/

 

 

"الاجتماعيات الإسلامية": مصطلحاً بديلاً لقطبين راديكاليين

عبد الرحمن الحاج

الحديث عن أسلمة العلوم الاجتماعية تجاوزه الزمن، لكن المشكلة المتعلقة بالعلوم الاجتماعية بقيت هي هي، فدارسي العلوم الاجتماعية مازالوا إلى اليوم غير قادرين على صياغة علوم اجتماع إسلامية؛ مما يضطرهم للاستسلام لمقولاتها الوضعانية حيث لا بديل لهم عنها.
كانت أسلمة العلوم الاجتماعية قد لعبت دوراً مهماً في التعاطي الإيجابي مع المعرفة الغربية الاجتماعية، فـ"استعمال مصطلح الإسلامية في "إسلامية المعرفة" [بُرر] في محاولة لتأكيد الهدف التحريضي من جهود الأسلمة والإسلامية في العمل العلمي والمعرفي المعاصر، والهدف النقدي والتقويمي للمعرفة المعاصرة وإحالاتها الفلسفية وأسسها النظرية، والهدف العملي في توظيف المعرفة للأغراض المشروعة في الواقع الإسلامي" (فتحي ملكاوي، هوية المعرفة)، لكن وعلى الرغم من ذلك فقد لقي هذا المشروع نقداً ابستمولوجياً شديداً، ومع الزمن بدت فكرة "أسلمة العلوم الاجتماعية" كما لو أنها حاجز يحول دون النفاذ إلى المعرفة الاجتماعية الحداثية ذاتها التي تطالب هي بالتواصل معها!.
سؤال أسلمة المعرفة الاجتماعية: كيف يمكن التعاطي مع المعرفة الاجتماعية في المجال الاجتماعي والثقافي والمفاهيمي الإسلامي دون تحمُّل النهايات الفلسفية الغربية الوضعيَّة؟ هذا السؤال ما زال راهناً برأيي، لكن علينا أن نجيب عنه بطريقة جديدة، فكابوس الهوية وسواها الذي شغل إجابة "أسلمة العلوم الاجتماعية" يمكننا تفهمه في ظروف نشأة الفكرة زمانياً ومكانياً، واعتقادي أن على أصحاب الفكرة القيام بتفكيك جدي لتلك الظروف لتجاوزها، غير أنني أقترح في إطار الإجابة عن السؤال أن لا نقف طويلاً أمام مسألة الهوية، فصراع الهويات صراح عقيم وكتيم، لا يصلح مدخلاً للتعاطي الإيجابي، بقدر ما يصلح مدخلاً للنَّفي والإقصاء، وبدلاً من ذلك يمكننا أن نتجه إلى مدخل آخر هو الكشف عن مشكلات المعرفة وتطويرها عبر تطبيقاتها في المجال الإسلامي؛ إذ سيكون هذا بمنزلة مختبر للمعرفة الحداثية، وقدراتها على فهم الظواهر ودرسها، أي إنجاز ما يمكنني تسميته بـ"الاجتماعيات الإسلامية".
ويجب أن نلاحظ الأفق الجديد الذي فُتح للخطاب الإسلامي في التسعينيات مع استراحتة من الصراع الأيديولوجي مع الماركسية؛ إذ صاحب هذه الاستراحة ولادة حركة نقدية واسعة للحداثة الغربية، كان كثير من المثقفين الإسلاميين الجدد على مقربة منها؛ فاللغة ما عادت حاجزاً؛ حيث تسارعت حركة ترجمة بالغة الأهمية توجهت نحو نتاج الغرب الليبرالي الفلسفي والمعرفي (حقل العلوم الإنسانية)، مما ساعد على تكوين رؤية أكثر عمقاً بالحداثة ذاتها، فلم يعد زمن الحداثة الغربية على صورته الأسطورية، كما لم تعد المعرفة الإنسانية ذاك المجهول الذي يناقش الموقف منه عن بعد، هذه المعرفة الإسلامية الجديدة بالغرب وعلومه ما كانت متيسرة من قبل، بل ما كانت ممكنة أساساً إذا ما أخذنا بالحسبان جملة الظروف التي نشأ فيها النقاش حول المعرفة الغربية الاجتماعية.
أعود للاجتماعيات الإسلامية، إذا كان الاستشراق التقليدي يرفض ـ بمبررات سكولاستيكية (مدرسية) أو حتى أيديولوجية تتعلق بالمركزية الغربية ـ تطبيق العلوم الاجتماعية على المجال الإسلامي، فإن الاستشراق الجديد اتجه في معظمه إلى جزء من المعرفة الاجتماعية، أعني الأنثربولوجيا (مثل "أرنست غيلنر")، والأنثربولوجيا فعلياً تعزز المركزية الغربية وتحتقر بطريقة ما المجال الثقافي الإسلامي والعربي، فتبحث في ذلك المخلوق المسلم غريب الأطوار وفضائه الاجتماعي والثقافي كما لو أنه كائن آخر! بالتأكيد ليس علينا أن نفرض على الغرب نظرته، فأوضاعنا الراهنة جعلتنا أقل شأناً ـ بالنسبة للغرب ـ من قبل، وكما يشير رضوان السيد فإن طريقة تعامله وفهمه لنا مرهونة بحالتنا، أمة بهذا الحال لا تستحق موضوع علم مستقل في الغرب (الاستشراق)، هذا ما يستبطنه عموماً التوجه الجديد للاستشراق لدى تحوله إلى الأنثربولوجيا، علينا إذاً أن لا ننتظر من الغرب أن يطبق هذه المعرفة الحديثة على مجتمعاتنا، فحاجتنا لمعرفة مخارج الأزمات والمشكلات حاجة ذاتية قبل كل شيء، مرتبطة بشكل قوي جداً بمعضلة التنمية وأمل النهضة.
أما البحوث الاجتماعية الإسلامية (أعني في الفضاء الإسلامي) فهي ما تزال تعاني الفِصام، ليس لأنها "تكاد" لا تستطيع أن ترى الظواهر في مجتمعاتنا إلا بعيون حداثية غربية، بل لأنها لم تمارس بعد نقد المناهج والعلوم الاجتماعية بناءً على نتائج تطبيقاتها، ولعل المثال الأبرز في هذا المجال محدودية استثمار البحث الغوي في فهم الوعي الاجتماعي (على افتراض أن البحث اللغوي جزء من العلوم الاجتماعية)، فالدراسات اللسانية الحديثة لم تأخذ حقها فيها بعد، وعندما تم تطبيقها في مجال الدراسات القرآنية طُبِّقَت على خلفيات أيديولوجية وضعية (ماركسية في الغالب)، ومع ذلك ما تزال التطبيقات في بدايتها، ولكن هناك بالتأكيد محاولات جديدة ظهرت حتى الآن تمكنت عموماً من تطبيق العلوم الاجتماعية بنجاح دون حاجة إلى جدل نظري فلسفي كبير (مثل: عبد السلام المسدي، أبو بكر أحمد باقادر، طلال أسد، محمود الذوادي، وغيرهم).
ما أدعو إليه في "الاجتماعيات الإسلامية" هو أن يتم التخلي عن صراع الهوية في سياق تعاملنا مع المعرفة الاجتماعية الحديثة، حتى لا نبقى على عتبة هذه المعرفة دون أن ندخلها ونستفيد من منجزاتها، وأن ننتقل خطوة إلى الأمام بتطبيق هذه المعرفة، وامتحانها وتطويرها أو تحويرها وفقاً لمقتضيات الفضاء الخاص بنا، سيكون هذا بظني أجدى لاستثمار المعرفة الحديثة؛ إذ سيتنقل الجدل النظري القَبْلِي حول جدوى هذه المعرفة والمشكلات الابستمولوجية المفترضة فيها إلى نقاش عملي بَعْدِي، يجعل المشكلات التي تظهر في اختلاف المجال التطبيقي قابلة للحل؛ لأنها مشكلات عملية وليس جدلاً نظرياً فلسفياً بحتاً.
على أن "الاجتماعيات الإسلامية" ليست هي "الإسلاميات التطبيقية" التي دعا إليها محمد أركون في مرحلة من مراحله، فالإسلاميات التطبيقية هدفها دفع المجتمعات المسلمة باتجاه التحول الحداثي الغربي، باعتبار الحداثة رؤية فلسفية ومساراً تقدمياً كونياً وحتمياً، وليس مجرد فهم الظواهر الاجتماعية الإسلامية واستثمار المعرفة الاجتماعية في تخطيط التنمية، ولذلك فإن الإبقاء على النزعة الوضعية والأيديولوجيا الليبرالية وراءها أمر ضروري، ولا يجوز المساس بهذه النزعة؛ لأنها جوهر الرسالة التي يراد تحقيقها عبر "الإسلاميات التطبيقية"، وذلك على خلاف "الاجتماعيات الإسلامية" التي تهدف أولاً إلى إقامة نوع من المواءمة العملية بين العلوم الاجتماعية الحداثية، والفضاء الثقافي الإسلامي، بما يقتضي ضرورة النقد والتعديل والإضافة لفهم الظواهر الاجتماعية والتخطيط وفق رؤية واقعية لا تحجُبُها النهايات الفلسفية الوضعية أو تعمِّيها، بل إنها تطمح إلى امتحان العلوم الاجتماعية ذاتها بتطبيقها على فضاء ثقافي واجتماعي جديد. وتهدف ثانياً إلى التخطيط للتنمية وتحقيقها وفقاً لمسار طبيعي ذاتي يولد من توجهات المجتمعات الإسلامية وحاجاتها وليس بنزعة تقليد إيمانية بالمسار الخطي الأوربي للنهضة بوصفه مساراً كونيا حتمياً، بل بوصفه مساراً من مسارات أخرى ممكنة، تسعى "الاجتماعيات الإسلامية" لاستكشافها.
 

 

 

 

07-05-2006 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=379