/

 

 

استعادة الكواكبي في زمن الاستبداد

عبد الرحمن حللي


. ما تزال أفكار عصر النهضة حاضرة في اللحظة الثقافية الراهنة رغم مرور أكثر من قرن ونصف على انبثاقها، فمع الجدب الذي أصاب الفكر والثقافة العربية وأفول الأيديولجيات وتكسر النظريات على صخرة الواقع المعاند للتحول والتغيير، تأتي الذكريات والمناسبات فرصة لاستعادة أسئلة النهضة وقراءة تجارب مفكرين مروا بظروف أكثر تعقيداً وتفككاً، ولم يقف استمطار الأفكار عند رجال النهضة بل استحضرت بكثافة الشخصيات البارزة في التاريخ من ابن رشد إلى ابن خلدون إلى الكواكبي ومحمد عبده ومالك بن نبي وغيرهم، لكن هذا الاستحضار لم يكن بريئاً دائماً فقد جاء في أحيان كثيرة لتجديد الأيديولجيه التي تم توظيف كل من تلك الشخصيات في مجالها.

وينفرد الكواكبي في استعادته مؤخراً بخصوصية الإجماع على الهموم التي عالجها وراهنيتها وبشكل أشد في العصر الراهن، فلئن اختلفت التيارات الفكرية في قراءة الكواكبي وتوظيفه وتصنيفه، فإنها تجمع إلى أولوية وراهنية القضية المركزية التي اشتغل عليها وهي الاستبداد، إذ كان أول من دشن دراسة هذه الإشكالية في الفكر العربي والإسلامي الحديث، فقد اكتوى الجميع بنار الاستبداد وما يزال يفرض نفسه بأسماء وألوان كثيرة وبمستويات مختلفة في العالم العربي خصوصاً.

أثار استحضار الكواكبي السؤال والجدل حول كيفية التعامل مع الاستبداد اليوم، فالكواكبي إذ أثار الموضوع ووضع يده على الداء لم يقدم بنفس الوضوح طرق الخروج من أتونه ومكافحته، فطبيعة العلاقة بين الاستبداد والفتور - أو ما يمكن تسميته القابلية للاستبداد(استعارة من مقولة مالك بن نبي القابلية للاستعمار)- أيهما سبب للآخر؟ كانت غامضة في طرح الكواكبي، وهي مثار جدل اليوم في الحديث عن أدوار السلطة والمعارضة حول قضية الديمقراطية ومستلزماتها في المجتمعات العربية.

ولئن تحدث الكواكبي عن الهجرة من بلاد الاستبداد فإن حديثه لم يكن هروباً من مقارعته فقد اضطر إليه من خلال تجربته إذ أمضى حياته في مكافحة الاستبداد ونصرة المظلومين، بل إنه أسس مكتباً في حلب -التي احتفت به مؤخراً بمناسبة كونها عاصمة للثقافة الإسلامية- لاستقبال شكاوى ضحايا الاستبداد وسعى إلى مساعدتهم والدفاع عنهم في المحاكم، كما أنه في بحثه قضايا النهضة قد ركز بشكل أساسي على تجفيف ينابيع الاستبداد ودعائمه التي يستند إليها، فركز على الاهتمام بالتعليم وتعميمه بحيث يشكل حصانة لدى الأجيال ضد الاستبداد، كما ركز نقده على الاستبداد الديني وسلطة مشايخ السلاطين وتوظيف السلطنة العثمانية للدين والمماهاة بينه وبين قراراتها، فدعا الكواكبي إلى الفصل بين الدين والمُلك أو السلطان، لينزع شرعية أي تبرير ديني لقرارات السلطان المستبد، هذه الدعوة التي عممها البعض وفهمها خطأ على أنها دعوة للفصل بين الدين والدولة.

وتشكل أفكار الكواكبي في مختلف كتبه دعائم تحول دون الاستبداد، ففي تصوره للخليفة البديل الذي اقترحه اشترط تجديد البيعة الشرعية له كل ثلاث سنوات، وقلص الكثير من صلاحياته، وأناط الكثير من الشؤون بهيئة شورى يتم انتخابها، كما عول على الشعوب ونخبهم دون الحكام في صياغة النهضة، وغير ذلك من الآراء التي تعبر عن وعي الكواكبي بضرورة البحث عن بدائل للاستبداد، ولعل اغتياله قد حال دون استكمال رؤيته لبدائل الاستبداد.

لكن السؤال الأهم اليوم لا يدور حول طبيعة رؤية الكواكبي لمكافحة الاستبداد، إنما حول ما قدمه الفكر العربي والإسلامي من مشروعات للخروج من الاستبداد بعد مرور أكثر من قرن على طرح المسألة في قائمة أولويات قضايا النهضة، بل إن الأخطر ليس غياب هذه الرؤى، إنما تحول الكثير من التيارات والنخب العربية إلى حليفة للاستبداد بل وقائمة به، سواء بالقوة من خلال الإمساك بزمام السلطة أو بالتهم من خلال التخوين أو التكفير وقائمة التهم تطول وطنياً ودينياً، والأغرب من كل ذلك أن يحذِّر أعمدة الاستبداد والقائمون على الحكم بالقوة وأعوانهم من مخاطر الاستبداد، في محاولة للهروب إلى الأمام.

وقد هبت رياح الديمقراطية مع التغييرات القسرية التي اجتاحت أجزاء من العالم العربي فاستبشر بها الكثيرون لكنها كانت رياحاً موسمية لا تخلو من أمراض تحملها فيروسات هبت معها، لتؤكد من جديد أنه ما حك جلدك مثل ظفرك، وأن الاستبداد الذي يجد جذوراً في أرض ما لن تقتلعه إلا ما تنتجه الأرض نفسها من أفكار ورؤى، وهذه الأفكار بدورها لن تجدي ما لم تتحول بالمبادئ التي تدافع عنها إلى قيم جوهرية في قناعة الناس لصيقة بقيم العرض والكرامة.

ولئن تأخر الفكر العربي والإسلامي في هذا المجال تنظيراً وتطبيقاً فإن الإدانة ينبغي أن توجه أولاً إلى المتهم المتفق عليه، ففتور المجتمع إن كان يوفر بيئة للاستبداد فإنه لا يصلح بأي منطق أن يكون مبرراً له، فالحاكم قادر في أي لحظة أن يوفر المناخ لبدائل الاستبداد، أما المجتمع والنخب فقدرتهم على ذلك تتوقف على معطيات كثيرة أهمها مستوى الاستبداد والأبعاد التي يمكن أن يتجه إليها في الظلم.

إن استعادة الكواكبي اليوم مهمة ومؤنسة في آن، مهمة لأنها تحرك أفكاراً لم يعالجها الفكر العربي والإسلامي إلا ضئيلاً وعلى الورق وبدأت أسئلة جدواها في الواقع تطرح، وسيرة الكواكبي مؤنسة أيضاً لأنه نموذج عملي لمقارعة الاستبداد وضحاياه.
 

 

 

 

08-08-2006 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=349