/

 

 

الإسلاميون وخطاب الكواكبي السياسي والدولة الحديثة

عبد الرحمن الحاج


. ينقسم الإسلاميون حول موقفهم من عبدالرحمن الكواكبي إلى قسمين على طرفي نقيض، طرف منهم ينظر إلى الكواكبي كأحد الذين ساهموا في إسقاط الخلافة العثمانية وعملوا ضدها مما صب في المحصلة في خدمة المصالح الغربية وخراب ديار الإسلام، والطرف الثاني يرى فيه «تنويراً» و «إصلاحاً دينياً» لم يأخذ حقه بالاستفادة والدرس، ناهيك عن مواقف التقدميين العرب من الكواكبي الذين حاولوا استثمار جهوده ضمن خطاب سجالي يسوِّق لأيديولوجيا تقدمية أو قومية اشتراكية! وعلى رغم أن الخطاب الإسلامي الحركي يكاد يكون أخذ ملامحه العامة على وقع سقوط الخلافة، ولم يتطور كثيراً في ما بعد سوى في اتجاه الانتقال من المحلية إلى العالمية، فإن خطاب الإسلاميين على اختلاف توجهاتهم («جهاديين» و «برلمانيين» و «مستقلين») متأثر في شكل ما بخطاب الكواكبي الذي كانت السياسة مركز مشروعه.

وفي حديثنا عن خطاب الكواكبي السياسي هذا لن نذهب بعيداً في وصف تأثيرات عمل الكواكبي الصحافي في صحيفتيه - اللتين أنشأهما في مدينة حلب «الشهباء» (1877م) و «الاعتدال» (1879م) مستفيداً من خبرته لمدة أربع سنوات عمل خلالها في صحيفة «الفرات» (1872ـ 1876م)- في فكره السياسي، وتجربته الصحافية التي استعدت عليه الولاة آنذاك، حتى أدى الأمر إلى محاولة إنزال عقوبة الإعدام به لولا أن برأته محكمة بيروت بعد أن قضى في السجن ثمانية أشهر، فهذه المعلومات والحوادث التاريخية هي أشهر من أن يعاد سرد تفاصيلها في بحث متخصص، إلا أن المهم التأكيد بالإشارة إلى الحوادث التي مر بها الكواكبي على أن وعيه السياسي لم يكن بالضرورة هو نفسه في كل مراحل حياته.

قراءتنا لكتابات الكواكبي (الأعمال الكاملة) - التي تنحو منحى تاريخانياً- تكشف لنا أن الكواكبي الذي بزغ وعيه السياسي بقوة إبان عمله في الصحافة يمثل عمله الصحافي هذا حقبة واضحة المعالم في حد ذاتها، ذلك أن الأفكار التي كان يستند إليها الكواكبي في خطابه الإصلاحي لا تزال محكومة إلى صورة الخلافة في شكل كامل، على رغم وجود بعض المصطلحات التي تنتمي إلى إطار الحقل الدلالي للدولة الحديثة، فقد ورد مصطلح «الوطن» و «الوطنية» وتساوي «حقوق الرعية» على اختلاف مللهم في السلطنة، ويبدو الكواكبي في تلك المرحلة مهتماً بالمسألة الأخلاقية والفساد، فالصحافة فتحت ذهنه على مجريات الشأن العام من منظار النقد والمحاسبة، وبقي «لواء الخلافة والسلطنة المقدس الأكبر» بالنسبة له.

ونستطيع القول إن ممارسته الوظائف الحكومية كشفت له آليات عمل الدولة، وحجم المشكلة التي تفتك بالسلطنة العثمانية والمجتمعات المسلمة، وفي هذا الإطار توسعت اهتمامات الكواكبي الإصلاحية، من مجال الفساد في السلطنة إلى مراجعة نقدية واسعة طاولت مسألة النهضة برمتها، فقد قادته التجربة وحجم المشكلات التي واجهها إلى رؤية أفقية واسعة، خرجت من عباءة الفساد السياسي لتمتد إلى المجال الفكري والديني. وفي اعتقادنا أن هذه التجربة التي انتهت في نهاية عقد التسعينات من القرن التاسع عشر منحت الكواكبي الفرصة ليكتب أهم مؤلفاته، أعني كتابه «أم القرى»، الذي مهد بدوره لتطور خطير في فكر الكواكبي تجسد في كتابه ذائع الصيت «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد». صحيح أنه لا يوجد تاريخ معروف لكتابة كل منهما، لكن الكواكبي - الذي غادر إلى مصر بعد زيارة استانبول عاصمة الخلافة، حيث يقال إنه التقى الأفغاني وأنه يتوقع بأنه أشار عليه السفر إلى هناك - كان ألف كتابيه في حلب، وأخذهما معه إلى مصر عام 1899م ونشرهما هناك، كتاب «طبائع الاستبداد» نشر في صحيفة «المؤيد»، والثاني «أم القرى» نشر في مجلة «المنار» التي يصدرها مواطنه الشامي السيد رشيد رضا.

لا تشكل الأفكار الواردة في كتاب «أم القرى» قفزة كبيرة في فكر الكواكبي، لكنه في الوقت نفسه يمثل خطوة جديدة تبدو متقدمة نسبة إلى ما ورد في مقالاته في صحيفتي «الشهباء» و «الاعتدال»، بل إن الأفكار السياسية الواردة في كتاب أم القرى في ما يتعلق بالحرية والاستبداد غير جديرة لأن تكون أساساً لكتاب «طبائع الاستبداد»، ولا أن تكون وليدة عنه، فالثقافة الغربية التي يتمتع بها الكواكبي في كتابه الأخير هذا ليست بتلك الدرجة التي نجدها في كتاب «أم القرى»، وإن كان هذا الكتاب بالذات يكشف عن تحول في رؤيـة الكواكبي للعـالم (Weltanschauung)، وعن اطلاع غير هين بالفكر الأوروبي الحديث (آنذاك). لهذا السبب فإننا نعتقد أن كتاب «أم القرى» كتب أولاً، وهو يـشكل مرحلة تمهيـديـة بطريـقة ما لفكره السياسي في كتاب «طبائع الاستبداد». على كل حال فإن كتبه «الضائعة» قد تكشف حلقة الوصل بين الاثنين، وربما تكشف تاريخهما الحقيقي، لكن المعطيات التي بين أيدينا تشير في رأيي إلى ما قدمناه.

في هذه المرحلة التي يجسدها كتاب «أم القرى» ظهرت لدى الكواكبي مصطلحات جديدة من الحقل الدلالي للدولة الحديثة، مثل: «الديموقراطية»، «اللامركزية»، «النيابة»، «الاستبداد»، «الحرية»، «الأمة»، «السياسة الخارجية»، «الرأي العام»، «الإدارة المركزية»، ولكن كانت هذه المصطلحات تساكن جوارها مفاهيم تنتمي إلى منظومة «الخلافة الإسلامية»، مثل: «دار الإسلام»، «الأمة الإسلامية»، «الإمام»، «الجماعة»، «بيت المال»، «المملكة»، «الرعية»، «البيعة»، «الخليفة» وغيرها، ويبدو أنها لا تزال فاعلة في فكر الكواكبي السياسي، لهذا فإن اقتراح الكواكبي في الجامعة الإسلامية القائمة على الخلافة (العربية، وعروبتها ذاتها لأسباب دينية!) والرابطة الدينية، واقترح إلى جانب ذلك توقيت «بيعة الخلافة» لمدة ثلاث سنوات.

ونقدر أن فترة خصومته مع الولاة وسجنه كان لها الأثر البالغ في توجه الكواكبي إلى فكرة الاستبداد، وبالتأكيد فإن اطلاعه على منجزات الفكر الغربي والفرنسي في مجال الفكر السياسي على وجه الخصوص كان له دور مهم في هذا التوجه، حيث يمكن أن نلمح في الكتاب ما يدل على إلمامه بالفكر الأوروبي، واطلاعه هذا ساعده كثيراً على تطوير مفاهيمه عن الدولة كما تبدو في هذا الكتاب، وتالياً فإن ما يحويه «طبائع الاستبداد» الذي يؤرخ فعلياً - برأينا - إلى آخر مرحلة من حياته يمثل ذروة وعي الكواكبي بالدولة الحديثة ومفاهيمها، بأفكاره التي قال «طالما أتعبت نفسي في تحليلها وخاطرت حتى بحياتي في درسها وتدقيقها، وبذلك يعلمون أنني ما وافقت على الرأي القائل بأن أصل الداء هو الاستبداد السياسي إلا بعد عناء طويل يرجح أنني قد أصبت الغرض»، وقد يكون في هذا النص قرينة تقوي اعتقادنا بأنه آخر مؤلفاته التي تطلعنا على مرحلة جديدة في تطور الوعي السياسي لدى الكواكبي.

في هذا الكتاب جملة جديدة من مفاهيم الدولة الحديثة، منها «العلمانية» (التي لا يصرح بها ولكنه يناقشها ويرفضها) و «الدستور»، و «الحرية السياسية»، و «مجالس النواب»، و «الوحدة الوطنية» (تعبير الكواكبي: «الاتحاد الوطني»)، و «العدالة» و «المساواة» (كمطلبين سياسيين)، لكننا أيضاً ما زلنا نجد إلى جوارها مصطلحات ومفاهيم تنتمي إلى منظومة الخلافة الإسلامية، مثل: «أهل الحل والعقد»، «تدبير شؤون الأمة»، «الاحتساب»، كما لا يبدو أن الكواكبي تخلى عن مفهوم الخلافة، إذ يبدو الكتاب استكمالاً لمشروعه في «الجمعية الإسلامية» (كما في أمة القرى)، وليس قطعاً معه.

الشيء المهم والنقلة الواضحة في «طبائع الاستبداد» هو تبلور جملة من مفاهيم الدولة الحديثة في وعي الكواكبي، ومحاولة التأسيس لها في الثقافة والفقه الإسلامي، فمثلاً يتجاوز مفهوم الوطنية مجرد المساواة في الحقوق والواجبات، هذه الحقوق والواجبات التي تبدو في نصوصه السابقة حقوقاً مدنية غالباً، لكنه هنا (أعني: في طبائع الاستبداد) ينتقل خطوة في اتجاه مفهوم المواطنة باعتباره مساواة سياسية أولاً، فهو يدعو إلى ما سماه «الاتحاد الوطني»، كما أنه يناقش مسألة فصل الدين عن الدولة أو العلمانية السياسية، ويجادل بأنها ملائمة للأوروبيين المسيحيين دون المسلمين، لكن وصوله إلى مناقشة هذه القضية بالذات مؤشر إلى استيعابه مسألة «الديمقراطية» وما تستلزمه من «علمانية سياسية» (في التجربة الأوروبية على الأقل)، وسرعان ما يلجأ الكواكبي الشيخ المعمم إلى عقائده الراسخة بالإسلام، الذي يجد فيه ما توفره العلمانية السياسية من حقوق «العدل» و «الحرية» و «المساواة»، الذي كان سبباً للعلمانية في أوروبا المسيحية!

وفي محاولته لتبيان مفاهيم مثل الديمقراطية، يلجأ الكواكبي إلى مطابقتها بمفهوم «الشورى» في التراث الإسلامي الفقهي السياسي، ويعمد إلى استخراج أصول الشورى من القرآن الكريم. وجرياً مع اعتقاده الراسخ بالخلافة كمعلم من معالم الإسلام الذي ظل يؤمن به إيماناً حاراً ذهب إلى مزاوجة توفيقية لمفاهيم تنتمي للدولة الحديثة مع مفاهيم منظومة الخلافة مثل «الشورى الدستورية»، كما لو أنه يريد القول تماماً بـ «الديمقراطية الدستورية»!

بالتأكيد لم يظهر مفهوم الدولة الحديثة في الفكر العربي والإسلامي دفعة واحدة، بل تشكل على مراحل، وكان للكواكبي الدور الأبرز في تطويره، ولكن الوعي الإسلامي في قناعتنا ما قطع الشوط إلى نهايته من بعده، فقد دخل - بعد انهيار الخلافة العثمانية الإسلامية - في لاهوت «استعادة الخلافة» التي شكلت بدورها وعياً خاصاً بمفهوم الدولة من أبرز ملامحه «صورة الدولة وظل الخلافة»، ومن أبرز مفاهيمه «الدولة الإسلامية» في ما يبدو أنه انقطاع عن مسار تطور الفكر السياسي للإسلاميين وتراجع عن الخطوات التي قطعها الكواكبي في وعي الدولة الحديثة.

القارئ للكواكبي وما قبله سيجد أن أصول الحجج التي يستخدمها الإسلاميون البرلمانيون موجودة لأول مرة في كتابات الكواكبي، وأن حجج السلفية الجهادية في ما يتعلق بالاستبداد السياسي والديني، والقيم الأخلاقية، وعزة الإسلام، والتمسك بالخلافة، موجودة في سلفية الكواكبي ومشروعه السياسي بالتفصيل، اللهم إلا دلائل الأحداث التي يعيشها العالم في ما بعد، أشياء كثيرة يمكن أن نجد جذورها في خطاب الكوكبي ومشروعه السياسي، ذلك أن الكواكبي يمثل ذروة ما توصل إليه الفكر السياسي الإسلامي من تقدم حتى مرحلة ما قبل سقوط الخلافة، وقد سمحت شخصيته ذات النزعة السلفية أن تتسرب أفكاره إلى الجماعات الجهادية عبر السيد رشيد رضا، وإلى البرلمانيين الموصوفين بالاعتدال عبر حسن البنا الذي كان تلميذاً لرشيد رضا.

 

 

28-04-2007 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=352