/
الهوية والعولمة: أي تحدٍّ؟
محمد عمر سعيد
يرى الأنتروبولوجي الفرنسي جون بيار فارنييه في كتابه "ثقافة العولمة"(1) أن المشكل الحديث للثقافات في العالم متعدد الأطياف حيث نجد أن إحدى عادات شعب معين موجودة لدى شعب آخر هو بعيد عنه جغرافيا و أيضا بعيد عنه ثقافيا وحضاريا؛ بما يشير إلى أن السيطرة ليست وحدها هي التي تفرض أنماطاً ثقافية مهيمنة على أخرى ضعيفة ولكن الأصل هو التنوع، إذ بذلك نجد أن الشعب الواحد يستمد هويته من عدة ثقافات تشكل في الأخير نسقه الثقافي الخاص به.
فالحديث عن الهوية ومحاولة تحديدها لا يجب أن ينطلق من مجرد رؤية وتصور ذهني نظري، إذ الهوية تعيُّن واقعي يحياه الإنسان لمجرد كونه إنسانا يعيش ضمن إطار تاريخي معين، كما أن الهوية ليست جامدة بل هي متحولة ومتغيرة تتخلَّق في الزمان والمكان باستمرار و بأشكال متعددة لا يمكن تحديدها نظريا إلاّ بعد تحققها العملي واقعيا؛ ومن هنا فإن تحديد الهوية نظريا بالمقابل ليست ترفا فكريا بل هي حاجة اجتماعية واقعية تحتّمها الشروط التاريخية التي تتطلب "وعي الذات"، بمعنى انفتاح الإدراك على مكونات الذات الاجتماعية التي تميزه عن غيره انطلاقا من نسبية المعرفة والسلوك التي تميز الوجود عامة والإنسان بشكل أخص، وهي نسبية منفتحة على الزمان والمكان.
و بالمقابل تشكل العولمة اليوم أحد أهم العناصر المكونة للواقع المحلي للمجتمعات، بداية بالتحديث الذي أدخل السيارة والطريق السريع والنقال وغيرها، وصولا إلى انتشار الإعلام التلفزي (الفضائيات) بصورة كبيرة والإعلام السيبري (الأنترنت) بشكل أقل، ومنه فإن الهويات المحلية لا يمكن لها أن تعبر عن نفسها وهي مستقلة عن (العولمة) حتى وإن توهَّمَت ذلك، وهذا لأن من خصائص العولمة الزَّحف الذي يجعل المرء لا ينتبه إلا وهو متبوتق ضمنها بصورة لا يمكنه الفكاك عنها.
فالعولمة ليست شعارا للتباهي أو لتخويف الناس منه قصد اكتساب نوع من السلطة الوهمية على الناس بالجعل ممن يتحدث عنها مرجعية مهيمنة لها القدرة على صياغة الوضع والتأثير فيه، فلو لم تكن هناك عولمة لكنا أول الداعين إلى التخلي عن وهمها، لكن الوهم الحقيقي هي تلك الصورة الأحادية التي يحملها معظم الناس عنها فإما عزوف تام عنها وإما تلهف وراء ما يبدو أنه إيجابيات مادية لها، لكن الأمر عدا ذلك تماما، كما أنه أيضا ليس نزوع نحو رؤية الإيجابيات واستغلالها والسلبيات وتجنبها وفق رؤية تبسيطية سطحية، إلاّ أن أهم ما يجب فعله أمام هذه الظاهرة الجديدة في مظهرها والقديمة في جوهرها، هو القيام بالجهد المعرفي والروحي قصد فهم آلياتها ووعي تأثيراتها، وأعتقد أن هذا الجهد المطلوب هو ما يجب أن تنفق فيه الجهود والأوقات المُكْلِفة أداء للمهمة التاريخية والواجب الحضاري.
وبالمقابل فإن كون تحديث وأعلمة (من المعلوماتية) المجتمعات المحلية ليس متحررا من الهيمنة الأيديولوجية للأقوياء (الدول المتقدمة وعلى رأسها أمريكا)، وهي الهيمنة التي تأتي إكراها ورغما عن إرادة الشعوب و عن خصوصيتها الاجتماعية سواء كان ذلك عن طريق التحديث أو الإعلام و السياسة، وما نعنيه بالإكراه هنا هو ليس فقط الضغوط التي تمارس على حكومات الدول على وروده وإمكانيته، فالإكراه هو ما يتم إحداثه من تواطؤ بين حاجة الإنسان الفطرية (الأكل الشرب الملبس...) ورغباته الغريزية (ونعني بها الجنس التعصب حب المال ...).
فالإنسان في مجتمع مابعد الحضارة وهو في حالة غياب الوعي (وهو وضع التخلف) لا يستطيع التمييز بين ما يجب معرفته (مثلا مشاهدة الأفلام للتعرف على الآخر وقيمه) وبين ما يجب الحصول عليه (من قيم يشاهدها في الأفلام هو في حاجة إليها). فهنا تطرح قضية "وعي الذات" نفسها كأولى الأولويات الإستراتيجية في المجتمعات؛ وهنا كذلك يجب خلق مسافة بين الإنسان وما يراه ويعرض عليه حتى لا يحدث الخلط الذي غالبا ما يتسبب في الانتهاء إلى أخذه الجانب الغريزي المضر بهويته، ويكون للجانب الفطري منه مهمة "مفتاح المرور" فحسب.
لذلك كان من الأجدى طرح إستراتيجية واضحة تهدف إلى خلق نوع من التوازن المرحلي بين الغالب والمغلوب وهو نموذج التفاعل من خلال خيار مفترض مفاده احتواء الأنساق الاجتماعية المحلية لنسق العولمة الإكراهي الزاحف، من خلال بسط الفعل الاجتماعي الداخلي وفقا لنظيره الخارجي (العولمي الإكراهي الزاحف) بفهمه ووعيه، وهذا في إطار إستراتيجية التحول الخصائصية للمجتمعات أي التحول من الخصائص النابعة من مرتكزات تقليدية مثل الاستقلالية والانعزال إلى الخصائص النابعة من ركائز حديثة مثل الانفتاح والمشاركة العالمية، وهذا في موازاة الإستراتيجية التحويلية الخارجية التي عملت وتعمل على إنتاجها المعطيات العالمية الراهنة (التكنولوجية الثقافية، وثقافة التكنولوجية).
كما يجب التمييز كذلك بين كون التثاقف بين شعوب العالم هو من القضايا البدهية للوجود وبين الإكراه الثقافي المار عبر قنوات السياسة، ومن أجل ذلك وجب التخلص أولا من عقدة الأنا الطاهرة والآخر المشبوه، والتحول إلى اعتبار الفعالية والدافعية المرجع لتحديد الصواب من الخطأ نأيا بالذات عن المساجلات السياسية الناتجة عن التيه الثقافي والروحي للأمة.
فالدراسات الأنتربولوجية (علم الإنسان) تعلمنا كيف أن الإيغال في تقصي ثقافات الشعوب تؤدي بنا إلى اكتشاف الذات وهي متشظية الهوية بين أقوام كثيرة بما يزيل أوهام الطهارة والنقاء العرقي والثقافي؛ فالمسألة إذن تكمن في الصيغة المحدثة للتفاعل المتمثلة أولا بالوسائل التكنولوجية التي تقرب البعيد بسرعة مذهلة، وثانيا في الهيمنة على تلك الوسائل تقنيا وسياسيا، وارتباط منشأ الوسائل بالهيمنة أدى إلى غبش في الرؤية وخلط مفاهيمي انعكس حتى على التصورات الفقهية التي صارت تحرّم الوسائل الحديثة مثل التلفزيون والتصوير الفوتوغرافي والموسيقى واعتبارها وسائل شيطانية تنشر الفساد الأخلاقي من رقص وعري ومجون!! وأن النجاة في الآخرة يستتبع الابتعاد عنها.
على أن مبرر تلك التصورات يمكن تفهمه بأمر واحد هو الفقر الثقافي والفني الذي تعاني منه الثقافة الإسلامية بسبب جمودها وهيمنة التعامل الأحادي الجانب معها سواء من طرف الآخر الذي يضفي عليها آليا قيمه الخاصة به، أو من الممارسة الثقافية والفنية المغتربة في الداخل الإسلامي سواء الاغتراب المكاني حيث الابتذال والمجون أو الاغتراب الزماني حيث الماضوية وضيق الأفق؛ وكل هذا تواطأ مع غياب الثقافة التي ترفع الوعي والفن الذي يهذب حس الإنسان.
فالهوية تبعا لذلك وبشكل طبيعي ستكون في أحسن الأحوال مترهلة نظرا لعدم التزام إنسانها (الذي ينتجها بنفسه كما أسلفنا بأنها متخلِّقة عبر الزمان) بالقيم الأصيلة للمجتمع المسلم وانعدام الإنتاج المادي والثقافي الذي يلامس فطرة الإنسان ويجتهد في إحيائها. ـــــــــ (1) جون بيار فارنييه، ثقافة العولمة، ترجمة: عبد الجليل الأزدي، الطبعة الأولى، دار القصبة الجزائر، 2002.
|
26-08-2006 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=383
|