/

 

 

مصائر مشاريع الإصلاح العربية: قضايا المرأة نموذجاً

عبد الرحمن حللي

. لا تفتأ التجارب تؤكد عقم المشاريع الحداثية العربية القائمة والمنافسة لنقيضها في الرؤى والتطبيق، دون أن يفلح منظرو النقيضين في فهم البنى الثقافية للمجتمعات والتنظير العلمي للإصلاح والتغيير بحيث لا يرتد بهم إلى نقطة البداية، وأبرز مؤشرات هذا العقم اعتبار المعنيين بالنقد والإصلاح أن الأشكال والقشور التي تعبر عن تيارهم في المجتمع هي مشروعهم الحقيقي وهدفه المنجز، ولئن أردنا أن نأخذ أمثلة على هذا العقم فهي كثيرة ولعل قضايا المرأة تعتبر من أبرز تلك القضايا التي تجاذبتها المشاريع المتناقضة في العالم العربي والإسلامي، وتبرز في شؤونها أشكال التحديث وقشوره قبل أن يظهر الجوهر الحقيقي للإصلاح المنجز الذي لا يرتكس إلى الوراء، فمما لا يحتاج إلى تأكيد ونقاش ما عانته وتعانيه المرأة من حيف وظلم في العالم العربي والغربي على حد سواء مع اختلاف النسبة في تجليات هذا الظلم وتسمياته والرؤى في تحليله وتفسيره، لكن واقع الحال يؤكد أن كثيراً من المجتمعات العربية التي تدعي التحديث والتطوير في شؤون المرأة والقوانين المتعلقة بها قد تطورت وتنامت العقلية الذكورية فيها وتم قبول الواقع الجديد في تلك المجتمعات على مضض مع حنين معلن رجالي ونسائي إلى ماض اجتماعي تقليدي يسيطر فيه الذكر رب الأسرة ويحفظ كيانها ويضمن الاستقرار النفسي والعائلي والأخلاقي في المجتمع، وهو حنين اجتماعي لا يرتبط برؤى أيديولوجية معينة، وقد يعبر عن احتجاج على تدهور أخلاقي تقود إليه قشور الحداثة المقحمة في مجتمع لم يألفها، فغدت كعضو جديد في جسد لم يتوافق مع أنسجته، فيما ينقلب هذا المشهد حجة لتطرف آخر يعتبر الحفاظ على الحال خيراً من إصلاح أخطاء قد يقود إلى أشياء غير مرغوب فيها.
هذا المشهد العربي المتشظي الذي يتجلى في مختلف نواحي الحياة، يعبر عن عجز مشاريع الإصلاح في فهم عقلية المجتمع العربي وتحديد أولوياته، فالتيارات النسوية الحداثية التي تناضل من أجل حقوق المرأة تحفر قبراً لمشاريعها عندما تنطلق من رؤية مغلقة تنظر برجعية إلى كل رؤية تخالف وجهة نظرها، وتحدد أولوياتها بما يتناسب وخلفياتها الأيديولوجية والسياسية لا بما تقتضيه الأهداف القريبة والقضايا الأهم، ففي الوقت الذي تشترك فيه مختلف التيارات الفاعلة في المجتمع على قضايا نسائية واحدة لا نجد نضالاً موحداً من أجلها، فالإسلاميون والحداثيون من الفاعلين في المجتمع لا يختلفون في أهمية تعليم المرأة وتعريفها بحقوقها المختلفة، وهم يعلمون أن التركيز على هذه القضايا المشتركة هو مفتاح كلٍ منهما لتحقيق أهدافه الأخرى المتعلقة بقضايا المرأة، لكن التعاون الذي يفترض أن يكون من أجل ذلك يتحول إلى معارك ومطاحنات في قضايا ثانوية بالنسبة لهذه القضية، مثل الإيغال في مطالب تعديل قوانين الأحوال الشخصية واستيراد آخر ما صدر في الغرب بهذا الشأن لتطبيقه في مجتمعات تتفشى فيها الأمية والجهل والقبلية ويحتل فيها الشرف مكانة تزيد على الدين والقانون، لقد تطورت قوانين الأحوال الشخصية والكثير من القوانين المتعلقة بالمرأة في عدد من البلدان وربما وفرت حماية قانونية شكلية لحقوق المرأة، لكن على أرض الواقع لم تتطور العقلية تجاه المرأة مقارنة مع فلسفة القانون، بل ربما كان القانون عائقاً وسلطة واقعية لا يرضاها الناس نظراً لأنها تتنَزَّل في مجتمعاتهم بالقوة ضمن سياقات لا تعبر عن رؤية الشريحة الأوسع في المجتمع، ولم يمهد له بما يؤدي إلى الاقتناع به وتطبيقه طوعياً، وبالتالي لن يحظى بالاحترام وسيصبح الجديد فيه رمزاً للنقمة على من جعل من أجله.
إن منهج المقايسة الذي يتبعه طرفا النقيض من مدعي الإصلاح في العالم العربي هو سر العقم المزمن الذي يتخبطون فيه، فمعظم الإسلاميين لا يرون الإسلام إلا من خلال رؤى أحادية حصرية مغلقة ترى الإسلام من خلال ما كان لا ما ينبغي أن يكون، والإصلاح الذي يتطلعون إليه هو العودة إلى نموذج تاريخي أو تطبيق نظرية غير واضحة على الورق تجاه قضايا العصر والعلاقة مع العالم، بغض النظر عن الشروط الزمانية والمكانية التي لا يمكن تحقيق أي هدف من غير الوعي بها، وكذلك الحداثيون بدأوا ولا يزالون يستوردون من الغرب نظرياتهم على أنها مسك الختام وبلسم الشفاء لأدواء المجتمع وما إن يطبقوها حتى تسقط في موطنها وتكتشف أخطاؤها، سواء في ذلك على الصعيد النظري أو العملي.
لقد غدت معظم تيارات الإصلاح في المجتمعات العربية أسيرة نزعتين، أولى تشدها إلى الوراء حيث التاريخ الحضاري والإرث الثقافي وما يعبر عنه بالأصالة، ونزعة ثانية تلح على مسايرة العصر الذي هو في واقع الحال التيار المهيمن عموماً وهو الرؤى والنظريات الغربية وما يعرف بالحداثة، وأصحاب النزعتين يتبادلون التهم المناسبة لكل كالانغلاق والتقليد والرجعية أو التغريب والتفسخ وعدم الثقة بالنفس، وللخروج من تهم الفريقين ظهر تيار آخر يدمج بين حسنات كل في عناوين المشاريع والخطابات فاجتمعت كلمات مثل الأصالة والحداثة والتقليد والتجديد في تنظير مشاريع الإصلاح، وهي شعارات من علامات الداء فيما نرى، أياً كانت خلفياتها، فالخطاب المشحون بهذه المفردات لم يخرج بعد من عقدة المقايسة ولم يدخل بعد في غور القضايا المشكلة التي تستدعي حلاً من صميمها، ومن القيم التي تحكم مسيرتها، فالإصلاح يحتاج إلى تحليل وتدقيق وتنظير علمي وتطبيق عملي هو أبعد ما يكون عن الشعارات، ولا تعبر عن جدواه غير التغيرات الإيجابية الملموسة.
 

 
 

 

 

05-06-2005 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=355