احتل مفهوم التقدم التاريخي مكانة مميزة لدى مؤرخي وفلاسفة الحضارات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بحيث يمكن اعتبار حضوره والتركيز عليه بمثابة الرد على الأطروحة الدينية واللاهوتية التي تعتبر أن التاريخ إنما ينحدر باتجاه الأسوأ ابتداءً من لحظة الحضور أو التجلي الأولى المتمثلة في ظهور النبي المبشر الذي حمل الدعوة لينقذ البشرية من ضلالها وينير لها طريق الصواب، بيد أن البشرية بعده نكصت على عقبيها واستمرت في تدهورها وانحدارها الذي لا يعرف له قرار الى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها. نلحظ مثل هذا التفكير في الأديان التوحيدية جميعها اليهودية والمسيحية والإسلام، فالعالم وفقاً لكل دين من هذه الأديان يحتفظ بالنظام والألق مع بدء ظهور الدين، غير أنه يصل الى نقطة بعد ذلك يبدأ عندها بالانحدار والانحطاط المتدرجين حتى نهاية الزمان. غير أن الأديان التوحيدية ليست وحدها من ابتكر مثل هذا النوع من الرؤية، بل إننا نجد أيضاً حضوراً قوياً لمثل هذه الأفكار في الحضارتين اليونانية والرومانية، فالشاعر الإغريقي هوارس على سبيل المثال يعبر بدقة: "الزمن يخفض من قيمة العالم". وهكذا ينظر الى الزمن وكأنه عدو الإنسانية مما أشاع نوعاً من البديهية المتشائمة لدى المفكرين الإغريق، وقد تحولت لدى الأوروبيين في القرون الوسطى بمثابة النظرية المرشدة فلسفياً ودينياً ولاهوتياً، ثم أصبحت بمثابة العقبة التي تقف أمام حضور نوع جديد من التفكير يحض على التقدم والعمل والازدهار، ولذلك أتت مقولة "التقدم الإنساني" بمثابة الرد المباشر والصريح على تلك الترسيمة المعوقة لحركة الإنسان، لقد أكد فرنسيس بيكون الذي يعود الفضل اليه في صياغة برنامج مجدد للفكر في التفكير الأوروبي عبر (الأورغانون الجديد)، أن الهدف الحقيقي للمعرفة تحسين الحياة الإنسانية، وزيادة سعادة الإنسان، وتخفيف معاناته، بل إن هذه الرؤية كانت بمثابة النجم الذي اهتدى به في جميع أعماله الفكرية، فالغرض المباشر لأعماله كان "تقدم سعادة الجنس البشري"، وهو لذلك يهاجم القديم ويحطم قداسته التي سادت لدى معاصريه ومجايليه، ويعتبر أن اللاحقين سيبدعون ويسبقون المتقدمين بلا شك، وأكثر من ذلك، فمع سيادة الفكر الإغريقي واليوناني وتحوله بمثابة المقدس والمرشد لأجياله، فاخر بيكون بكل اعتزاز أنه نسي كل ما تعلمه من الإغريقية وهو صبي، لقد كان يشدد باستمرار أن الفكرة الملهمة في عمله كانت باستمرار القطيعة التامة والحادة مع الماضي، وإقامة نظام لا يأخذ شيئاً من الأموات، وهو ما ألهم ديكارت صاحب أطروحة الشك المنهجي التي كثفها في الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود) الى التأكيد في كتابه المعلم (مقالة في الطريقة) أن "مشروع العلم الشامل هو الذي يستطيع أن يسمو بطبيعتنا الى أعلى درجات الكمال". لقد حرر عمل بيكون وديكارت العلم والفلسفة من نير سلطة الإغريق، إذ ما دام الناس يؤمنون إيماناً عقائدياً مطلقاً أن الإغريق والرومان قد بلغوا في أحسن أيام حضارتهم مستوى فكرياً لا يسع الأجيال القادمة أن تأمل بلوغه، وما دام مفكروهم يقدمون كمراجع لا يرقى اليها الشك، فإن نظرية الانحطاط قد بقيت تحتل الساحة، وتستبعد نظرية التقدم، لكن نقدية بيكون وديكارت قد أشاعت حساً تمردياً في الفكر والفلسفة كان من شأنه أن ينتقل الى الميادين الأخرى المتعددة. كان أول هذه الميادين هو الاعتراف الصريح بقيمة الحياة الدنيوية أو ما أصبح يعرف بالدنيوة، عبر إخضاع المعرفة للحاجات الإنسانية، وهو ما أفرز روحاً علمانية للنهضة هيأت العالم المتحرر من سلطة الكنيسة ومكنته من صياغة مذهب المنفعة أو المصلحة الذي يعنى بسعادة الإنسان أولاً وأخيراً. يمكن القول إذاً أن الصراع بين مفهومي أو بالأحرى نظريتي ورؤيتي الانحطاط والتقدم قد اختزل جوهر الحراك الفكري في عصر الأنوار الأوروبي فأصحاب مذهب التقدم كانوا يواجهون أصحاب نظرية الانحطاط بالأسئلة التالية:
هل يستطيع رجال اليوم أن يتباروا الند للند مع مشاهير القدماء، أم أنهم أدنى منهم فكرياً؟ وهذا السؤال نفسه كان يتضمن قضية أكبر وهي: ـ هل استنفدت الطبيعة قواها؟ هل أصبحت عاجزة عن خلق رجال يضاهون في العقل والقوة أولئك الذين خلقتهم ذات يوم؟ هل أصيبت الإنسانية بالإرهاق أم أن قواها دائمة ولا ينضب معينها؟.
الحجج
لقد كانت هذه الأسئلة بمثابة الحجج الضمنية التي دافع بها المحدثون أصحاب نظرية التقدم عن رؤيتهم، فأسئلتهم تلك كانت النقيض المباشر لنظرية الانحطاط التي ولد الرفض لها من غير شك نظرية التقدم الإنساني كما ذكرنا أكثر من مرة. لقد أصبح الفكر الأوروبي في العصر الوسيط أسير الفكر الأرسطي وأصبح مكبلاً بمقولاته ومفاهيمه، حتى أصبح الإعجاب المفرط باليونان عائقاً رئيسياً أمام التقدم الأوروبي، لدرجة أن مفكري العصر الوسيط الأوروبيين نسبوا الحقيقة كاملة لأرسطو وراحوا يبحثون عنها في كتاباته المبهمة وعبر تأويلات متعددة لا نهاية لها بدل أن يحاولوا أن يجهدوا لتأسيس منهج جديد في النظر، وهو ما لعبت كتابات ابن رشد المترجمة والتي أصبحت تعرف لدى الأوروبيين (بالرشدية اللاتين) دوراً بارزاً في تحطيم الأسطورة الأرسطية التي سادت لدى الأوروبيين. لكن فكرة التقدم نفسها التي بررت نفسها بأن الإنسانية تختزن في كل عصر من عصورها خلاصة الثقافات والحضارات التي سبقتها وقعت في فخ ذاتها، فإذا كان فونتيل أول من صاغ فكرة تقدم المعرفة كمذهب كامل فإن شيوعها ارتبط بعدد من العوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية وحتى الاستعمارية والعسكرية فتعميم مبدأ العلم وتحويله الى قوة حية في المجتمعات الأوروبية جعل لنتائج الاكتشافات الصناعية والعلمية المتتابعة رصيداً لا قرار له لدى الناس، وأصبحت إنجازات الفيزياء أكبر دليل ومبرر لصحة اتجاه مفهوم التقدم، ما حول مفهوم التقدم نفسه في مخيلة الناس الى عقيدة أيديولوجية جديدة بدأت تشق طريقها ويزداد معتنقوها الى حد أنها أصبحت بمثابة الأيديولوجية الرسمية التي قامت عليها عدد من الدول الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وخلاصة هذه الأيديولوجيات كانت تقوم على أن الإنسانية خلافاً للفرد، تتألف من جميع العصور، فالفرد يعيش مرحلة شيخوخة، أما الإنسانية فإنها لا تشيخ أبداً وهي لذلك تكسب دائماً بدلاً من أن تخسر، أما عصر النضج فإنه يدوم الى ما لا نهاية لأنه نضج يتقدم من غير توقف. والأجيال اللاحقة ستكون دائماً متفوقة على الأجيال السابقة، ذلك أن التقدم هو نتيجة طبيعية وضرورية لتكوين العقل الإنساني.
ومع اكتساح فكرة التقدم منافستها القائمة على نظرية الانحطاط، فإنها ستبث انتصارها ذاك على كافة المجالات الإنسانية العلمية والصناعية والفلسفية والسياسية وسيصبح لها روادها المخلصون الذين دافعوا بحرارة وحماس مفرطين عنها، وإذا كانت هذه الفكرة قد تلقت ضربات موجعة على يد روسو وأتباعه الذين اعتبروا أن التطور الاجتماعي كان خطيئة جسيمة، وأن الإنسان كلما ابتعد عن الحالة البدائية البسيطة أصبح أكثر تعاسة، ولذلك فالحضارة بحسب روسو تتصف في جوهرها بالفساد، بالرغم من مقالة روسو تلك التي بدت كنقيض لفكرة التقدم فإنها لم تشهد رواجاً حقيقياً، بحكم أن التطور والتقدم الصناعي والعلمي كان في ذلك الوقت يحقق نتائج باهرة للإنسان، وكان يحصد نتائجها المواطن البسيط ذاته، وهو ما جعل رؤية روسو المتشائمة تلك أشبه بنوستالوجيا شاعرية لم تحصد لها مناصرين على أرض الواقع. بل إن الفكرة الفلسفية ذاتها بدت حازمة أمرها تماماً على النظر الى الإنسانية وفق أفقها الواسع، ففيخته كان أول فيلسوف حديث يضفي الطابع الإنساني على الأخلاق، فهو قد نبذ نبذاً كاملاً فكرة التصور الفردي الذي يشكل أساس علم الأخلاق "الكانطي" والمسيحي على السواء، إذ أكد أن الدافع الحق الى الأخلاق ليس خلاص الفرد، بل تقدم الإنسانية، وفي واقع الأمر وكما يقول المؤرخ بيري فإن التقدم أصبح مع فيختة مبدأ علم الأخلاق مما يجعل المثل الأعلى المسيحي للورع الزهدي ليس ذا قيمة أخلاقية.
ومع تعميم مثل التقدم على الفروع الإنسانية الأخرى، في التاريخ مع فيكو، وفي علم الاجتماع مع فورييه وسان سيمون وكونت، وفي البيولوجيا مع دارون، وفي البيولوجيا التطورية مع هربت سبنسر، وفي الاقتصاد مع ماركس وانغلز، وفي الفلسفة مع هيغل، وغيرهم كثيرين، مع هؤلاء جميعاً وصلت فكرة التقدم الى نهايتها واستنفدت طاقتها، بحيث أصبحت أشبه بالفكرة الاستعمارية من حيث تبريرها لغزو واستعمار الحضارات والشعوب الأخرى بغية ضمان تقدمها وإدخالها في سلك الحضارة البشرية، وهكذا تحولت فكرة التقدم ذاتها الى فكرة نابذة واستبدادية عبر إعادة إنتاجها في إطار الحداثة الغربية وتحديداً مع بداية القرن التاسع عشر، ذلك أنها تحولت مع شقيقاتها كمفهومي العقل والذاتية وهي ما يعتبرها آلان تورين أسس الحداثة الغربية، لقد تحولت الى أدوات لممارسة نوع من المركزية الغربية برر لها استعمار كل من الهند والجزائر بحجة أن هذا الاستعمار يمكن أن يجلب لهما التقدم والحضارة عبر الاستعمارين البريطاني والفرنسي لكل من الهند والجزائر، وهو المبدأ ذاته الذي وجد فيه هيغل نفسه ملجأ للتسامح اتجاه سقوط دولته أمام الجحافل الفرنسية تحت قيادة نابليون لأن اتجاه التاريخ يتجه صاعداً مع نابليون ذاته. مع وصول المركزية الغربية ذروتها في طرد ونبذ الآخر والمختلف سينشأ عدد من المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين رغبوا في تحطيم أصول هذه النزعة المركزية، وربما كان من أسبقهم نيتشة الذي أخذ منه فوكو الكثير وأسس لاتجاه ما بعد البنيوية الذي كان رائداً وموجهاً لتيار الحداثة متمثلاً في جان بودريان وجان فرانسوا ليوتار وغيرهما. لقد اعتبر فوكو أن التاريخ لم يكن صقيلاً متسقاً كما تصوره هيغل، إنه لم يكن أليساً ومتسقاً تماماً، ويسير على نظام واحد، بل قد شهد انعطافات وانتكاسات حادة وجذرية، ففي الوقت الذي يتطور فيه العلم والطب بدأب وجد يتطور السلاح الذري بشكل مخيف ومرعب كما استخدم في هيروشيما وناغازاكي، وإذا كانت مقولة حقوق الإنسان قد حققت اكتساحاً عالمياً مع تحولها لمفهوم دولي موجه، فإن الإنسان ذاته أصبح عرضة لمزيد من الانتهاكات من خلال تطور الآلة والتقنية ذاتها التي استخدمت لتعذيبه جسدياً وإفقاره اقتصادياً عبر الاستغناء عن خدماته.
إن مفهوم التقدم الإنساني أصبح محض خيال عصر الأنوار المتفائل، والحداثة التي أنتجت هذا المفهوم لتبرير صيرورتها ومسارها أصبحت عقبة أمام حرية الإنسان وفاعليته، إذ الإنسان هنا لم يعد الإنسان الغربي وحده، وإنما أصبح الإنسان بما هو إنسان في ذاتيته وكينونته وليس بما هو نتاج عرقه أو لغته أو حضارته وثقافته. إن ا لمشترك الإنساني هو أعم بكثير وأوسع وأرحب من اختزاله في صورة الإنسان الغربي الذي ساد مفهومه لعصور طويلة كان مفهوم التقدم حاملاً قانونياً وشرعياً له.
هكذا إذن ومع تفكك المركزية الغربية عبر عديد الضربات التي وجهت لها بدءاً من نيتشه وهيدغر ومروراً بفوكو وشتراوس وانتهاء بدريدا وهابرماز ستطوى الصفحة تماماً عن مفهوم التقدم التاريخي فلسفياً، ومع سقوط الاتحاد السوفيتي الذي حمل لواء أيديولوجية الحتمية التاريخية سيسقط مفهوم التقدم سياسياً أيضاً وعندها سنقترب من عودة أو ردة لمفهوم الانحطاط ولكن بشكل جديد عبر الكتابات المتكاثرة والمتزايدة التي تتحدث عن نهاية التاريخ مع فوكوياما أو "نهاية العالم" كما تشهد ذلك مئات الكتب التي تبشر بالنبوءات التوراتية التي تستعجل القيامة بوصفها مخرج البشرية الأخير، ذلك أنه مع سيطرة المحافظين الجدد والإنجيليين الجدد على معظم مراكز صنع القرار في إدارة جورج بوش الابن في الولايات المتحدة، والتي شنت حرباً غير شرعية على العراق بالمعايير الدولية، سادت نظريات قيامية لدى الطائفية المعمدانية الإنجيلية التي هي الأكبر عدداً في الولايات المتحدة إذ يبلغ تعدادها 16 مليون تقريباً، وأصبحت تصدر كتباً وقصصاً وروايات هي الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة ومعظمها يدور حول قرب نهاية العالم واقتراب موعد القيامة ونهاية الأزمنة التي يجب أن تختم بمعركة هرمجدون كما في روايات جيري جنكتر والقس المتقاعد تم لاهاي التي بلغ عددها إحدى عشرة رواية وباعت في الولايات المتحدة وحدها خمسين مليون نسخة وجميعها تبني حبكتها حول "علامات الساعة" التي تؤذن بالواقعة الأخروية التي تستعد لخوضها قوى الخير ضد جحافل الشر. والمسيح ضد المسيح الدجال، إنها كارثة بدأ العد العكسي لحدوثها، وسوف تسفر عن مليارات القتلى ولن ينجو منها سوى حفنة من "المختارين" المكلفين بتمهيد الطريق لعودة "المسيح" المخلّص.