. يسود في حقبة ما من الحقب نموذج جديد للتفكير بسبب تغييرات كبرى تحدث تحويلاً في رؤية الناس للعالم (Weltanschauung) ومتغيراته، وفي العادة يتم التعبير عن المفاهيم الجديدة بمصطلحات تجريدية للغاية، عادة ما تكون غير قابلة للضبط في شكل نهائي، ومع ذلك فإن هذه المراوغة والنزوع الزئبقي للمصطلحات للتفلت من قبضة التعاريف الصارمة والحادة هي التي تمنح هذه المصطلحات قدرتها على التأثير والإلهام والتغيير.
وفي مقابل ذلك، فإن ظهور هذه المصطلحات في سياق الأحداث وقدرتها على التعبير عن الرؤية الجديدة للعالم يمنحانها توهجاً خاصاً، يجذب هذا التوهج بدوره إليها أكبر قدر من الاجتماع الإنساني (المحلي أو العالمي، طبقاً لحدود الاجتماع الذي أصابته التغييرات). غير أن الملاحظ في المجتمعات الإسلامية (التي لها صلتها الخاصة بتراثها الديني) نزوعها الى تأصيل التغييرات عبر النصوص الشرعية، وغالباً لا تأخذ المصطحات دورها التحريضي من دون أن يحصل هذا التأصيل والتجذير (القسري ربما) في المعرفة الدينية والتراث الإسلامي بوجه عام، وما إن يتم التأصيل حتى تبدأ المجاذبات المفهومية لهذه المصطلحات، لكسب الشرعية وسحبها من الآخرين.
هذا ما حدث بالضبط مع الكثير من المصطلحات الكبرى في التاريخ الإسلامي الحديث. فمصطلح «الإصلاح» الذي «ابتكره» الشيخ محمد عبده بمضومنه الجديد يختصر دلالياً تفسير الحالة التي يمر بها المسلمون والحل المطلوب لها. فمفهوم «الإصلاح» مهما اختُلف فيه، فإنه يتضمن إقراراً بالسلب بوجود «عطل» أصاب الأمة وخلفها عن التقدم، وتصريحاً بإعادة تأهيل الأمة وتخليصها من «العطل». والمعركة التي قامت حول مفهوم مصطلح «الإصلاح» قامت ولم تقعد حتى بعد وفاة الشيخ عبده، ولم ينته الجدال حولها إلا بسقوط الخلافة العثمانية الشريفة في العشرينات المنصرمة. ولا بد من ملاحظة أن مصطلح «الإصلاح» ما كان يستطيع أن يثير هذا النقاش الواسع ويقع في التجاذبات للأطراف الفكرية المختلفة في العالم الإسلامي لولا أنه تم تأصيله ومده بالمشروعية عبر ربطه بآيات القرآن الكريم التي استعملت لفظ «الإصلاح» ولكن في حدود الدلالة اللغوية، وهو ما أعطى فرصة لاستثمارها في المصطلح الجديد من دون أية عوائق عبر التذبذب بين الدلالة اللغوية والدلالة الاصطلاحية اللتين تترابطان في شكل قوي للغاية.
الأمر ذاته حدث مع مصطح «التجديد» الذي شهدنا التفافاً غير مسبوق حوله بدءاً من السبعينات المنصرمة، ولا يزال الجدال حوله دائراً إلى اليوم، ولكنه آخذ في الخفوت، فقد أصبح دعاة «التجديد» يمثلون نمطاً جديداً في التفكير له ملامح تميل نحو التمايز، ولكنه لا يزال متوهجاً وملهماً إلى اليوم.
وفي السنوات الأخيرة دخل مصطلح «الوسطية» في شكل غير مسبوق حيِّزَ الاهتمام الاسلامي العام، فقد صدرت عشرات الكتب تحمل في عنوانها هذا المصطلح، مثل: «الوسطية في الإسلام»، و «الوسطية في الفكر الإسلامي» و «الوسطية: حياة وحضارة» و «الوسطية في ضوء القرآن الكريم» و «مفهوم الوسطية في السنة النبوية»، وغير ذلك مما يؤشر الى حضور جديد واستثنائي لهذا المصطلح.
وبالطبع، فإنه سرعان ما بدأ صراع التجاذبات والشرعيات، وبلغ التجاذب حداً جعل البعض يجد فيه تعبيراً أصيلاً عن السلفية التقليدية أو «منهج أهل السنّة والجماعة، وسلف الأمّة»، ويجد فيه آخرون ما يمنحهم الشرعية لعصرنة الإسلام والخروج من «أسْرِ» التراث الفقهي إلى «رحابة» الاجتهادات الجديدة التي تأخذ بيد المسلمين للشراكة مع العالم.
ولأن الوسطية لغوياً تُعرَّف بأنها وسط بين أمرين، وهي لم تغادر كثيراً فضاء الدلالة اللغوية، فقد حدد كل امرئ مسافة الوسط وفق مقاييسه الخاصة وأسقط عليها مفهومه عن المصطلح، حتى وقع المصطلح أسير هذا التوسط، فانقسمت الوسطية إلى وسطيات: بين «وسطية مستنيرة» وأخرى (بضرورة التلازم أو المفهوم - بحسب مصطلح أصول الفقه) «وسطية مظلمة» وثالثة ربما تكون «وسطية علمانية»! ويعود مصطلح «الوسطية المستنيرة» إلى «الرئيس الباكستاني برويز مشرّف، إذ دعا في مؤتمر القمة الإسلامية في ماليزيا عام 2004 إلى «وسطية مستنيرة» «تجنب استخدام سياسة المواجهة أو الاستسلام في التعامل مع الغرب»، وتركز «على سياسة التحديث والتعاون في تبادل المنافع، من خلال الحوار».
وبناء على دعوته ودعوة الرئيس الإيراني إلى «حوار الحضارات»، فقد تم «تشكيل لجنة من شخصيات إسلامية بارزة لإعداد استراتيجية وخطة عمل؛ لتمكين الأمة الإسلامية من مواجهة التحديات التي تواجهها في القرن الحادي والعشرين، في إطار ما اطلعت عليه القمة والوسطية المستنيرة». وتم إعلان ذلك في مؤتمر القمة الاستثنائي في مكة المكرمة، الذي عقد في أواخر عام 2005، وبما أن مقترح هذا التقسيم الجديد للوسطية جاء من المجال السياسي، فعلينا أن نتوقع أنه متأثر جداً بمفهوم «الوسط» السياسي المعروف، والذي نشأ في فرنسا مطلع القرن وأصبح من المصطحات السياسية المتداولة عالمياً في المجال السياسي، ومعروف أن «الوسط» في المفهوم السياسي يمكن أن يكون «يسار الوسط» أو «يمين الوسط» وحتى «وسط الوسط».
ليست مشكلة المصطلح دخول معركة التجاذبات المفهومية والشرعية وحسب، فهذه المعركة سنّة إلهية لا يملك أحدٌ لها دفعاً، إذ ثمة ظاهرة أخرى متممة للظاهرة الأولى، وهي ظاهرة الابتذال التي تصيب عادة المصطلحات الكبرى بالتسطيح عندما تبدأ بالنزول إلى أوساط العامة والجماهير لتلتف حولها، إذ لا تقدر الجماهير على استيعاب الجدال الفكري والفقهي المعقد، وتكتفي بطبيعتها بالاختصار والتبسيط الشديد. ويلعب دور الوسيط هذا نمط من صغار الدعاة وأنصاف المثقفين، هؤلاء الذين لهم منزلة وسط تسمح لهم بالاتصال بالنخبة العالمة والجماهير في وقت واحد، وبالتالي القدرة على تسويق هذه المفاهيم وجمهرتها. وتكاد النسخة الشعبية لـ «المصطلح» تفقد معنى الجدال «العلمي» حولها، إذ يستعمل المصطلح في صغائر الأمور وكبائرها، حتى يوشك أن يفقد معناه بالمرة. هكذا يجرى الأمر الآن لمصطلح «الوسطية» ما بين التجاذب المفهومي والشرعي والجمهرة, بالتأكيد فإن الأمر نفسه حدث من قبل مع مصطلحات كبيرة أخرى، مثل «الحضارة»، حتى كاد المرء لا يسمع كلمة حضارة أو يقرأها في عنوان خطاب أو نص ما إلا وينتابه شعور بالبساطة والابتذال. وربما هذه الأيام يحدث مع مصطلح «الإرهاب» بعد أن أفلته السياسيون من عقاله ليطاول معارضيهم ويدخل بوتقة الإعلام التي تلعب دور تسطيحه وجمهرته، وأذكر أن مصطلح «الثورة» الذي نقله إلينا الماركسيون بحماسة منقطعة النظير في الخمسينات تلقفه الإسلاميون في الستينات والسبعينات ثم منحته الثورة الخمينية زخماً خاصاً ومن كثرة تداول المصطلح بين المثقفين وأنصافهم وجمهرته فرغ من معناه كلياً، فقد أصبح كل تغيير أو إصلاح يجب أن يكون بـ «الثورة»! كما لو أن هذا المصطلح أصبح مفتاحاً سحرياً لحل الأزمات، حتى تحول مصطلح «الثورة» في نهاية المطاف إلى لفظ غير مفيد لدى الماركسيين قبل غيرهم من الإسلاميين وسواهم.
أن يثار الاهتمام فجأة بمصطلح ما ويدور النقاش حوله ويدخل معركة التجاذبات أمر يدعو الى التفكير والتساؤل عن سبب ظهور المصطلح وتداوله بهذه الكثافة غير المسبوقة، ولم يشهد هذا المصطلح تأريخاً دقيقاً بعد، وهذا لا يعني حقيقة وجود بعض الإشارات العابرة لذلك، ولكنها تبقى مجرد إشارات.
وفي ما يتصل بـ «الوسطية، فإنه يفتقد عموماً الخطاب الإسلامي في السبعينات لمصطلح «الوسطية»، ونكاد لا نعثر البتة على هذا المصطلح، وفي مطلع الثمانينات بدأ المصطلح بالظهور في شكل متدرج، لم يكن بعد قد استعمل بعيداً من دلالته اللغوية. وفي ظني أن كتابات الشيخ يوسف القرضاوي هي الكتابات المؤسسة لهذا المصطلح، وخصوصاً كتابه «الصحوة الإسلامية: بين الجحود والتطرف» (1982)، الذي لقي وقتها إقبالاً وشهرة منقطعي النظير، وأعيد طبعه مرات عدة خلال عام واحد، وفي هذا الكتاب يخصص فصلاً مختصراً بعنوان «دعوة الإسلام إلى الوسطية» يتحدث فيه في بضعة سطور عن وسطية الإسلام، وأن «الوسطية إحدى الخصائص العامة للإسلام»، وعلى رغم أن المصطلح بدأ منذ ذلك الوقت (أعني مطلع الثمانينات) بالانتشار.
الملاحظتان الرئيستان هنا، أولاً: المصطلح ظهر في سياق «مواجهة» التطرف والعنف الذي أصبح نهجاً للكثير من الحركات الإسلامية منذ منتصف السبعينات في مصر وسورية وفلسطين، وبدأ بجذب الشباب المتدينين في ظل حالة الاستعصاء السياسي والتعامل اليساري الأصولي أو الاستئصالي مع الحركات الإسلامية والنزوع الديني في العالم العربي مع موجة المد القومي والماركسي. وثانياً: المصطلح مشحون بالانشغال السياسي، فهو عملياً نشأ من رحم المواجهة السياسية وظهر ليكون جزءاً من مواجهة سياسية فكرية محتدمة.
أضيفت إلى هاتين الملاحظتين ملاحظة أخرى؛ وهي أن مصطلح الوسطية لم يحمل في كتابات القرضاوي الأولى معنى التوسُّط بين شيئين (الإفراط والتفريط) بقدر ما كان يحمل معنى مواجهة التطرف الحركي والعنف، ويكاد معناه ينحصر في الدعوة إلى التعقل والتراجع إلى العمل السياسي السلمي. لا يعني هذا ان القرضاوي نفسه في ما بعد نحا بها منحى فكرياً مع كثرة تداول هذا المصطلح وميله الى التعميم والدخول في مختلف الحقول التي يغطيها الفكر الديني ومعارفه، ولهذا فهو عرف الوسطية أخيراً بأنها «التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين؛ بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه، ويطغى على قابله ويحيف عليه»، أي أن الوسطية بوصفها مكاناً بين رذيلتين (كما في التعريف الأرسطي لـ «الفضيلة») أصبحت مسلّمة يكاد لا يختلف عليها أحد.
وعلى رغم أن لحظة نشوء المصطلح تشي بالكثير من المسوغات السياسية لظهوره، وتطبع السياسة بصماتها في شكل واضح عليه، إلا أن الكتابات في ما بعد حاولت نفي الارتباط بين ظهور مصطلح «الوسطية» والعنف الذي مارسته بعض حركات الإسلام السياسي ووسم بـ «الأصولية»؛ إذ تمدد مفهوم الوسطية - كما أشرت - ليشغل مساحات أوسع في الفكر الإسلامي، وفي شكل خاص المساحة المعرفية والاجتماعية والأخلاقية.