ الحضاري المعنوي والمادي بين حضارتين ذات جوهرين مختلفين، والذي يصدر عن اللاكفاءة داخل المجال الحضاري الإسلامي...لذلك فمحاولة التسوية بين الجوهرين الحضاريين (عن طريق أيديولوجيا العولمة الاستعلائية أو عن طريق أيديولوجيا العالمية الدونية) هو من قبيل ضرب اليم بالعصا لفلقه، لكن هيهات العود إلى زمن العقل الخوارقي!!
بالمقابل وجب التنبيه إلى أن مبدأ "الاختلاف" كمعطى سنني يتحدد ضمنه مقتضى التعارف والاعتراف خارج الدعوة والدعاوى المتبادلة سواء ما بعد الحداثية منها أو أفكار التسامح والحوار الشكلانية، التي لا تتأسس إلا عبر اللاتكافؤ الحضاري دوليا والاجتماعي داخليا؛ لذلك فالحوار والاختلاف الذي يدعو إليه القرآن في أمثولة هابيل وقابيل والتي غاب عنها الحوار من الطرفين أولهما استعلائي بيّن (القاتل)، والآخر دوني لم يقم بجهد الدفاع عن الحقيقة الذي كان يقتضي من حيث الشكل الدفاع عن وجوده الفيزيقي (المقتول)، بل وتمنى أن يحمل وزره في الآخرة!! كما في النص القرآني التالي { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ؛ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ؛ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ؛ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ؛ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.}(27/31) المائدة؛ فالقصة القرآنية جاءت في سياق تحديد علاقة الديانات الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) ببعضها في سورة المائدة فتم اختيار عرض هذا النموذج كعود إلى الأصل التاريخي لها جميعا لتأصيل العلاقة وتحديدها موضوعيا؛ وهو يدخل في الإطار الجوهري للوجود الإنساني الذي لا ناقة له ولا جمل بما هو اختلاف بنيوي أنتجته عوامل التاريخ والجغرافيا.
بهذا الفهم تتحقق العودة إلى الذات ومحاولة استكناه جوهرها المختلف عن الجوهر العقلاني للحضارة الغربية، فحضارتنا خاصيتها "الأمية" التي تتضمن العقلانية وتتجاوزها، يجب أن نفهم هذا؟! إنه لا يمكن أن نلحق بالغرب ولا أن نتجاوزه ولو بقينا ننتظر آلاف العقود بنفس المنظور المعتمد على التماثل الشكلاني!!
فالشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا في الشكل المؤسس على الجوهر الروحي اللامتعين، بل اللقاء ممكن فقط ضمن التعارف والاعتراف، فلا أحد ولا حضارة مطالبة بالتخلي عن جوهر وجودها و إلا انتفت من الوجود؛ فالحضارة الإسلامية لم ولن تنطلق بدعوى مخالفة لأميتها الدينية الكامنة في عمقها الوجودي، وأيضا هي ذات علاقة بتاريخ الحضارة الإسلامية وبالضبط في مرحلة النبوة وما أحاط بها تاريخيا وجغرافيا.
والعود بنا إلى الملاحظة الأولى بعد الإيغال في تحليل العلاقة وكيف هي وكيف يجب أن تكون تكشف عن أنّ لحظة التفاعل الراهنة ـ باستثناء المحاولات المجهضة التي أتينا على تحليل حالها وكشف مآلها ـ كانت لحظة انفعال شكلاني غير واع محكوم بهيمنة تاريخية استغرقت الجهود الروحية في حدود سطحية مفعول بها؛ بعد أن قيدها الاستعمار روحيا فهي لا طاقة لها بعد قتل المحاولات الأساسية في مهدها، لكن ما دامت الأفكار ليست جسدا ينتهي كل شيء بموته ـ ضمن حدود التصور المادي فإن الاستئناف ممكن جدا بعد تحقيق الوصال معها. 
 

 
 

 

 

23-06-2006 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=344