/
رينيه غينون و التقليدية التكاملية ( 2 )
محمد عادل شريح
. القسم الثاني
4. التقليدية و نهاية الزمان إذا ما أردنا أن نعرّف غينون و أعماله لقلنا أن أفضل تعريف له هو التالي : إنه إعلان صريح يقوم به أحد أبرز ممثلي الوعي التقليدي في القرن العشرين مؤكداً أن ساعة النهاية قد اقتربت و أنه لم يعد يفصلنا سوى فترة قصيرة عن ظهور الشخصية القيامية المركزية التي تسمى " ساوشبانتا " في الزردشتية و "كالكي " في الهندوسية و " بانتوكراتر " في المسيحية و الذي هو المهدي في الإسلام والذي يكون ظهوره إعلاناً لنهاية الدورة الكونية و راية تلتف حولها كل القوى التقليدية استعداداً للمعركة النهائية بين الضد و ضده ، بين الخير و الشر بين النور و الظلام بين الحق و الباطل بين الحقيقة و الوهم بين المسيح و المسيح الدجال. وهو في نفس الوقت دعوة لبدأ العمل من أجل تأسيس النخبة التقليدية على المستوى الكوني لمواجهة النخبة المضادة للتقليد التي أظهر غينون للملأ وجودها و التي يسميها القرآن الكريم تسمية تجلى مكنونها و حقيقتها حيث يسميهم " أولياء الشيطان " و قد أوضح غينون في صيغة لا تدع مجالاً للشك مدى واقعية و حقيقية مثل هذه التسمية التي ربما كان الكثيرون يفهمونها في إطار مجازي. و لتحقيق هذا الهدف فقد عمد غينون إلى قضيتين اثنتين ، أولاً: إعلان الحقيقة التقليدية بنسبة من العلنية و الوضوح لم يسبق لها مثيل في تاريخ الفكر التقليدي ليكون هذا الإعلان منارة تهتدي بها النخبة التقليدية في عصر الظلام و اختلاط المفاهيم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد قام غينون و لأول مرة ربما بتقديم نظرية الوجود الدورية _ التي أشرنا إليها مجرد إشارة ولم نعطها حقها _ بطريقة من الوضوح لم يسبق لها مثيل، قي حين كانت هذه التعاليم محاطة بسرية تامة و لا يعرف عنها سوى معلومات سطحية و شكلية. ثانياً : قام بتوضيح البعد القيامي لأزمة العالم الحديث و بين طبيعة القوى التي تقف خلف تعميق مسارات الموقف الحديث، و قد فعل ذلك أيضاً بوضوح لم يسبق له مثيل. إن وضوح غينون و صراحته في إظهار حقائق التقليدية وأعداء التقليد لا يشكل خروجاً عن القاعدة التي كانت تحكم حملة الوعي التقليدي و التي كانت تنص على ضرورة إبقاء هذه المعلومات بعيداً عن متناول الجهلة و الفضوليين، إنما هي تعبير عن حقيقة ميتافيزيقية قيامية أساسية مفادها أن تطورات الموقف القيامي سوف تؤدي إلى اتضاح الحقيقة و نقيضها إلى درجة الفرز الكامل و التام بين معسكرين أحدهما هو معسكر الحقيقة متمثلاً شخص المسيح عليه السلام في عودته و تنزله،و الآخر هو معسكر الحقيقة المقلوبة و المزيفة متمثلاً في شخص المسيح الدجال الذي يمثل الوجه المعاكس و المزيف للحقائق الكونية الكبرى. و قد أوضحنا مسارات تطور الموقف القيامي من وجهة نظر التقليد و كما عبر عنها غينون من خلال النظرية الدورية، و سوف نقوم بنقل ما أوضحه غينون من معلومات قيمة لتطور الموقف القيامي على الجبهة المضادة للتقليد . يوضح غينون في كتبه و خاصة منها كتابه "مملكة الكم و علامات الزمن" العوامل التي تساعد في ظروف العصر الحديث، على دفع الإنسانية نحو النهاية المحتومة و يحددها بعاملين هما التصلب أولاً و الانحلال ثانياً، من ثم يقوم بشرح مفصل لكل واحد من هذه العوامل . أولاً _ التصلب: و هو انتشار المادية وهيمنتها على كافة مظاهر الحياة الفكرية و الاجتماعية والاقتصادية و السياسية و الأخلاقية، بل امتدادها لتصبح مهيمنة في المجال الكوني بأكمله عبر ما يسميه غينون ظاهرة " التحجر " أو " التصلب الكوني " و الذي عبر عنه بالانتقال الكلي للوجود من النوع إلى الكم، و الذي تعبر عنه التعاليم الهندوسية من خلال انتقال الوجود الكوني بأكمله عبر مراحل " المنفانتار " الأربعة من هيمنة عنصر إلى آخر، لأن كل مرحلة من مراحل "المانفانتار " تتسم بهيمنة عنصر (أو أكثر تبعاً للمدة الزمنية لكل مرحلة) من العناصر و التي هي الأثير و الهواء والنار و الماء و التراب ، حيث تكون هيمنة عنصر التراب على المرحلة الأخيرة من الدورة " الكالي يوغاً " هيمنة كاملة تؤدي إلى ما أسماه غينون ظاهرة " التصلب الكوني " . و يشير غينون إلى أن مادية العالم الحديث لم تكن ممكنة أصلاً لولا هذا التصلب الكوني، و لكان الواقع المباشر للحياة قادراً على تقديم حججاً دامغة في كل لحظة على استحالة الفهم المادي للوجود. يقول غينون موضحاً هذه الفكرة في كتابه مملكة الكم و علامات الزمن :(5) " كما ذكرنا في مناسبات عديدة فإن النظام الإنساني و النظام السماوي الكوني، غير منفصلين في الواقع كما يتصورون في أيامنا هذه بكل سهولة، إنما هم على عكس ذلك مترابطين بطريقة تجعل كل منهم يستجيب بشكل دائم للأخر …… علاقة الترابط هذه تظهر من خلال تزامن الأزمات الإنسانية في التاريخ و الكوارث الطبيعية ، هذا التزامن الذي يرتبط بفترات فلكية محددة . و بما أن الأمور على هذه الحال ، فمن الطبيعي أن يكون مسار التطور الدوري للصيرورة الكونية بشكل عام و للوعي الإنساني المحتوى ضمناً في هذه الصيرورة ، يتبعان خطاً انحدارياً واحداً وصفناه بأنه ابتعاد متدرج عن المبدأ ، أي عن الروحانية البدئية الأولى التي تمثل القطب الجوهري للصيرورة والظهور. إن هذه الحركة يمكن و صفها مستفيدين من مفاهيم اللغة اليومية التي تصف بدقة ما نتحدث عنة بأنه " التشيئ المادي " المتنامي للبيئة الكونية بأكملها. و فقط عندما يصل هذا التشيئ المادي إلى أعلى مستوىً من التحقق، يمكن أن تظهر في عالم الإنسان، تبعاً لذلك، المقولة النظرية المادية …… وبدون هذه المادية المتحققة واقعاً لم يكن للمادية النظرية أي مصداق ذلك لأن الواقع المحيط كان سيقدم لنا في كل لحظة أدلة دامغة تدحض هذه المقولة . إن فكرة المادية كما يفهمها الحداثيون ما كان لها أن تولد إلا في هذه الظروف، و مع ذلك فإن ما تقدمه هذه النظرة المادية من تصور مشوش و غير واضح في كثير من الأحيان لما يمكن أن يكون عالماً مادياً، ما هو إلا ذلك الحد الذي لا يمكن للحركة الانحدارية أن تصل إليه أبداً كتحقق فعلي و واقعي …… بكلمة أخرى نقول بأن المادية يمكن أن توجد كنزعة أو كاتجاه ، لكن المادية كتحقق فعلي و نهائي لهذه النزعة هي حالة مستحيلة و غير قابلة للتحقق أصلاً(6) …… و على هذا الأساس يمكننا أن نشير من الآن فصاعداً إلى عملية الظهور و الصيرورة على اعتبار أنها عملية " تصلب " ذلك لأن الأجسام الصلبة بحكم كثافتها و عدم قابليتها للنفاذ تعطي أكثر من أي شيء آخر وهم المادية …… و نضيف بأن هذا التصلب هو السبب الحقيقي لنجاح العلوم الدنيوية الحديثة ، على مستوى التطبيق العملي ، لا على المستوى النظري الذي لا يصبح بهذا النجاح أقل خطأً مما هو عليه ، ففي ما مضى من العصور عندما لم يكن التصلب الكوني قد و صل إلى حدوده الحالية، فإنه و خلافاً لأن الإنسان لم يكن لتخطر في مخيلته الصناعة الحديثة كما تمارس اليوم ، فإن هذه الصناعة ذاتها كانت مستحيلة و غير قابلة للتطبيق أصلاً، لا هي و لا كل ما اعتدنا أن نسميه "نمط الحياة العادية " التي تحتل فيها هذه الصناعة مكانة مرموقة. و بالمناسبة نشير إلى أن ما ذكرناه يكفي لتفنيد كل تصورات الحالمين " ذوي الرؤية الثاقبة " الذين يتخيلون الماضي من خلال النموذج الحاضر فيقومون بإعطاء بعض حضارات عهود ما قبل التاريخ الموغلة في القدم سمات و خواص مشابهة لواقع الحضارة الصناعية الآلية، و هذه إحدى الأغاليط التي تنتمي إلى ما تعبر عنه المقولة المشهورة من أن " التاريخ يعيد نفسه " التي تنطوي على جهل تام لما أسميناه السمة النوعية للزمان . و لكي نصل إلى واقع التصلب الذي وصفناه سابقاً ، كان لا بد من تحقق ما أسميناه " بالتشيئ المادي " أو " التصلب " في الإنسان نفسه ، كما هو متحقق في البيئة الكونية ، هذا التحقق الذي يؤدي إلى تغيير التركيب " الفيزيولوجي _ النفسي " للإنسان ، و يقود إلى فقدان الإنسان خبرة استخدام المقدرات التي تتيح له بشكل عادي أن يرتقي و يتجاوز حدود العالم الحسي …… بالرغم من كل ذلك ، و مهما تكرست حالة التصلب الكوني لن تصل أبداً إلى التحقق الكامل فهناك حدود لا يمكن لها أن تتجاوزها مطلقاً ، لأن تحقيقها الكامل و النهائي لا يتوافق مع حقائق الوجود حتى و هو في أدنى مستوياته" . ثانياً _ الانحلال : إن الانحلال و إن كان بمعناه و مضمونه هو عكس ما أسميناه بالتصلب ، إلا أنه يرافقه بالضرورة من ثم ليتجاوزه و يصبح مهيمناً ، ذلك لأن النهاية تفترض نوعاً من الانحلال ، و يرى غينون أن هيمنة هذا الانحلال قد بدأت مع تراجع و تبخر مفهوم المادة كما أقرته الفيزياء الحديثة و اعتمدته منها الفلسفة الحديثة، عن هذا الانحلال يقول غينون في " مملكة الكم و علامات الزمن " " لقد لعبت المادية دورها ، و قد كان دوراً هاماً بدون شك ، لكن سمة النفي التي تميزت بها المادية لم تعد كافية الآن ، فقد قامت بدورها في إغلاق منافذ الإنسان نحو العالم العلوي ، لكنها لم تفتح المنافذ لدخول قوى العالم السفلي هذه القوى التي تستطيع أن تصل بالانحلال إلى أقصى مداه " . هذه القوى التي يتحدث غينون عن تأثيرها قائلاً : " إننا نعني تأثير قوىً تنتمي إلى نسق العالم اللطيف ، هذه التأثيرات التي بدأت تدخل فعلياً في الحياة الحديثة منذ فترة بعيدة ، على الرغم من أن هذا الدخول سيتم بداية بشكل غير ملحوظ، و قد ترافق مع البدايات الأولى للتكون النظري للمادية كما رأينا ذلك في مثال المغناطيسية(7) و الروحانية ، إذا ما استخدمنا التسميات التي دخلت فيها هذه الظواهر مجال " الخرافات العلمية " لذلك العصر الذي ولدوا فيه . و كما قلنا سابقاً ، إن تراجع المادية يجب أن لا يدفعنا للابتهاج و لتهنئة أنفسنا ذلك أن الانحدار الدوري لم ينته بعد و أن " الثقوب " التي ذكرناها سابقاً و التي سنعود لتوضيحها لاحقاً يمكن لها أن تتكون فقط من الجهة السفلية، بمعنى آخر ، إن ما يمكن أن ينفذ من خلال هذه الثقوب إلى العالم المحسوس لن يكون شيئاً آخر سوى " الطاقات النفسية الكونية الدنيا "(8) الأكثر تهديميةً و ضرراً ". من أبرز سمات مرحلة الانحلال كما يشير غينون ، هي بروز تيارات الروحانية المزيفة و التقليدية المزورة أو المعكوسة التي يسميها غينون بالتقليدية المضادة، لذلك فقد اهتم غينون اهتماماً شديداً بهذه الظاهرة، و هو يشير إشارات عابرة إليها في كتابه " أزمة العالم الحديث " لكنه يستعرضها بالتفصيل في كتابين هما " التيوصوفيا تاريخ إحدى الديانات المزورة " و " أوهام الروحانيين " . و تيار الروحانية الجديدة هو تيار يمتد من التيوصوفيا المتمثل ب " بالافيتسكايا و آنا بيزنت و رودلف شتاينر " مروراً بالأشكال المختلفة للتعاليم الشرقية المزورة التي تنتشر في الغرب كتعاليم كرشنا و التعاليم البوذية المزورتين ، و مروراً أيضاً بالجمعيات الشعائرية المختلفة في الغرب وجمعيات التعاليم السحرية و صولاً إلى حركة " العهد الجديد الأمريكية " المعروفة باسم " النيو إيدج " و لعل أقرب مثال لهذه الجماعات التي انطلقت من الشرق الإسلامي هو " البهائية " و "القاديانية" . لقد جاء انتشار و توسع نشاط هذه الاتجاهات _ خاصة في الغرب _ بعد وفاة غينون تأكيداً لما أشار إليه من أن هذه الجماعات ستلعب دوراً أساسياً في ما أسماه مرحلة الانحلال و الخلط التي تأتي بعد مرحلة التصلب و المادية و التي تتبدى من خلال الانجذاب العام والاندماج في روحانية مزورة تترافق مع تسلل مخلوقات ما دون إنسانية إلى عالم الإنسان تسمى في الهندوسية " كوكي ماكوكي " وفي اليهودية و المسيحية " غوغي ماغوغي " وفي الإسلام " يأجوج و مأجوج " و ذلك لكي تقوم نهائياً بتخريب و تشويه النموذج النفسي الإنساني العام و تحويل الإنسانية إلى حشد مسلوب الإرادة ومسّير كقطيع غنم نحو الهاوية، هذه الخطوة التي يجب أن تسبق ظهور المسيح الدجال و تهيؤ له . إن تيارات الروحانية الجديدة بكافة أشكالها هي تعاليم مضادة للتقليد بل هي تقليدية مقلوبة وهي تقوم بدور أساسي في تحضير القوى المعادية للتقليد و المعادية للإنسان لانتصارها على الأرض وتقف اليوم كما أشار غينون قبل المادية على رأس معسكر القوى المعادي للتقليدية، و لذلك فإن غينون لم يدع مجالاً للشك أو التردد في أن عدو الإنسانية الأكبر هو الذي يقف وراء هذه التيارات وأنها تيارات شيطانية بكل ما تحمله الكلمة من معاني مباشرة وواضحة و صريحة سواء كان ذلك بشكل مدرك أو غير مدرك .
5. التقليدية .. و التقليدية المضادة إن مرحلة الانحلال التي وصل إليها العالم الحديث هي الهم الأساسي الذي تدور حوله معظم أعمال غينون ، بل إن من يطلع على أعماله يشعر و كأنه كان يرى رسالته في الحياة هي تنبيه الغرب إلى واقع الانحلال المتمثل في الحضارة الحديثة ، و قد عالج غينون هذا الموضوع من وجوهه المختلفة ، عالجه تاريخياً من خلال توضيح مكان العالم الحديث في الدورة الكونية ، التي تسير في خط انحداري من المبدأ الأول وصولاً إلى أبعد نقطة ممكنة عن هذا المبدأ . كما عالجه فكرياً من خلال توضيح المنطلقات الفكرية للحداثة بدأً من عصر النهضة ، لكن الجانب الذي انفرد به غينون و تميز هو تلك المعالجة التي يمكن أن نسميها " ميتا تاريخية " ، و نعني بذلك تلك القوى التي تقف وراء الأحداث التاريخية ، و قد قدم غينون على هذا الصعيد معلومات غاية في الأهمية، و غاية في الغرابة بالنسبة لمن غرق حتى أذنيه في المفاهيم الحديثة للتاريخ والمجتمع و السياسة، و نسي تماماً أن الحياة الإنسانية هي امتداد بين قطبين أساسيين هما القداسة و الرجس، النور و الظلمة، الحقيقة و الوهم، و النظام والفوضى . إن التاريخ الإنساني بأكمله إذا ما نظرنا إليه نظرة عامة بعيدة عن التفاصيل و بعيدة عن الجدل الكلامي العقيم حول التسيير و التسخير ، فما هو إلا تعبير عن إرادة إلهية محكمة و مسبقة تمثل ما يمكن أن نسميه، إذا ما لجئنا إلى تعابير اللغة العادية _ كما يفعل غينون عادة _ مخطط الوجود العام ، هذا المخطط الذي تلعب فيه الإنسانية دورها المحدد ( و المتميز حقاً ) جنباً إلى جنب مع أدوار أخرى تقوم بها مخلوقات إما فوق إنسانية ( ملائكية ) أو دون إنسانية ( شيطانية ). و إذا ما كان الوجود الكوني هو انتقال عبر الدورة بأكملها من النوع إلى الكم و من الجوهر إلى الشكل أو المظهر، فإن التاريخ الإنساني بشكله العام هو انتقال عبر الدورة الوجودية من الحالة الأقرب إلى الملائكية للإنسان التاريخي الأول ( آدم الأول ) إلى حالة السقوط و التدني إلى مستوى الوجود المادون إنساني ( حالة السقوط الشيطاني ) كيف يتحقق تأثير كل من قطبي الوجود الإنساني في التاريخ الآني و الفعلي للإنسانية ؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من توضيح مفهوم مركزي في منظومة غينون الفكرية و هو ما يسميه باللاتينية " Initiatio " و الذي سنقوم بترجمته إلى العربية باسم " الطقوس التنويرية"(9). التنويرية _ هي مجموع الإجراءات السرية المقدسة التي تعطي للشخص الإنساني إمكانية الخروج الكامل من الحدود الزمنية و المكانية التي تحدد الوجود التاريخي للبشرية. إن هذه الإمكانية تصبح إمكانية فعلية بشرط استكمال الارتقاء و التحقق الروحي لهذا الشخص الإنساني مما يؤدي إلى تفعيل كل القدرات و الطاقات الكامنة ، المتضمنة في الطقس التنويري . و ينقسم الطقس التنويري إلى قسمين : طقوس صغرى و طقوس كبرى ، حيث تكون وظيفة المرحلة الأولى هي إعادة الشخص الإنساني إلى الحالة البدئية " الآدمية " أو " الفردوسية " التي فقدها عبر التاريخ، إن غاية هذه المرحلة هي تحقيق الكمال الإنساني عبر تفعيل كل الإمكانات الإنسانية الأرضية الكامنة بشكل كامل . أما المرحلة الثانية و الأرقى فهي تقود الإنسان من " الفردوس الأرضي " إلى " الفردوس السماوي " ، إنها تنقله إلى عوالم ملائكية غيبية ، إلى مستويات ما وراء أرضية من مستويات الوجود الكوني . إن الطقوس التنويرية لها مرادفاتها في كل النظم التقليدية الحقيقية ، و هي على اختلاف تسمياتها تمثل الجوهر السري و المعنى الأعمق لهذه النظم ، و لكنها في نفس الوقت حالة خاصة و لا يصل إليها إلا المختارين ، لذلك فهي امتياز خاص للبنى الباطنية في النظم التقليدية لا الظاهرية منها . إن مرحلتي الطقوس التنويرية الصغرى و الكبرى يمكن ربطهم مع عالم النفس و عالم الروح ، إذ أن الطقوس الصغرى تحقق للنفس الإنسانية كمالها وصولاً لتحقيق النموذج الإنساني الأول ، في حين تنقل الطقوس الكبرى الإنسان إلى عوالم روحانية خالصة بعيدة عن الوجود الإنساني بأكمله ، إلى عوالم الغيب الإلهي . مقابل مفهوم التنويرية يقدم غينون مفهوماً معاكساً هو التنويرية المضادة Contor _ Initiatio ، هذا المفهوم الذي يقدمه غينون ، ربما لأول مرة بهذا الشكل من الوضوح و الصراحة . إن التنويرية المضادة هي مجموعة من الإجراءات الطقوسية التي تحقق للإنسان نقلة على ذات المستوى من الجذرية التي تحققه التنويرية، لكن هذه النقلة ذات اتجاه معاكس تماماً فهي تضع نصب أعينها غاية إخراج الإنسان من حدود المكان و الزمان و التاريخ، لا لإعادته إلى نقطة " الفردوس الأرضي " إنما لزجه في " الجحيم الأرضي " فإذا ما كانت التنويرية تنقل الإنسان إلى بداية التاريخ ، فإن التنويرية المضادة تنقله إلى نهاية التاريخ . و إذا ما كانت التنويرية توجه و تقود الإنسان نحو الإله ، فإن التنويرية المضادة توجهه و تقوده نحو الشيطان . أما المرحلة الثانية من التنويرية المضادة فهي تحقق انتقال من يخضع لها من مستوى الجحيم الأرضي " نهاية التاريخ " إلى جحيم العوالم السفلى ، أي أنها تنقله من نطاق النموذج الإنساني إلى عالم الكائنات المادون إنسانية . تجدر الإشارة إلى أن هناك تشابهاً ظاهرياً فيما بين التنويرية و التنويرية المضادة ، ذلك أن المرور عبر طقوس التنويرية المضادة يحرر صاحبه من الظرفية التاريخية و الجغرافية ، تماماً كما تحقق التنويرية هذه الحرية ، و إن المقدرات العامة التي تمنحها التنويرية المضادة شبيهة ظاهرياً بتلك المقدرات التي تمنحها التنويرية الحقيقية ، فكلا الطرفين قادر على صنع خوارق العادات . إن الفرق الجوهري بينهما يكمن في أن التنويرية تنقل الإنسان من واقع الإنسانية التاريخية إلى الجهة العليا نحو عوالم فوق إنسانية ليكتسب صفة من أسماهم القرآن الكريم " أولياء الله " ، أما التنويرية المضادة فهي تنقل الإنسان من واقع الإنسانية التاريخية إلى الجهة السفلى نحو عوالم ما دون إنسانية ليكتسب صفة " أولياء الشيطان " . إذا ما كانت التنويرية هي المحتوى الأعمق للتعاليم التقليدية، و التي هي بدورها صورة الحقيقة التقليدية الخالدة في الظرف الحضاري المحدد ، فمن أين تنشأ التنويرية المضادة وكيف؟ يجيب غينون على هذا السؤال بشكل تفصيلي في كتاب " مملكة الكم و علامات الزمن " حيث يوضح الظروف العامة لتاريخ التنويرية المضادة التي تقف في العصر الحديث وراء كافة أشكال العداء للفكر التقليدي. فعلى مدار التاريخ الإنساني كانت تتم عمليات تغير للصيغ و الأشكال التقليدية، فالنظم التقليدية كان يتم استبدالها بنظم أخرى جديدة تحتوي في مضمونها ذات الحقيقة الواحدة مقدمة بطريقة تتناسب و التغيرات التي تطرأ على الوجود الكوني و الإنساني ، و بما أن النظم التقليدية الجديدة هي نظم حقيقية و أصلية و تعبر عن الحقيقة التقليدية الأولى فإن الحقائق الجوهرية للمنظومة السابقة تكون متضمنة في التقليد الجديد إنما في إطار و صورة جديدة. لكن في بعض الحالات فإن بقايا الأشكال الخارجية للمنظومات التقليدية القديمة و التي تستمر في الحياة دون أن تندمج في التقليد الجديد و دون أن يكون لها أي ارتباط مع مبدئها الأول ، تصبح مجالاً حيوياً مناسباً لولادة التنويرية المضادة . كما أن الاضطرابات الداخلية في إطار المنظومة التقليدية تؤدي إلى انقلابات و تشوهات في البنى التقليدية و تقود إلى ظهور بقايا تقليدية مفرغة من محتواها تصبح كذلك مجالاً للتقليدية والتنويرية المضادتين. و لعل أبز مثال يقدمه غينون لهذه الاضطرابات هي ما يسميه ثورة " الكشاتري " ضد "البراهمانيين"(10) أي ثورة السلطة المدنية ضد السلطة الروحية . ضمن هذه الرؤيا يتحدث غينون عن دمار ما يسمى بحضارة الأطلنطد التي كانت حضارة تقليدية مزدهرة في ما يسميه علم التاريخ الحديث _ فترة ما قبل التاريخ _ و التي تعود إلى 10 آلاف عام فبل ميلاد المسيح ،فقد دمرت هذه الحضارة و اندثرت اندثاراً تامً نتيجة لانحلالها و سقوطها ، إلا أن جزءاً كبيراً من التراث الروحي لهذه الحضارة انتقل إلى الحضارات المصرية والكلدانية ، كذلك فقد انتقلت من هذه الحضارة البائدة بعض بقايا التقليدية المضادة . و ضمن هذه الرؤيا أيضاً يتحدث عن الحضارة المصرية التي كانت في عهودها الأولى حضارة تقليدية مزدهرة ومن ثم انحطت نتيجة لعدم التوازن الداخلي ، فقد تطورت في هذه الحضارة العلوم و المعارف تطوراً كبيراً إنما كان هذا التطور على حساب ضياع و هدر الحقائق الميتافيزيقية البحتة مما قاد في النهاية إلى اندثار هذه الحضارة ، و قد عادت الكثير من حقائق و معارف هذه الحضارة " العلوم الهرمسية بشكل خاص " للظهور مرة أخرى في التعاليم الباطنية اليهودية و المسيحية و الإسلامية . أما المستويات الدنيا من هذه الحضارة فقد تحولت إلى بقايا حاملة للتقليدية المضادة . و هذا ما حصل أيضاً في التقاليد اليونانية مع نهاية الألفية الأولي قبل الميلاد نتيجة لضياع الحقائق الميتافيزيقية البحتة ، و في هذه الفترة بالذات يرى غينون بداية الانحرافات التي قادت إلى الحضارة الدنيوية الحديثة . إن بقايا التقاليد البائدة و التي تشكل بؤراً للتقليدية المعادية، تتحول مع الزمن إلى جمعيات و منظمات سرية شيطانية المضمون و الغايات و تصبح مراكز لإعداد النخبة المضادة للتقليد من خلال الطقوس التنويرية المضادة. إن فكرة المؤامرة في فهم التاريخ بدأت تأخذ حيزاً كبيراً من اهتمام بعض الباحثين و رجال الدين و غيرهم خاصة بعد انتصار الثورة البرجوازية في فرنسا و إلغاء الملكية، لكن هذه النظرية كانت في كثير من الأحيان تأخذ أشكالاً خيالية و ساذجة، و على الرغم من أن غينون لم يكن باحثاً في التاريخ و لا صاحب نظرية محددة في هذا المجال لأن اهتمامه الأساسي كان منصباً على توضيح الحقائق التقليدية الميتافيزيقية الأساسية، إلا أن ذلك لا يمنع من أن طرحة لمفهوم التنويرية المضادة و دورها في الانحطاط الحديث ، قد أزال الكثير من الأوهام المتعلقة بمفهوم المؤامرة، و أعطاه بعداً ميتافيزيقياً . على الرغم من اهتمام غينون بالخلفيات و المبادئ الميتافيزيقية الأساسية التي تمكن المهتمين فيما بعد من استنتاج الحقائق التفصيلية، إلا أنه يقدم معلومات تفصيلية في غاية الأهمية حول الأطراف التي تلعب دوراً تنويرياً مضادا في العصر الحديث. فقد تحدث عن دور اليهود و الفرق اليهودية، مؤكداً قبل كل شيء على خطأ الآراء السائدة في أوساط المدافعين عن المسيحية في الغرب، التي تنسب الدين اليهودي بشكل عام إلى التقليدية المضادة لأن اليهودية الأصلية هي تعاليم تقليدية أصيلة، و لكنه يشير إلى الدور السلبي الخطير الذي تلعبه التعاليم اليهودية المشوهة و يلعبه اليهود في العالم الحديث، كما يعيد التأكيد على أن المسيح الدجال سيكون يهودي الأصل . إن الدور الذي يلعبه اليهود يبدوا واضحاً من خلال ذلك النشاط الغير عادي لليهود في الحياة الفكرية و السياسية و الاقتصادية للعالم الحديث، و يذكر غينون مجموعة من الشخصيات اليهودية المعروفة في عالم الفكر مثل فرويد و برغسون و اينشتين ، فقد خصص في كتابه " مملكة الكم وعلامات الزمن " فصلين أحدهما لبرغسون و نظريته الحدسية المزيفة ، و الثاني لفرويد الذي يصرح غينون علانية عن حقيقة المضمون التنويري المضاد للتحليل النفسي الفرويدي ، و يشير إلى أن فرويد لم يخترع تعاليمه لوحدة، بل إنه استقى هذه التعاليم من جهات سرية تقليدية مضادة(11). كذلك يشير غينون في مقالاته المتعددة حول الماسونية إلى حقيقة هذه المنظمة التي كانت فيما مضى منظمة تنويرية تقليدية، تحولت مع الزمن و نتيجة لاختراقها من قبل عناصر تنويرية مضادة إلى منظمة معادية للتقليد، و مع ذلك فإنه من غير الصحيح مطابقة اليهودية أو الماسونية مع ما نعنيه بمراكز التنويرية المضادة على الرغم من أنهم يلعبون دوراً مهماً في العداء للتقليدية . و يذكر غينون أسماء العديد من المنظمات السرية التي تقوم بأدوار تنويرية مضادة ، منها "جمعية الأقصر للأخوة الهرمسية _ Hermetic Brotherhood of Luxor " و كذلك "جمعية الوردة والصليب الإنكليزيةSocietas Rosicruciana in Anglia "(12) وغيرها من المنظمات و الجمعيات السرية التي تلعب دور الوسيط بين العمليات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية الظاهرة و بين مجموعة من الأفراد يحتلون مواقع عليا في التراتبية الهرمية المعادية للتقليد، هؤلاء الأفراد هم من يحددهم غينون " كأولياء الشيطان " الذين يقومون بشكل واع و مدرك على خدمة ما أسماه " أبراج الشيطان السبعة " التي تمثل المرجعية العليا لكل التراتبية المضادة للتقليد(13)، و القائمة على تحقيق التنويرية المضادة في العالم . حول هذه الأبراج السبعة يقول غينون في إحدى رسائله ، إن هذه الأبراج " متوضعة جغرافياً على شكل قوس يحيط بأوروبا من بعد ، أولى هذه الأبراج تقع في منطقة نيجيريا ، هذه المنطقة التي كان يقال عنها في مصر القديمة بأنها موطن أشد السحرة بأساً و أكثرهم شراً ، و الثاني في السودان، أما الثالث فهو في بلاد الشام و الرابع في بلاد الرافدين ،و الخامس في آسيا الوسطى، أما الاثنين المتبقيين فيقعون شمالاً في سيبريا و منطقة الأورال، لكني لم استطع حتى الآن أن أحدد موقعهم الجغرافي بشكل دقيق". هذه هي مراحل انحلال العالم الحديث بمستوياتها المختلفة كما أوضحها غينون في كتاباته ، فبعد أن اقتربت المادية من إتمام دورها في إغلاق "البيضة الكونية" من الأعلى مغلقة الباب أمام إمكانيات نفاذ التأثيرات السماوية الملائكية إلى العالم، تأتي مرحلة الروحانية الجديدة كتقليدية مزورة و مزيفة لتلعب دورها في إعادة فتح "البيضة الكونية" إنما هذه المرة من الأسفل لنفاذ مخلوقات ما دون إنسانية، شيطانية الجوهر، و لمرور فبائل يأجوج و مأجوج . في هذه المرحلة يكون التناقض قد وصل إلى حده الأعلى، و تكون حالة الفرز قد أصبحت واضحة للعيان، و تكون الشروط قد اكتملت لتتويج المسيح الدجال ملكاً على مملكة الكذب و الخداع. إن غينون يصرح بشكل واضح أن وراء العالم الحديث تقف تنظيمات و جماعات تنويرية مضادة، على رأسها أشخاص يمكن بصعوبة أن نسميهم مخلوقات بشرية، هم خدمة و أدوات المخطط الشيطاني "أولياء الشيطان" ، و على رأسهم عدو الإنسانية الأول و الأكبر ، منذ اللحظة التي قال فيها الله عز و جل (إني جاعل في الأرض خليفة).
6. رينيه غينون و العالم العربي لقد كتب غينون معظم أعماله باللغة الفرنسية، و هو لم يخل بهذه القاعدة أثناء إقامته في مصر حيث كتب مجموعة من أهم أعماله، و قد كان يقوم بنشر أعماله في أوروبا حصراً ، ذلك أنه كان يرى مهمته و رسالته الأساسية هي تنبيه الغرب إلى حقائق كان قد نسيها نتيجة لابتعاده عن الفكر التقليدي و عن تقليده الخاص المتمثل بالمسيحية. ولكن هل لنا أن نقول أن رينية غينون هو شخصية لها أهميتها الفكرية في الغرب فقط ؟ ليس هناك من شك في أهمية غينون بالنسبة إلى الغرب ، و لعل الفرنسي جان روبين كان محقاً في كتابة الذي أسماه " غينون _ فرصة الغرب الأخيرة " ، وكذلك كان غينون محقاً حين اعتبر أن خط العداء المطلق للتقليد يأتي من الغرب و أن الشرق لا زال محافظاً على الوعي التقليدي و الحقيقة التقليدية على الرغم من تراجع الفكر التقليدي و انحسار تأثيره في الشرق نفسه. و لكن ذلك لا يلغي أهمية غينون بالنسبة إلى الشرق بشكل عام و بالنسبة إلى الشرق الإسلامي بشكل خاص و ذلك للأسباب التالية : أولاً _ إن غينون هو ممثل الشرق و بتحديد أكبر هو ممثل الإسلام و التصوف الإسلامي الأكثر شهرة و تأثيراً في الغرب و قد كان له دور كبير في إعطاء صورة جديدة و واقعية للتصوف الإسلامي مغايرة تماماً لتلك التي رسمها المستشرقون ، لقد لفت غينون أنظار المثقفين و الباحثين عن الحقيقة في الغرب إلى أن الإسلام هو الحقيقة التقليدية الخالدة في آخر تجلياتها، و أنه التقليد الذي حافظ على وحدة الحقيقة في الظاهر و الباطن و أن خاتمية هذا الدين تعني شموليته و اتساعه للحقيقة التقليدية الممتدة في الدورة الوجودية بأكملها . و على الرغم من أن غينون لم يكن داعية بالمعنى المعتاد، إلا أن اعتناقه للإسلام هو و العديد من تلامذته، نذكر منهم ميشيل والزان و فريتوف شيون و تيتوس بوكهارت و كلاوديو موتي و غيرهم كان له أثرة الكبير في فتح ثغرة كبيرة في جدار الأكاذيب الإعلامية التي نسجها الغرب عن الإسلام ، ثغرة نفذ منها و لا زال ينفذ الكثيرون في الغرب من حضارة الوهم و الخداع إلى عالم الحقيقة التقليدية الخالدة. و إذا ما كانت النخبة المثقفة في الغرب قد عرفت من هو الشيخ الصوفي الكبير عبد الواحد يحيى و أعطه حقه من العناية و التقدير ، فقد آن الأوان لكي يتعرف الشرق الإسلامي على رينيه غينون فارس الفكر التقليدي في القرن العشرين . ثانياً _ إن غينون هو رد الثقافة التقليدية على تناقضات الحداثة و أزماتها ،إنه الرد الواضح والصريح الذي لم يلجأ إلى الاحتيال على المبادئ و التملق المذل لزخرف المدنية الغربية الحديثة عبر محاولات البحث عن القواسم المشتركة المزعومة فيما بين الحضارة التقليدية و نقيضها الذي هو العالم الحديث، إنه الرد الشجاع الذي لم يخشى الإعلان عن أن هذه المدنية بكل زخرفها هي أقصى ما يمكن أن يصل إلية الانحطاط الإنساني في نهاية الدورة الكونية نتيجة لابتعاد الوجود عن مبدئه الأول أقصى درجات الابتعاد . لقد استمد غينون هذه الشجاعة الفريدة من خلال ملامسته المباشرة لحقائق الوجود الكبرى التي تصل في الشمولية و العمق إلى درجة لا يمكن للصيغ الفكرية الكاريكاتورية الحديثة أن تتخيله أصلاً، إن الرويبضة الذي ينطق في آخر الزمان لن يدرك من وجوده الإنساني سوى ذلك البعد الذي يؤكد نظرية داروين، و إن العامة التي تطلب العلم لا عند أهله لن تدرك أبداً معنى قوله تعالى " إني جاعل في الأرض خليفة" إن الحضارة الغربية الحديثة و الموقف منها قد شغل الفكر العربي على مدار القرنين الأخيرين و لا يزال لهذا الموضوع أصداءه و امتداداته في الحياة الفكرية العربية دون أن يكون هناك منهجية واضحة لمعالجة هذا الموضوع. إن غينون يقدم لنا هذه المنهجية التي تستطيع أن تخرج البحث التاريخي والحضاري الإسلامي من مأزقه الذي وقع فيه نتيجة لتبنيه وجهة النظر الغربية التطورية و التقدمية في التاريخ، إنه يعيدنا إلى أهم سمات النظرة التاريخية الإسلامية المتمثلة بالصيرورة القيامية للرؤية التاريخية و الحضارية. فالإسلام هو الدين الخاتم و الأمة الإسلامية هي التي شاءت الإرادة الإلهية لها أن تلعب دوراً أساسياً في الأحداث العظام التي ستقع في نهاية الزمان ، و بالتالي فإن التخلي عن الصيرورة القيامية في فهم الأحداث التاريخية و تأويلها هو تخلي عن المفتاح الصحيح في فهم الظواهر لكونية و التاريخية و الاجتماعية وحتى السياسية ، و لن يؤدي إلا إلى الضياع في متاهات العصر الحديث و ظلماته . ثالثاً _ أن معرفة غينون الحقيقية لا تقتصر على قراءة مؤلفاته و ترديد أقواله ، بل هي تعني القدرة على الاستفادة من مبادئ الوعي التقليدي التي استطاع غينون أن يعيد صياغتها بشكل شمولي و إبرازها بوضوح في ظل تعقيدات و ملابسات العصر الحديث. لقد نقل غينون الفكر الديني بشكل عام من الماضي إلى الحاضر و حوله من تراث لا تأثير له إلا في إطاره الخاص، إلى منظومة فكرية قادرة على أن تلعب دوراً أساسياً في المعالجة الفكرية لكل أسئلة الواقع الحديث، إلا أن هذه النقلة على مستوى الوعي الفردي لا يمكن أن تتم إلا من خلال الانتماء مباشرة إلى منظومة تقليدية بعينها، إذ أنه لا يمكن القفز عن المنظومة التقليدية للوصول إلى الحقيقة التقليدية الأولى، إن الوصول إلى هذه الحقيقة و كما أكد غينون مراراً لا يتحقق إلا من خلال الانتماء إلى منظومة تقليدية حقيقية، أي إلى دين من الأديان الأصيلة، فأن تكون من أتباع غينون و التقليدية التكاملية يعني أن تكون مسلماً أو مسيحياً أو غير ذلك من الديانات الأصيلة. إن هذا بالنسبة لنا كمسلمين يعني أن قراءة غينون و تفهمنا للمبادئ الأساسية للفكر التقليدي بشكل عام هو مقدمة مفيدة كل الفائدة لتحقيق انتقال الفكر الإسلامي من مستوى المنظومة الفكرية العقدية المغلقة و المحصورة في إطار امتداد جغرافي و ثقافي محدد إلى مستوى الانفتاح على العالم ومخاطبته في قضاياه و قضايا الإنسانية بشكل عام بلغة يفهمها دون أن نقدم تنازلات فكرية و دون التملق المذل للنظم الفكرية و الاصطلاحية الحديثة، و محققين في ذات الوقت مسؤولية الرسالة التي يلقيها علينا واقع كوننا حملة الرسالة الخاتمة التي لن ينقضي الزمان إلا بتحقيقها للعالمية الكامنة فيها لكونها متمثلة للحقيقة التقليدية الكلية الممتدة على اتساع الدورة الكونية بأكملها . كذلك فإن قراءة غينون تعطينا إمكانية جديدة لتفعيل مقولات فكرنا التقليدي الخاص و إشراكها في الحياة الفكرية، إنها تدفعنا لقراءة جديدة لأدبنا الصوفي الغني و الفريد من نوعه ، هذا التراث الروحي و الفكري الذي لم يكد يخرج من أيدي المستشرقين حتى وقع في أيدي المؤسسات الأكاديمية المحلية موقعاً و الغربية منهجاً و أسلوباً، هذه المؤسسات التي لا تزال حتى اليوم تجتر مقولة المستشرقين حول مذهب الـ"panteazm" في التصوف الإسلامي . رابعاً _ إن غينون يعطي من خلال حديثه عن النخبة التقليدية و دورها الفكري و العملي في الحياة الحديثة معنىً و رونقاً جديداً للثقافة و المثقفين ، و إذا ما كان قد أشار في كتابه " أزمة العالم الحديث " إلى أن هذه النخبة قد ماتت في الغرب دون أن تموت في الشرق، فإنه يشير أيضاً إلى تراجعها و تقلص دورها هناك، و لعل أبرز مظاهر هذا التراجع يبدو من خلال انتشار و توسع ما يسمى بالشريحة المثقفة . لقد نمت في بيئتنا الفكرية و الاجتماعية على مدار القرنين الماضيين شريحة مستلبة فكرياً و مغتربة حضارياً، نهلت من مشارب الفكر الغربي الحديث و امتلئ جوفها بنظريات و مذاهب فلسفية واجتماعية و اقتصادية و سياسية مختلفة و متناقضة في كثير من الأحيان ، فأصابها الدوار و راحت تفرغ ما ابتلعته في صالات المقاهي و على صفحات طويلة من الكتب و المجلات و الجرائد اليومية التي لا تصلح إلا لمحرقة التتار . لقد لعبت هذه الشريحة دوراً من أكثر الأدوار خطورة و سلبية في حياتنا الفكرية المعاصرة ، فكما أن اليهودي المقتلع من تقليده يلعب _ كما يرى غينون _ أكثر الأدوار خطورة في العداء للتقليدية و بناء هياكل التقليدية المضادة ، فقد لعب هذا الوعي المقتلع من بيئته ذات الدور في تهديم الوعي التقليدي و التأسيس لهياكل التقليدية المضادة، عبر تحوله إلى قناة تمر من خلالها منظومات فكرية مريبة لكل من اليهودي ماركس و اليهودي فرويد و اليهودي برغسون واليهودي سارتر وغيرهم ، دون أن يكلف أحدهم نفسه عناء و مشقة طرح السؤال حول سبب هذا التفتح المفاجئ للعبقرية اليهودية المزعومة في العصر الحديث ، حفاظاً على موضوعية مصطنعة ، أو خجلاً أنثوياً من أن يخدش هذا السؤال صورة المثقف الأنيقة اللبقة . إن مفهوم النخبة التقليدية الذي يقدمه غينون، و الذي لا يتحقق على المستوى الفردي إلا من خلال الارتباط الوثيق بالمنظومة الحضارية التقليدية أولاً و عبر إنجاز التحقق الكامل لكل الإمكانات المعرفية و الخلقية الداخلية لهذا الفرد ، هو البديل العضوي للمثقف اللامنتمي و المنفصل عن تقليده . في نهاية هذا البحث لا بد من الإشارة إلى أن أي دراسة عن رينية غينون لا يمكن أن تغني عن قراءة أعماله أبداً ، لأن هذه الدراسة لا يمكن لها أن تحيط بتلك الشمولية في الرؤيا و موسوعية المعارف ودقة التحليل و العرض . و أرجو من الله عز و جل أن أكون قد قدمت له بطريقة لائقة ، إن لم توفيه حقه فهي على الأقل لا تنتقص من قدره و مكانته . لقد وضع الشيخ عبد الواحد يحيى نصب عينيه مهمة تعريف الغرب بالحقيقة التقليدية الخالدة في أعقد الظروف و أصعبها، و لذلك فقد سعى جاهداً لأن يقدم هذه الحقيقة في صورة مبسطة بعيدة عن التعقيد، حتى و لو كان ذلك على حساب الأسلوب في كثير من الأحيان، و مع ذلك فإن أعماله تبقى جزأً جديداً يضاف إلى التراث الفكري الصوفي الإسلامي الخالد، هذا التراث الذي لا يمنع منه أحد ، إلا أن كلً يأخذ منه على قدره و استطاعته .
(ما ورد في هذا البحث لا يعبر بالضرورة عن رأي الملتقى الفكري للإبداع) -------------------------------------- الهوامش
(5) إن هذه الفقرة و ما يليها من فقرات عن كتاب " مملكة الكم و علامات الزمن تمت ترجمتها عن النسخة الروسية من قبل المؤلف" (6) يشير غينون في مكان آخر من هذا الفصل ، إلى أن الحركة الكونية الانحدارية التي يعبر عنها بالانتقال العام و الشمولي من النوع إلى الكم لا يمكن أن تصل إلى حدودها القصوى مطلقاً ، لأنه لا وجود أصلاً لكم بدون نوع ، و لو افترضنا أن الوجود قد يصل في لحظة من اللحظات إلى انفصاله التام عن النوع لأختفي و تبدد في اللحظة ذاتها . (7) يقصد غينون بذلك ظاهرة التنويم المغناطيسي التي بدأت في القرن الثامن عشر علي يد مسمير . (8) يستعمل غينون مصطلح القوى النفسية مقابل القوى الروحية، استناداً إلى التقسيم الإسلامي الذي يرى الروح مجالاً للتأثير الملائكي، و النفس مجالاً للتأثير الشيطاني. (9) يترجم هذا المصطلح في بعض الكتب المتخصصة بدراسات الأديان و المعتقدات ، ككتب مرسيا إلياد، بطقوس التنسيب، انظر مثلاً ترجمة حسيب كاسوحة لكتاب مرسيا إلياد " التسيب و الولادات الصوفية ، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1999. (10) يمثل البراهمانيين طبقة رجال الدين أو السلطة الروحية في حين يمثل الكشاتري طبقة المحاربين ، أو السلطة المدنية (11) ربما تكون هذه الجماعة هي منظمة " بناي بريث " الماسونية و التي كان فرويد عضواً فيها ، وربما تكون جهة أكثر خطورة من ذلك . (12) يجب أن نميز بين هذه المنظمة و منظمة الوردة و الصليب التنويرية في العصور الوسطى (13) كما تنتظم قوى التقليد التنويرية في هيكلية تراتبية ، كذلك تنتظم التقليدية المضادة في تراتبية عكسية، و قد أوضح غينون التراتبية التنويرية التقليدية في كتابه " ملك العالم " .
|
26-04-2005 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=363
|