/

 

 

معنى الشريعة في مجتمع حديث

أبو يعرب المرزوقي


. تقديم: 
كما هو شأن الحركات المغالية يكون فعل المنتسبين إليها دائما من جنس الأعراض الدالة على دفين الأمراض في المجتمعات البشرية. وقد كان حدث الحادي عشر من سبتمبر أبرز الأمثلة عن هذه الدلالة. فهو قد نبه إلى أزمة عميقة برزت آثارها السطحية في العلاقة بين العالم الإسلامي الساعي منذ بداية النهضة إلى التحرر من عوائقه الذاتية ومن الهيمنة الأجنبية بينه وبين هذه القوى التي كانت في الأغلب غربية, إذ توالت على استعماره وأحيانا تساوقت بتواطؤ واضح الإمبراطوريات الفرنسية والإنجليزية والسوفياتية والأمريكية والإسرائيلية. فكان لأزمته صلة بهذا الاستعمار وبأزمة الفكر الحديث ورؤية العالم التي نتجت عنه والتي جربت قسرا في عهدي الاستعمار والانبهار الذاتي بالحداثة. وككل الأعراض والعلامات كذلك فإن تأويله ليس بالأمر السهل إذ هو قد أدى إلى قراءة الجانبين لمحددات الظرف ومقومات البنية قراءة خاطئة فضاعف سوء التفاهم بين العالمين الشمالي والجنوبي فزاد الأزمة عمقا والهوة اتساعا. 
إن القراءة الأولى التي حاول أصحاب هذه الفعلة ترويجها جعلت المعركة الجارية منذئذ صراعا حضاريا بين المسيحيين والمسلمين. تناسوا أن العدوان الاستعماري على مستضعفي العالم لا يميز بين ضحاياه في كل العالم بما في ذلك في بلاد المستقوين لا يهمه الدين ولا العقيدة ولا الحضارة. وأغفلوا الأزمة الذاتية للحضارة العربية الإسلامية التي هي متقدمة حتى على وجود القوى الغربية التي ينسبون إليها كل الشرور. أما القراءة التي يرد بها الشق الأمريكي فتصور المعركة صراعا حضاريا بين الحضارة والبربرية وتضخم ظاهرة الإرهاب التي لا يخلو منها مجتمع ليركز على عامل خارجي هو إيديولوجية التطرف الديني في العالم الإسلامي ويغفل الأزمة الذاتية للحضارة الحديثة التي لم تنتظر ردود فعل المسلمين على تفشي الظلم لكي تبرز فيها أعراض الحمى الإرهابية التي تعاني منها الحضارة الحديثة ذات الشمولية المستهزئة بكل متعاليات الذات البشرية. 
وبين أن كلتا القراءتين لم يغص أصحابها إلى أعماق الأزمة الإنسانية في كلا المجتمعين لكونهم استبدلوها بأزمة مصطنعة بينهما تلهيهما عن الأزمة فيهما كلا على حدة فضلا مما يضاعف أزمة الإنسانية فيضاعفها خمسا, أزمة كل شق والأزمتان اللتان بينهما بحسب القراءتين وأزمة عدم إدراك وحدة المصير الإنساني الذي لم تبق العولمة منه إلا على سلوبه بعد أن ألغت إيجابياته الدينية ( التخلص من المتعاليات الدينية في الأنوار ) والفلسفية ( والتخلص من المتعاليات العقلية في ما بعد الحداثة ) فباتت الإنسانية تعيش وضعية الحرب الأهلية الشاملة, بحيث إن الكونية التي دعت إليها الأديان تحولت إلى عولمة الحرب الأهلية البشرية. 
والغريب أن لهذا الهروب من الأزمة الذاتية إلى الأزمة مع آخر مصطنع قد أخذ شكله النهائي في توصيف فلسفة التاريخ الهيجلية للعلاقة بين وجهي العهد الرابع من تاريخ العالم: العلاقة بين الإصلاح والمحمدية في عهد العالم الجرماني. فهو قد أعتبر الإسلام الوجه السالب من الإصلاح أو إن شئنا ما يعتبره الإصلاح الفاشل الذي انتهى دوره في التاريخ والذي حل محله الإصلاح الذي يعتبره ناجحا. وهو قد أسس هذه الرؤية على ما نسبه إلى الإسلام من عيوب وهي بالذات ما ينسب إليه اليوم من تعصب وإرهاب. 
ولما كانت الحركات التي ينسب إليها هذا التمثيل عرفت بمفهومين صارا شبه علمين على هاتين الصفتين هما في الداخل مفهوم "تطبيق الشريعة" وفي الخارج مفهوم "ممارسة الجهاد" فإنه بات من الواجب أن ندرس أزمة الإسلام السياسي الذاتية ذات الصلة بنظريتي تطبيق الشريعة وممارسة الجهاد وعلاقة ذلك بأزمة الحضارة الإنسانية الراهنة. والغاية هي البحث في عناصر الأزمة التي تحول دون إدراك المعاني السامية للشريعة بما هي منظومة القيم المتعالية في المجتمع الحديث الإسلامي والعالمي لنحلل دلالتهما الخاصة ودلالتهما العامة في مجتمع حديث معين وفي المجتمع الإنساني ككل. وقد انطلقنا من هذه المنزلة التي تنسب إلى الإسلام والمسلمين لتعديل التأويلين الخاطئين لمفهوم الشريعة والجهاد حتى نؤسس علاقة سوية بين الحضارات البشرية عامة وبين الحضارتين العربية الإسلامية والأوروبية المسيحية خاصة. فتكون دراستنا بذلك متضمنة مسألتين نبدأ بالمسألة الخاصة منهما بالمسلمين ونختم بالمسألة العامة لكل البشر:
تمهيد 
المسألة الأولى هي تطبيق الشريعة ودلالة المطالبة به في الفكر الإسلامي
الفصل الأول: أزمة الفكر السياسي والحقوقي العربي الإسلامي الراهن 
الفصل الثاني: تعدد معاني الدعوة لتطبيق الشريعة وتناقضها.
المسألة الثانية هي مدلول الدعوة إلى تطبيق الشريعة ومفهوم الشريعة 
الفصل الأول: الدلالة العامة للدعوة إلى تطبيق الشريعة في المجتمع الدولي
الفصل الثاني: تعريف الشريعة بما هي اجتهاد نظري وجهاد علمي
خاتمة

المسألة الأولى
تطبيق الشريعة ودلالة المطالبة به في الفكر الإسلامي
الفصل الأول: أزمة الفكر السياسي والحقوقي العربي الإسلامي الراهن 
يمكن أن نرجع أغلب الأسباب التي تفسر أزمة العالم الإسلامي الحالية وفشل الأحزاب السياسية عامة والإسلامية خاصة إلى نوعين: 
1- أولهما يمكن أن نعتبره متصلا بسوء استعمال مستوى الغايات من فعاليات العمران البشري أعني الوظيفة التي يؤديها المثال الأعلى في صلته بتحقيقاته المتوالية, إذ التاريخ الإنساني ليس هو في حقيقته إلا تحقيق المثال في الواقع المدني والسياسي بتوسط غايات الفعالية الثقافية والفعالية التربوية: أعني إرجاع الاجتهاد الشرعي إلى القوة الأولى من الفقه أو إلى القسر القانوني.
2- والثاني يمكن أن نعتبره متصلا بسوء استعمال مستوى الأدوات من فعاليات العمران البشري أعني الوظيفة التي يؤديها الفعل السياسي في المجتمعات البشرية وصلاته بالفعل الخلقي عامة, إذ الفعل السياسي ليس هو إلا عملية التحقيق المتدرج للمثال في الواقع بأدوات الحياة المدنية وتنظيمها السياسي: أعني إرجاع الجهاد الشرعي إلى القوة الأولى من السياسة أو مجرد القهر الحكمي.
فقد بلغ التقصير بقادة الأحزاب السياسية في العالم الإسلامي والأحزاب الإسلامية منها على وجه الخصوص وبنخبهما إلى حد جعلهم يخلطون بين المستويين فيحصرون الأول في الثاني لكونهم يقصرونه على التعبئة الجماهيرية للوصول إلى الحكم والبقاء فيه إلى الأبد لتطبيق برنامج ثابت لا يتغير بل وغني عن الإعداد المضموني والشكلي والمنهجي لكونه يعد عندهم ناجزا وخارج عن كل اجتهاد يتضمن الخطأ والصواب. فهو عندهم مقصور على تطبيق ما يضفون عليه صفة شرع الله: لكأن الله استخلف آلات وليس بشرا وولاهم عليهم وحباهم بالعصمة التي تجعلهم يصيبون دائما ولا يخطئون أبدا. 
فتكون مهمة الدولة التي يريدون تأسيسها وحكمها مقصورة على فرض تطبيق الشريعة بالقوة العامة في مجال ما ردوا إليه القيم الإسلامية إذ تصوروها محددة تحديدا نهائيا وليست مادة لاجتهاد لا يتوقف ( القيم الجمالية والقيم الخلقية والقيم النظرية والقيم العملية والقيم الوجودية ). وبدلا من أن تبقى المثل الإسلامية العليا مثلا لا يمكن لأي تعين أن يستنفد إمكاناتها اللامتناهية وأن يكون هدف العمل الديني والخلقي تحقيق الممكن الإنساني منها من خلال ممارسة الدين عن قناعة ذاتية فإن مؤدى برنامجهم هو تحويلها إلى مجرد ممارسة خارجية تفرضها دولة بدائية لا يكاد يتجاوز بعدها الروحي على شرطة العبادات كما نراه في بعض بلاد العرب أو في أفغانستان.
وقد نتج عن سوء فهم طبيعة العلاقة بين الواقع والمثال وهم قاتل للفكر الديني الموجب وما يتصف به تطبيقه من نسبية وتناسب مع الظرف أعني وهم رفع الفقهاء إلى مقام السلطة التشريعية ظنا بأن الكفاءة التقنية وحفظ المدونات الفقهية وبعض الشواهد الشعرية والأحاديث كافية بديلا مقبولا من الشرعية التمثيلية للإرادة الجماعية ( وهو المدلول الحقيقي من مفهوم الإجماع بما هو مصدر تشريعي مستند إلى عصمة الأمة لا الإجماع الذي حصره الفقهاء في إجماعهم ) التي تطابق مفهوم الانتساب إلى السلطة التشريعية بالمعنى الحديث أعني شرعية البيعة العامة أو الشرعية الديموقراطية التي لا يثبتها إلا الانتخاب الحر والنزيه. 
كما نتج عن سوء فهم طبيعة الفعل السياسي وهم قاتل لوجهه الموجب وما يتصف به من مرونة وتدرج خلطه بالفعل الروحي المطلق أعني وهم تطبيق بعض تعينات الشريعة بالقوة وبصرف النظر عن التعامل الفعال مع منطق العصر الذي يتحكم في الرأيين العامين الداخلي والخارجي من خلال توظيف الدولة توظيفا يفرض ممارسة فهم معين للعقيدة والشريعة. وطبعا فإن هذا الفهم ما كان ليحصل لولا الظن بأن ممارسة الشعائر الظاهرة كافية بديلا من القناعة الذاتية, أعني لولا نفي جوهر الإيمان مواصلة لسلوك فقهاء عصور الانحطاط. والغريب أن أصحاب هذا السلوك يرددون القول بان المجتمعات العربية والإسلامية تعيش وضعا أشبه بالوضع الجاهلي ويتناسون أن التربية النبوية اقتضت عشرين سنة لهداية الجاهلية الأولى وكان مجمل تنبيه القرآن للرسول تجنيبا إياه للعجلة الممكنة: دعوته لمجرد التذكير والإقناع ومنبها إياه بأنه لو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله. 
فكيف تحولت المثل العليا التي حددتها الشريعة الإسلامية بمثل هذه التصورات القاصرة إلى قوانين بدائية يعاقب من لا يطبقها لا فرق بينها وبين قانون الطرقات؟ وماذا يبقى للتربية الروحية أو للدعوة الدينية أو للتوبة أو للجهاد الأكبر من معنى, إذ كان النفاق العام والرضى باتباع بعض العلامات الخارجية( كاللحية بالنسبة إلى الرجل والزي بالنسبة إلى المرأة ) وبعض العبارات والأفعال للظهور بمظهر المسلم كافيا حتى ولو كان ذلك في تناقض تام مع كل القيم الروحية الحقيقية التي صارت عملة معهودة في مجتمعاتنا مثل الكذب والنفاق وتعاطي المحرمات سرا والتلاعب بمقدرات الأمة والعمالة لأعدائها؟ أليس من دواهي هذا الموقف ما آل إليه دور رجل الدين في الإسلام ؟ فهو قد أصبح أقرب إلى كونه مجرد مهرج منه إلى سلطة معنوية. إنه يتدخل في أتفه الأمور باسم عدم الفصل غير المفهوم بين الدنيا والآخرة وبين السياسة والدين. فهل الدنيا والسياسية ليس فيهما مستويات متعددة وهل الآخرة والدين ليسا قيمتين أعلييين ترفعان مستوى الدنيا والسياسة؟ 
لقد صارت الدعوة إلى تطبيق الشريعة في كل الحركات الإسلامية دعوة إلى تطبيقها الخارجي وشعارا أقرب إلى استبلاه الجماهير منها إلى توعيتهم الباطنية التي تغنيهم عن السلطة الخارجية بلغة ابن خلدون الذي يميز بين الوزعين وزع الأحكام السلطانية الخارجية ووزع الأحكام الدينية الذاتية. فهي دعوة لا يتقدم عليها السعي الصبور لتربيه الجماهير تربية إسلامية تمتد على أجيال متوالية كما يتبين من التربية النبوية للصحابة والتابعين. إنها ليست دعوة لتربية تؤدي في الغاية إلى الاستغناء عن هذا التطبيق بالفرض الخارجي, بل هي مجرد دعوى ديماغوجية لتطبيق قوانين خارجية لا تنتج عن قناعة عند الخاضعين إليها ولا عند مطبقيها: ذلك أن الكل يعلم أن التلاعب بالقانون ممكن سواء كان سماويا أو إنسانيا واحترامه ممكن سواء كان إنسانيا أو سماويا والأمر في الحالتين رهن تربية المواطنين. 
فجميع الحركات الإسلامية تريد تطبيق قيم المؤسسات الاجتماعية الأساسية (أعني الأسرة والمنشأة والمدرسة والدولة والمعبد ) تطبيقا غير تاريخي ودون جهد سياسي مناسب للتدرج التربوي الذي يقتضيه تحقيق قيم الإسلام بمنهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أعني قيم الأسرة( التي نهتدي بها في تحديد قوانين التربية والأحوال الشخصية ) وقيم المنشأة الاقتصادية ( التي نهتدي بها في تحديد قوانين الاقتصاد والملكية والعقود والإلتزامات ) وقيم المدرسة ( التي نهتدي بها في حديد قوانين التعليم والمعرفة والخبرة ) وقيم الدولة ( التي نهتدي بها في تحديد قوانين السياسة والتشريع والتأسيس ) وقيم المعبد ( التي نهتدي بها في تحديد قوانين الدين العبادة والتربية الروحية ) بحسب ظاهرها في شكل قوانين ميتة وجامدة متناسية شروطها الروحية تحقيقا لذرائعها الموجبة وحيلولة دون ذرائعها السالبة. 
لست أفهم كيف ينسى البعض أن الرسول- وهو من هو- قد قضى عشرين سنة في تربية المسلمين على قيم الإسلام وأن القرآن الكريم مليء بالأدلة القاطعة على عدم اكتمال ذلك بل وعلى تعذره حيث يرد الحديث في النفاق والتلكؤ عن الجهاد حتى بين الصحابة وعدم تطبيق كل تعاليم الإسلام تطبيقا مثاليا لكون البشر ليسوا ملائكة. ولست أفهم الحركات السياسية التي تدافع مثلا عن حق الرجل في الزواج بأربع نساء في المطلق من دون شرط إسلامه الحقيقي ومن دون النظر إلى المبدأ العام للعلاقة بين أفراد الأسرة وتعليل التعدد الوارد في النص وشرطه والتنبيه إلى شبه استحالة تحقيق هذا الشرط. كيف تصبح مسألة إصلاح قانون الأحوال الشخصية موضوعا لمعركة سياسية خاسرة من البداية لمعارضتها مساواة ذاتية من تمثلن نصف المجتمع بذاتية من يمثلون نصفه الآخر ولتناقضها مع روح العصر والشروط الاجتماعية والاقتصادية وتوق النساء والرجال على حد سواء للأسرة الضيقة فضلا عن حطها من الثورة الإسلامية بالدفاع عن تصورات رجعية يندى لها جبين كل مسلم صادق. 
هل يمكن أن تعد هذه الحركات صادقة في دعواها أم إن ذلك مجرد غرض سياسي لكونه مؤثرا في الرأي العام الشعبي تمسكا بتقاليد الجاهلية التي عادت فسيطرت على الفقه رغم استنادها الشكلي إلى حجج تبدو قرآنية منتزعة من سياقها تعليلا وشرطا وشرط شرط, انتزاعا جعلها في الحقيقة منافية كلا المنافاة للقيم الإسلامية كما يتبين من مثال تعدد الزوجات ؟ وإلا كيف يحق للرجل ما يزعم الفقهاء من دون ما يتضمنه من واجبات؟ أليس من شروط الحقوق التي يطلب بها المسلم الواجبات المناظرة لها؟ وقبل ذلك وبعده فلا بد لمن يريد تطبيق الشريعة الإسلامية ان يكون مسلما بحق خلقا وسلوكا. أليس أول هذه الواجبات تقدير الأسرة وفهم حقوق المرأة والأبناء وشروط التعدد كما ورد في الآيات الكريمة التي تضبط دواعيه وشروطه؟ أما كان من الأفضل مبادرة حركات الصحوة بوضع لبنات أفضل لإصلاح للأحوال الشخصية بدلا من أخذ موقع المدافع المبدئي عن أشياء منافية لكل قيم الإسلام إذ تنتسب إلى التقاليد لا إلى هذه قيم الإسلام الحنيف؟
ولا أفهم الحركات السياسية التي تدعو إلى تطبيق الحدود في مجتمع لم يتلق التربية الإسلامية الحقيقية إذ لا يكفي الانتساب الجغرافي دلالة على الإيمان بالقيم الإسلامية. فهذه التربية عند تحقيقها بشروطها تجعل من يتعدى على الحدود يتمنى تطبيقها عليه لكونه يؤمن بان العقاب الدنيوي يحرره من العقاب الأخروي. ولا أفهم الحركات السياسية التي تنفي الحرية الدينية دخولا في الملة أو خروجا منها. فليس الدين مجرد انتساب سياسي يدخله المرء بالولاء أو بعدم الولاء للعلامات الخارجية وليس هو إيمانا أهم خصائصه الصدق. وما كانت هذه الحركات تسلك هذا السلوك فتقف مثل هذه المواقف التي هي مواقف فاشلة سياسيا فضلا عن كونها ليست من الدين في شيء, لو كانت حقا تؤمن بجدوى التربية الروحية والدعوة الدينية وقوة الإسلام الذاتية فتؤسس عملها السياسي على تحقيق شروط تجاوز مجتمعات الضرورة إلى مجتمعات الحرية التي تعد الممارسة الحرة للعقيدة أسماها الممارسة الناتجة عن القناعة؟ لو كانت حركات الصحوة تعلم ذلك لركزت في برامجها على العمل لتخليص المجتمع من الذرائع السلبية ( ما يحول دون الحياة الروحية من شروط اجتماعية اقتصادية وسياسية) ولتمكينه من الذرائع الإيجابية ( ما يساعد على الحياة الروحية من نفس الطبيعة ) مما يتعلق به العمل السياسي ولكانت بذلك أكثر تقدمية من كل الحركات السياسية الأخرى: مثل الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والصحية والتربوية الخ...
بذلك فقط يكون لهذه الحركات برنامج سياسي حقيقي غايته توفير شروط الممارسة الروحية السامية أعني ما به يتجاوز الإنسان الضرورة ليشعر بالحرية فيفكر في الممارسة الروحية السامية دون حاجة إلى الوزع الخارجي. وعندئذ يمكنها أن تعمل مع الحركات السياسية المدنية لكون برنامجها المدني يجعلها أحزابا سياسية: لا وجود لحل آخر يخرج مجتمعاتنا من الحرب الأهلية. كيف لمسلم صادق ولسياسي ذكي أن يعتقد الإيمان قابلا لأن يكون بالإكراه بقاء فيه أو خروجا منه في حين أن القرآن الكريم مليء بالآيات التي تنبه النبي فضلا عن غيره إلى وجوب التخلص من مثل هذا الوهم وفي حين أن المجتمعات البشرية كلها تزداد ضيقا بكل معتقد مفروض من الخارج وخاصة مما يؤدي إليه من حياة منافقة ليس لها من الروح إلا المظاهر الخارجية فيصبح الصدق الديني منعدما ويعوضه التنافس المقيت في ممارسة التقاليد الخارجية ؟

الفصل الثاني: تعدد معاني الدعوة لتطبيق الشريعة وتناقضها
يقتضي التساؤل عن معنى الشريعة في مجتمع حديث سؤالا متقدما عليه - كان ينبغي أن نبدأ به لولا الحاجة لتقديم الكشف عن الداء - هو دلالة المطالبة بتطبيق الشريعة في الفكر الإسلامي الحديث كما في المثال الذي انطلقنا منه في مبحثنا الأول, لعدم إمكان الاقتصار على مجرد الدافع العقدي حتى وإن كنا لا ننكر دوره. فالمعنى السطحي الذي يمكن أن يتبادر إلى الأذهان هو اعتبار هذه الدعوة مجرد حنين إلى الماضي أو مجرد تعويض عن وضع مجتمعاتنا المتدني في الحاضر بالهروب إلى العصر الذهبي كما هو شأن أغلب الأمم المغلوبة. ورغم أن مثل هذا الهاجس لا يمكن نكرانه فإن المعنى العميق الحقيقي لهذه الدعوة هو إرادة التخلص من حكم الأمر الواقع الذي حط القانون الوضعي الذي فرضته عمليات التحديث الفوقية إلى مجرد أحكام تحكمية تعبر عن نزوات الأنظمة المتلاعبة بمصائر الشعوب العربية والإسلامية دون تغيير يذكر بالقياس إلى ما وصفته مقدمة ابن خلدون: فمن المعلوم أنها تفسر انحطاط الحضارات بعدم وجود وازع للوازع. ذلك أن فساد العمران علته الظلم ( اغتصاب الحقوق ) والعسف ( اغتصاب الحريات ). والمعلوم أن قمة الظلم عند ابن خلدون نوعان: اغتصاب حقوق الإنسان المادية ( المال خاصة ) وحقوقه المعنوية ( العرض خاصة ). وإذا كانت غاية اغتصاب الحقوق هي تدخل الدولة المباشر في الحياة الاقتصادية والتسخير وتهديد حق الملكية أو تدخلها غير المباشر بواسطة الضرائب وتحديد الأسعار وتزييف السكة, فإن غاية اغتصاب الحريات هي حكم الشعوب بحاميات المرتزقة ضد الشعب وتربية النشء بالتربية التعسفية التي تفقد الإنسان معاني الإنسانية. لذلك فهو قد اعتبر الدعوة لتطبيق الشريعة تحقيقا لشرط وزع الوازع أو لجعل القانون فوق تحكم الحكام: المطالبة بتطبيق الشريعة هي إذن في الأصل بقصد السعي إلى تحرير المواطنين من سلطان التحكم وليست بقصد إضافة تحكم رجال الدين إلى تحكم رجال الدولة. 
لكن هذه الدعوة التحريرية سرعان ما انقلبت إلى عكسها. فالهروب الساذج إلى العدالة السماوية بديلا من هذا التحكم لا يكفي إذا لم يصحبه السعي الحقيقي للحيطة التي تجعل وازع الوازع متحررا من الانحراف الممكن. وتلك هي وظيفة الرأي العام الواعي بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ذلك أن وازع الوازع يمكن أن ينحرف هو بدوره إذا حصر في تصورات أحزاب بينت تجربة الحركات الإسلامية أنها من جنس تصورات الأنظمة الرجعية. فليست دعوة ابن خلدون لجعل الشريعة وازع الوازع هي نموذجها بل نموذجها هو ما تسير عليه الأنظمة التقليدية التي أضافت إلى تحكم الحكام التأويل الرجعي للشريعة. ومن ثم فإن مثل هذه الدعوة من دون الشروط التي وضعها ابن خلدون للحد من سلطان الحكام والوازع الخارجي أضافت إلى التلاعب بالقانون الوضعي التلاعب بالشريعة كما هو الشأن في الأنظمة العربية والإسلامية التي تدعي تطبيق الشريعة بأكثر التأويلات مسا بحقوق الإنسان الطبيعية وتحقيقيا لنفس الأغراض التحكمية والنزواتية للأسر الحاكمة والقبائل المناظرة لمافيات الأنظمة التي تدعي الحداثة والعلمانية.
وإذا كانت العلة العميقة للمطالبة بتطبيق الشريعة هي إرادة تحررية من جنس ما حصل في الثورة الدينية ضد الاحتلال الاستعماري في العالم الإسلامي وضد النظام الشيوعي في مستعمرات السوفيات الإسلامية وفي مستعمراتهم المسيحية في أوروبا الشرقية أومن جنس الثورة الدينية ضد ظلم الدكتاتوريات وكبار الملاكين في أمريكا اللاتينية بإضافة نظرية فلسفية تحريرية بنى عليها ابن خلدون نظرية وازع الوازع فماذا يمكن أن تكون الاعتراضات على تطبيقها وهل يمكن أن نجد فيها بعض ما يؤكد التعليل العميق؟ تعود جل الاعتراضات إلى نوعين كلاهما قد كان سبب ازدياد شعبية الدعوة إلى تطبيق الشريعة في حركة التحرر الإسلامي خاصة وفي مثيلاتها من الأديان الأخرى في كل قارات العالم. 
فأما النوع الأول فيشمل كل القوانين الوضعية التي أتت بديلا من قوانين شرعية ذات صلة متينة بمقومات الهوية وفرضت تحكميا في عملية التحديث القسري وفوقيا من دون مساهمة شعبية وعمل فكري يطور الفلسفة الدينية الإسلامية: وقد بدأت هذه السياسة مع الاستعمار ثم واصلتها النخب التي سلمها الاستعمار الحكم لكونها قريبة منه ومتأثرة بنظرياته حول ما يسمى بتجفيف المنابع ومستعدة لخدمته. 
وأما النوع الثاني فيشمل كل القوانين الوضعية التي نتجت عن التبعية الحقوقية النافية لمقومات السيادة, إذ من المعلوم أن الحداثة نوعان: حداثة ذاتية نتجت عن تطور ذاتي للشعوب, وتحديث قسري فرضته التبعية التي تهمل اعتبار المعطيات الاجتماعية والثقافية وتقتصر على مجرد التقليد القردي. 
فمن النوع الأول قانون الأسرة والقانون الجنائي وما يسمى بالحرية الدينية التي تعني عمليا حرية التبشير وفنيات إخراج الشعب من ملته بالمغريات المادية وبالدعاية التمدينية. ومن النوع الثاني كل القوانين التي تقدم بصفة الحقوق الطبيعية للإنسان رغم كونها قوانين وضعية فرضها تصور معين يفرض خصوصية حضارية فيصفها بكونها كونية تسليما بأن التصور الوجودي الذي يجعل الإنسان مركز الكون ومصدر كل تشريع يمكن أن يفرض من دون تمسيح العالم ومن دون تناقض تام مع أساس القانون الوضعي أعني السيادة الشعبية بحيث يجعل سيادة أصحاب هذا التصور بديلا من كل السيادات الأخرى.
فالقانون الوضعي قوميا كان أو دوليا ينبغي أن يكون مبنيا على السيادة الشعبية بديلا من المتعاليات الشرعية لذلك ففرضه كونيا متناقض مرتين. فلا يمكن أولا أن نوفق بين القول بسيادة الشعوب مصدرا للتشريع وفرض سيادة أحد الشعوب على الشعوب الأخرى من دون التسليم الضمني بأن الشعوب التي سبقت في هذه الخيارات الحضارية حددت الأفق الإنساني المطلق وبأنه على البقية الاقتصار على موقف التبعية: لا يمكن لكنجرس الولايات المتحدة ورئيسها أن يحددا مفهوم الإنسان. ولا يمكن ثانيا تصور القانون الوضعي كليا من دون أن نقول ضمنيا بأن القوة هي الأساس الوحيد للقانون فتكون إرادة الأقوياء الذين شرعوه بديلا من الأخلاق والدين أساسين ممكنين للتشريع الكوني طبيعيا كان أو وضعيا. ولما كان هذا الموقف لا يستند لا إلى تأسيس ديني ولا إلى تأسيس ميتافيزيقي يتنكر تحته التأسيس الديني فإن الكلية الحقوقية المزعومة تصبح مستندة إلى حق القوة لا إلى قوة الحق. فالقانون الذي لا يؤمن بتعالي القانون على القوة لا يمكن أن يصبح شريعة للبشرية إلا بالشكل الذي نراه في العولمة الحالية التي تضع القوانين بحسب مصلحة الأقوياء ولا تطبقه إلا عندما يلائم هذه المصلحة: إنه تعال من دون متعاليات روحية وفلسفية تكون مصدر الأخلاق التي تؤسس القانون. 
وسواء تكلمنا في الأمر بخصوص مجتمع بعينه أو بخصوص المجتمع الدولي فإنه لا يمكن تصور حقوق الإنسان من دون واجبات تناظرها ومن دون أن تكون هي بدورها طبيعية مثلها مثل الحقوق التي اعتبرت طبيعية: إذ الحقوق الطبيعية وظيفتها أن تحرر الإنسان من تحكم السلط الوطنية والدولية سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية والواجبات وظيفتها أن تحرر الطبيعة والقيم الأساسية من تحكم الإنسان بحسب هذه المصالح السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية كما يتبين من تهديم الحضارة الحديثة للطبيعة والشريعة بالتلويث الاقتصادي والثقافي.
والجمع بين هذين الوجهين وجه حقوق الإنسان ووجه واجباته هو ما يعتبره المسلمون جوهر الشريعة التي وصفها الإسلام بكونها حقوقا وواجبات طبيعية كما يفيد ذلك مفهوم "الدين- الفطرة". لذلك فلا بد أن نحدد المقصود بمفهوم الشريعة-الفطرية في الفكر الإسلامي لكي نحررها من حطها إلى منزلة القانون الذي من القوة الأولى بدلا من أن تكون كما هي حقا قانون من القوة الثانية أعني قانون القانون الذي يتعالى حتى على الدساتير والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان: وهو معنى وازع الوازع.
فالشريعة قد خضعت في الفكر الإسلامي إلى عملية توسيع جعلتها مطابقة للدين وعملية تضييق جعلتها مطابقة للقانون من القوة الأولى. لكنها في الحقيقة غير ذلك وغير هذا. فأما التوسيع فكان مصدره الفكر الفلسفي في سعيه المزدوج للتوفيق بين الفلسفة والدين الذي يسمونه شريعة في عبارة التوفيق بين الحكمة والشريعة وكذلك في سعيه لوضع شرائع فلسفية تنتظم بها المدن الفاضلة. وبين أن الإسلام يميز بين الدين والشريعة بخلاف ما يتصور فلاسفة الإسلام في العصر الوسيط. فالقرآن يعتبر الدين واحدا عند جميع البشر ويعتبر الشريعة متعددة بحسب الأقوام والعصور, لكونها شرعة ومنهاجا للوصل بين فهم الكلي الديني الواحد وممارسته العينية المتعددة. وهو ينسب إلى هذا التعدد وظيفة رئيسية لا يمكن من دونها تحقيق القيم في التاريخ: وظيفة التنوع الشارط للتدافع الذي من دونه لا يمكن للأمم ان تتنافس في التواصي بالحق والتواصي بالصبر أو في منع الفساد في الأرض الحائل دون الحرية الدينية والناشر للظلم. أما التضييق فيعود إلى الفقهاء الذين حصروا الشريعة تقريبا في فقه العبادات والمعاملات أعني في القوة الأولى من القانون المتعلق بالمعاملات البشرية فيما بينهم أو بالعبادات البشرية في تعاملهم مع الله. فهم قد تصوروا الأمثلة المضروبة في القرآن الكريم أو الممارسة الواردة في السنة الشريفة مستنفدة للمعاني والمقاصد الكلية التي تمثل لها تلك الحالات الخاصة. لم ينتقلوا عمليا من فقه الحالات الخاصة مهما وسعوا من القياس إلى فقه المقاصد رغم وضع النظرية الممكنة من ذلك أعني النظرية التي تجعل الشريعة قانونا من القوة الثانية: قانون التقنين وأخلاقه أو أفق التقنين ومبادئه العامة. 
ويتأكد هذا المعنى بجلاء في سورة المائدة.فهي تحتوي محاولة نسقية لتحديد علاقة الأديان السماوية الثلاثة بعضها بالبعض فتضمنت تمييزا واضحا بين الدين والشريعة وتعليلا دقيقا لتعدد الشرائع وتواليها. ونجد فيها دعوة صريحة للتعامل المتسامح بين الأديان المختلفة وختم الوحي بتحقيق الوحدة بين الدين الطبيعي والدين المنزل في ذروتيهما عند الوصول إلى علم الحق بالعقل الطبيعي من خلال التجربة الطبيعية غير المتنكرة لقيم الأخرى (الفلسفة) أو التجربة التاريخية غير المتنكرة لقيم الدنيا (الدين). لذلك فقد جمع القرآن الكريم الاعتبار والتدبر بالآية الكونية والآية الأمرية حسب اصطلاح ابن تيميه في تعينهما العام ( الطبيعة والتاريخ ) ثم في تعينهما الشخصي في الفرد الإنساني والجماعي في الإنسانية وفي أصل الآيات جميعا اعني القرآن الكريم. فكيف حصل الخلط بين الشريعة من حيث هي منهاج لعيش الدين وممارسته يكون بالضرورة متعددا بتعدد التجارب ( بمعنى الطرق الصوفية إلى معنى الدين العميق ) التي لا يوحد بينها إلا الدين من حيث هو أفق متعال عليها ومحررا مما قد يصيبها من انحطاط يجعلها ترتد إلى التحيز والانغلاق؟ 

المسألة الثانية
مدلول الدعوة إلى تطبيق الشريعة ومفهوم الشريعة
الفصل الأول: الدلالة العامة للدعوة إلى تطبيق الشريعة في المجتمع الدولي
إن التمييز بين الشرائع بما هي مناهج متعددة والدين الواحد بما هو اشرئباب إلى الأفق المطلق هو الذي يمكن أن نعتبر فقدانه مرض العولمة الذي تعاني منه الإنسانية. فالشرائع بوصفها أفقا جمعيا وإطارا للمتعايشين من البشر قد تحد من كلية القيم والمعاني الروحية بتحديد مواقفهم من الحوار ومن علاج موضوعاته لكونها معرضة لضربين من التصور. فهي قد تعتبر أفقا مطلقا يقتصر على الأفق الجمعي التاريخي ويتحدد به ولا يتعالى عليه فتصبح حيزا منغلقا يحول دون السعي الدائب لتجاوز الجزئي إلى الكلي والنسبي إلى المطلق من أجل تقريب حاصل الواقع من ممكن المثال الذي هو واجب الواقع. وقد تعد الشرائع كما هو الشأن في الآية 48 من المائدة أفقا نسبيا يتضمن بالطبع الميل إلى أفق أسمى منه يتجاوزه لكونه سعيا دائبا نحو المثال سعيا مشدودا إلى أفق كلي هو أفق القيم المتعالية التي سماها القرآن الحق المعنيين المعرفي والخلقي والتي لا تقبل الرد إلى الأفق الجمعي مهما بلغ من كمال.
وتبين التجربة التاريخية أن الاقتصار على الأفق الجمعي يحول بصيغتيه المتلازمتين في كل الحضارات دون التعايش السلمي بين الأمم ويمنعها من الحوار السوي. وقد تأكد ذلك في غاية صيغتي هذه التجربة غايتها القصوى التي اكتملت في عقيدتي العولمة: 
الأولى: تنسب المطلق فتزعم أنه قابل للتعين في النسبي بالحلول فيه. ويجعل هذا التعين الحضارات عامة وشرائعها خاصة كليات عينية بلغة هيجل ممثله لتحقق الروح الكلي كما هو الحال في نظرية أرواح الشعوب التي صاغتها الفلسفة الهيجلية أكثر الصيغ صراحة لتفسير التاريخ الإنساني.
والثانية تطلق النسبي نفي المطلق كما هو الحال في نظرية مراحل العقل التي صاغتها الفلسفة الوضعية أكثر الصياغات صراحة لتفسير التاريخ الإنساني في فلسفة أوغست كونت وانتهت إلى أن الأخلاق ليست شيئا آخر غير سلطة الضمير الجمعي.
والصيغتان متلازمتان, رغم أن الأولى مصدرها تحريف الفكر الفلسفي بإخضاعه لنظرية الحتمية التاريخية العملية وأن الثانية مصدرها تحريف الفكر العلمي بإخضاعه لنظرية الحتمية التاريخية النظرية. لكن التلازم الذي لا يظهر بجلاء إلا في الأفق الحضاري الذي يؤسسان له قابل للتعليل المنطقي المتين. فإطلاق الأفق الحضاري الجمعي عامة والعملي والنظري خاصة واحد سواء حصل نفي التعالي بجعل الآفاق الجمعية آفاقا مطلقة وسلب كل ما يتعالى عليها إذ إن النسبي يصبح في غياب المطلق مطلقا ( تحريف الفكر العلمي في الوضعية وبراغماتية الرأسمالية ) أو حصل بتحييث المطلق في النسبي تحييثا يرد الأفق الكلي الحال إلى الأفق الجمعي المحل سلبا لكل ما يتعالى عليه إذ إن ما يقوم به لا يمكن أن يكون أسمى منه وهو لا يقوم إلا به ( تحريف الفكر الفلسفي في الهيجلية وبراكسيسية الماركسية ).
ومن ثم فأساس الموقفين واحد. فليس تحريف الفكر الفلسفي وتحريف الفكر العلمي إلا سعي كلا الفكرين لتحريف الفكر الديني بإلغائه حصرا لأفقه في أفقهما من خلال تصور التعالي أو ما يفضل به الكليُ الجزئيَ والمطلقُ النسبيَ في مجال العمل ( التحريف الفلسفي ) وفي مجال النظر ( التحريف العلمي ) مجرد وهم بحيث يصبح مجرى التاريخ بحسب البراكسيس السياسي والبراغماتسم العلمي ( الممثلين للأفق الحضاري عامة ولشرائع الأفق الجمعي النظرية والعملية كما يتعين في روح الشعب ) في حل من الأخلاق كما أسلفنا في الإحالة السابقة إلى هيجل. 
إن استيعاب الجزئي للكلي والنسبي للمطلق ونفي التعالي بوصفه الفضالة الوهمية في العمل والنظر هو عين مرض العصر وهو عين القول بالحلول سواء أكان المحل عاما أعني العالم والطبيعة أو خاصا أعني المجتمع والتاريخ. وفي هذه الحالة يصبح التعايش بين البشر والحوار بين الحضارات أمرين ممتنعين: فلا يكون الحوار عندئذ إلا حوارا كاذبا بالطبع وظيفته الأساسية وظيفة الخداع الحربي بين الأعداء وبخلاف الدعوة إلى التعارف التي بنت عليها الأديان رفضها لهذين الموقفين الإرجاعيين.
فلا يمكن تنسيب المطلق بتحييثه في الجزئي من دون إطلاق هذا الجزئي المحل إطلاقا يؤدي إلى التنافي الجدلي الهجيلي الذي هو عنف رمزي يؤسس فلسفيا ومنطقيا للعنف المادي حيث يصبح التنافس العسكري أفضل الطرق لتحقيق الاعتراف المتبادل وتصبح علاقة السيد بالعبد السبيل الوحيدة للتحضير الإنساني والتربية الخلقية. فهذا التصور يجعل تراث كل شعب أو روحه وجودا عدميا يضع نفسه بسلب غيره. كما أن نفي المطلق لا يمكن أن يؤدي إلا إلى إطلاق النسبي الذي عوضه بمفرده إطلاقا يؤدي إلا التنافي التقني الكونتي الذي هو عنف مادي يؤسس لعنف رمزي حيث يصبح الاستغلال الاقتصادي أفضل الطرق لتحقيق الاعتراف المتبادل وتصبح علاقة المستغل بالمستغل السبيل الوحيدة للتحضير الإنساني والتربية الخلقية: وتكون في هذا التصور ثروة كل شعب أو قيامه طاقة عدمية تحقق قيامها بسلب قيام الغير. 
وبين أنه لا فرق بين العدميتن إلا بالترتيب بين العنفين الرمزي والتقني. فالأولى تنطلق من السلب الروحي لتذهب إلى السلب المادي والثانية تعكس فتذهب من السلب المادي إلى السلب الروحي. وقد اجتمع السلبان ضربين من الاجتماع لا يختلفان إلا بهذا التقابل وفيهما مجتمعين تتجسد العولمة الحالية بما هي جوهر التعين التاريخي لتحريف الفلسفة للدين في الاشتراكية التي تجمع بين عملية تنسيب المطلق الهيجلية وعملية إطلاق النسبي الوضعية وذلك هو جوهر المادية الجدلية الماركسية وهي جوهر التعين التاريخي لتحريف العلم في الرأسمالية التي تجمع بين إطلاق النسبي الوضعية وتنسيب المطلق الهيجلية وذلك هو جوهر المادية البراجماتية. لذلك فلا عجب أن نكتشف بعد سقوط الشق الأول ( الشيوعية ) من هذه المعادلة أن الشق الثاني ( الرأسمالية ) بدأ يعترف في تأسيسه العولمة على هاتين الحقيقتين: حقيقة الصلة بنظرية أرواح الشعوب أو مميزات الحضارات الهيجلية التي بلغت تمها في الشكل النهائي الذي يزعمون التاريخ قدانتهى عنده ( فوكوياما ) ونظرية التنافي المطلق بين الحضارات الذي يؤسس لصدامها ( هنتجتون ).
وفي الحالتين أصبحت الصلات السلمية الممكنة بين الشعوب المختلفة ممتنعة لكون الآفاق الحضارية صارت بحسب هذين التصورين آفاقا متنافية بالطبع وحائلة دون أي لقاء حواري سلمي. فوجودها المتساوق يصبح ممتنعا من غير صراع دام وتوازن رعب استنادا إلى منطق التنافي الجدلي أو التسالب التقني. ووجودها المتوالي يصبح مشروطا تحققه بنفي خالفها لسالفها وابتلاعه. ولا عجب فالموقفان الذي ينسب الأفق المطلق بتحييثه في أرواح الشعوب والذي يطلق النسبي بنفي ما يتعالى عليه متلازمان: إذ هما صورتان من الموقف الحلولي أعني من تحريف الفلسفة والعلم للدين تحريفا ينفي الفرق بين الأفقين الجمعي التاريخي والمتعالي ما بعد التاريخي. وقد جمعت العولمة بين التحريفين الفلسفي والعلمي فكانت التحقيق الفعلي للشمولية المستندة إلى آليات العولمة السياسية الإيديولوجية التي كانت مميز الشيوعية وآليات العولمة الاقتصادية التقنية التي كانت مميز الرأسمالية. وكلتا الآليتين لا يمكن أن تسيطر من دون هيمنة دولة مطلقة ذات أجهزة بوليسية واستعلامية وعسكرية تستعبد الجميع دون استثناء بمن فيهم مواطنيها قبل غيرهم بهمجية عارية في الأولى وبهمجية مبطنة في الثانية ومزية حدث الحادي عشر من سبتمبر الوحيدة هي فضح هذه الآليات وبيان أن طبيعتها واحدة في كلتا الشموليتين.
الفصل الثاني: تعريف الشريعة بما هي اجتهاد نظري وجهاد عملي 
فهل الشريعة في معناها الإسلامي هذا يمكن أن تكون نسبتها إلى الأزمة الإنسانية هي عين نسبتها إلى الأزمة التي تعيشها الحضارة الإسلامية كما حددها ابن خلدون مما يفسر شغل الأزمة الإسلامية قلب المعادلة الدولية وارتهان الحلول بفهم علاقة الأزمتين في اللحظة التاريخية الكونية الحالية خاصة ومنذ القرون الوسطى عامة كما يتبين من تحديد هيجل لمنزلة اللحظة العربية الإسلامية في علاقتها باللحظة الرابعة من فلسفته التاريخية؟ 
كاد الفقه أن يلغي معاني الشريعة العميقة وهو ما أضطر الغزالي في غاية محاولات تخليصها من حصرها في صورة التوسيع الذي جعلها عين الملة ( في الفكر الفلسفي والشيعي ) وفي صورة التضييق الذي جعلها عين القانون المباشر لتنظيم الحياة في العمران ( في الفكر الكلامي والسني ) إلى تأليف كتابين في دحض هذين الإرجاعين للشريعة وعلومها. فأما الكتاب الأول فهو كتاب فضائح الباطنية الذي يرفض التوظيف السياسي الدين توظيفه الذي حصر الشريعة في فنيات التأثير السياسي والتنظيم السري: فأحيا البعد العقلي والتاريخي من العمل الشرعي وحرره من ذهنية العمل السري والانقلابي عند الحشاشين. وأما الكتاب الثاني فهو كتاب أحياء علوم الدين ويمكن أن نطلق عليه أسم فضائح الظاهرية مثلما يمكن أن نطلق على فضائح الباطنية اسم إحياء علوم الدين كذلك: فأحيا البعد الصوفي والروحي من العمل الشرعي وحرره من ذهنية الشكليات الخارجية للعبادات والمعاملات السطحية عند الظاهريين.
وبذلك يتبين أن الأزمة التي تعاني منها الأمة الإسلامية ليست جديدة وليست خاصة بالمسلمين. إنما الجديد إسلاميا هو اجتماع وجهي الأزمة اللذين كانا متقابلين في الإسلامين السني والشيعي فصارا متقابلين في الإسلام الرسمي والإسلام المعارض. والجديد في نظر غير المسلمين التوحيد بينهما لاجتماع ذهنية الحشاشين الباطنية وذهنية النصيين الظاهرية في الحركات الإسلامية التي ينسب إليها الإرهاب. والجديد أخيرا من الوجهين هو صيروة هذا الأمر عرضا لأزمة كونية سيتحدد خلالها دور الشرائع والدين في الوجود الإنساني التاريخي. فكيف يمكن أن نخلص الشريعة من الانحراف الذي حلله الغزالي وابن خلدون لنرجع إليها وظيفتها التي تتمثل في الوصل بين الأفقين التاريخي الحضاري وما بعد التاريخي الروحي أو بين الدنيا والأخرى بحسب الدور الذي ينسبه إليها هذان المفكران ؟
وهذه الوظيفة الوصلية تستند بالأساس إلى التحرر من الفصام الذي يريد الإسلام تحرير الإنسان منه بتجاوز الفصل المرضي بين الدنيا والآخرة وبين السياسة والدين أعني للمقابلة الميتة بين الظاهر والباطن وبين قانون الضرورة الطبيعية وقانون الحرية الخلقية: فالوظيفة الوصلية هي التوتر الروحي الذي يحدد معنى الدنيا بقيم الآخرة ومعنى السياسة بقيم الأخلاق فيرفض أن يكون الإنسان منقسما إلى حياة خاصة أخروية ودينية وحياة عامة دنيوية وسياسية كما يدعو إلى ذلك أصحاب العلمانية الفرنسية المتطرفة وكما تأسست في النتائج القصوى للمثنوية الكنطية التي تقابل بين عالم الظاهرات النظري وعالم الباطنات العملي وفشل الحل الوسط بينهما في نقد ملكة الحكم من دون التسليم الضمني باللجوء للحل الديني أعني بالذات هذه الوظيفة الوصلية المخلصة من الفصام.
فكيف حدد الإسلام وظيفة الشريعة من حيث عين هذا التوتر الذي يصل بين البعد الدنيوي ومعناه الأخروي وبين البعد السياسي ومعناه الخلقي من حياة الإنسان الشخص والجماعة الأسرية أو الوطنية أو الملية أو النوعية ؟ ذلك هو ما عبرت عنه الشريعة الإسلامية بمفهومين لهما نفس المادة اللسانية: الاجتهاد في مجال النظر أعني فهم آيات الوجود الطبيعي والتاريخي والجهاد في مجال العمل أعني تحقيق قيمه فيهما معا. وقد جمعت سورة العصر هذه المعاني جميعا في آيتها الثالثة والأخيرة بوصفها الشروط المحررة من الخسر الذي حددته الآية الثانية: " والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر". 
فالاجتهاد الذي يفهم معاني الوجود فيصل بين النسبي والمطلق وبين الدنيا والأخرى يعرفه القرآن الكريم بالإيمان في مجال الضمير الشخصي وبالتواصي بالحق في مجال تعاون الضمائر في طلب الحق وذلك هو جوهر النظر في آيات الله الطبيعية والتاريخية لعلم قوانينها بحسب مستطاع الإنسان. 
والجهاد الذي يحقق قيم الوجود فيصل بين النسبي والمطلق وبين السياسة والدين يعرفه القرآن الكريم بالعمل الصالح في مستوى السلوك الشخصي وبالتواصي بالصبر في مجال تعاون الإرادات على تحقيق الحق وذلك هو جوهر العمل جوهر العمل بتلك القوانين بحسب مستطاع الإنسان. 
التواصي بالحق والتواصي بالصبر الخاليان من التأثيم بلغة ابن خلدون هما المبدآن اللذان يرد إليهما جهد الاجتهاد والجهاد بوصفهما وجهي الشريعة بما هي اشرئباب دائم نحو الدين الواحد رغم تعدد الشرائع لكون التواصي بالحق والتواصي بالصبر يعنيان الطلب المتعدد ومن ثم عدم ملكية أي إنسان للحقيقة وهو ما تشير إليه صيغة المشاركة في كلا التواصيين والتخلص من سلطة الوسطاء بين الإنسان والله. ومعنى ذلك أن الجهاد الذي قصرته الحركات الغالية على القتال يحط الشريعة إلى أدنى مستويات السياسة فيفقدها معناها الخلقي وأن الاجتهاد الذي حصروه في الفقه يحط الشريعة إلى أدنى درجات القانون فيفقده معناه الروحي فيصبح الوجود الإنساني كما نراه في الحركات السياسية الإسلامية جمعا بين المرضين اللذين أصابا الشريعة في القرون الوسطى: سياسة بلا أخلاق وقانون بلا روح فيصبح المجتمع آلة ميكانيكية تروض الإنسان بالتأثير الخارجي المستند إلى فعل القوة المادية في جسده أو إلى فعل القوة الرمزية في وعيه الباطن. وتلك هي ممزات عصرنا الحالي في العالم كله وفي العالم العربي والإسلامي خاصة لكونه يجمع بين المرضين كما تعينا في العصرين الوسيط والحالي وبصورة مضاعفة من خلال السلط الداخلية والسلط الاستعمارية التي نوبتها في إدارة مصالحها.
فظاهرة السياسة المتخلصة من الأخلاق والقانون المتحرر من القيم الروحية صارت ظاهرة عامة في العالم كله بحجة علمية المعرفة السياسية ونجاعة العمل السياسي مما أدى إلى الاستغناء عن الشرائع السماوية والأديان. وما حصل في الحركات الإسلامية كان استغناء عنهما غير صريح إذ كاد دور الشريعة أن يحصر في وظيفة المؤثر الإيديولوجي. كما أن السياسة بلا معنى خلقي والقانون بلا معنى روحي هما أداتا العولمة على الأقل كما نعيش وطأتها في العالم الإسلامي وكما بدأت تبرز على حقيقتها حتى للمواطن الغربي بعد شعوره بأثر السلط الخفية التي استحوذت عليها الشركات المتجاوزة للحدود الوطنية وحركات رأس المال والمضاربات فصار الحكم في غاية التحليل مجهول الهوية وديست المصالح الوطنية والخدمات العامة.
ويمكن أن نستنتج من بعض مبادئ الإسلام إشارات واضحة إلى هذين الدائين اللذين يصيبان المؤسسة السياسية والقانونية عندما تفقدان ما تستندان إليه أعني القيم الخلقية والروحية. وقد كانت صياغته لهذين الدائين صياغة سلبية: نقد مؤسسة الربا الروحي التي يمثلها سلطان موظفي البعد النظري من الشريعة ونقد مؤسسة الربا المادي التي يمثلها سلطان موظفي البعد العملي من الشريعة. ويمكن أن نقيس عليهما بدائهلما الحديثة بدائلهما التي هي الذهاب بهما إلى الغاية القصوى. لذلك كانت مضمون القصص القرآني المتعلق بمضمون التحريف كما يتبين لكل من قرأ القرآن الكريم بإمعان السعي إلى تخليص العمران البشري من صورتيه الأساسيتين:
*- السلطان الروحي الذي يدعي العلم المحيط ليكون وسيطا روحيا يغني عن الاجتهاد والتواصي بالحق لكونه يستعبد الإنسان بسلطانه على الرزق الروحي أعني الوساطة المزعومة بينه وبين المدد الإلهي روحيا فيؤسس هذا السلطان على الربا الروحي أو سلطان رجال الدين,
*- والسلطان المادي المحيط الذي يدعي العمل المحيط ليكون وسيطا ماديا يغني عن الجهاد والتواصي بالصبر لكونه يستعبد الإنسان بسلطانه على الرزق المادي أعني الوساطة المزعومة بينه وبين المدد الإلهي ماديا فيؤسس هذا السلطان على الربا المادي أو سلطان أصحاب المال. 
وهذان السلطانان عندنا أو بدائلهما في الحضارة الحديثة هما جوهر الآلية العولمية التي استبدلت السلطان الروحي بالتلويث الثقافي أو الاستعباد الرمزي للعقل الباطن من كل إنسان ( الإعلام والفنون الجميلة الموظفة ) واستبدلت السلطان المادي بالتلويث الاقتصادي أو الاستعباد المادي لجسد الإنسان الذي صار لعبة في يد الأيادي الخفية التي تتلاعب بالطبيعة ( المال والفنون التقنية الموظفة ). 


الخاتمة
إن القصد ا

 

 

08-05-2005 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=366