تمهيد: (في مفهوم رؤية العالم)
شاع تعبير "رؤية العالم" في العقود الأخيرة في جميع الكتابات التي تتعلق بالأسئلة الكبرى في الدين والفلسفة والعلوم، حتى أصبح مفهوماً مفتاحياً في فهم جوهر النشاط العلمي؛ إذ يقوم هذا المفهوم بدور حاسم في الممارسة العلمية، ويتداخل مفهوم رؤية العالم في مختلف حقول المعرفة: في الدين، والفلسفة، والعلوم الاجتماعية والطبيعية، والفنون، والعلوم التطبيقية، أما أصل هذا المصطلح فإنه يعود إلى "إيمانويل كانت" (1724-1804م)، حيث استخدم المصطلح بالألمانية Weltanschuung، لكن استخدامه على نطاق واسع وبصورة تشير إلى الدلالات المعاصرة ينسب إلى الألماني وليلهام دلثاي Welhelm Dilthy (1833-1911)، فالرؤية كونية أو رؤية العالم مصطلح بدأ في الفلسفة الألمانية ليدل على مفهوم أساسي مستخدم في هذه الفلسفة والايبستمولوجيا وتشير إلى طريقة " الإحساس وفهم العالم بأكمله " wide world perception ، بالتالي يمثل الإطار الذي يقوم من خلاله كل فرد بتفسير العالم المحيط والتفاعل معه ومع مكوناته، و"كل رؤية للعالم Worldview تحوي داخلها ميتافيزيقا (أي أنطولوجيا وإبستمولوجيا) كما يرى بعضهم أن الإبستمولوجيا تعني (رؤية العالم)"(1) ، فوظيفة رؤية العالم في الأساس هي تزويدنا بالإطار العام الذي نفهم به كل شيء ونفهم أنفسنا أيضاً، وجعل فهمنا ضمن كلٍ موحد، فكلما حاولنا أن نكوِّن فهماً معيناً أو نصوغ نظرية لتفسير شيء ما، فإننا بالضرورة وبطبيعة عمل العقل نستخدم رؤيتنا للعالم، ولذلك فإن وظيفة رؤية العالم هي وظيفة معرفية، وهي الأساس لأي نظرية معرفة وأيّ جهد لاكتسابها أو توظيفها(29 .
و"رؤية العالم" أو "الصورة الكونية" تستند إلى مستويين الأول يؤلف الكتلة الأساسية للمعتقدات والمسلمات الافتراضية عن العالم الحقيقي الواقعي، والتي يمكن في ضوئها الوصول إلى إجابات شافية عن التساؤلات حول مغزى الكون والوجود، ويتعلق المستوى الثاني بالسياق التصويري ـ الواعي والارادي ـ الذي تضع فيه الذات الجمعية نفسها ضمن تقسيمات العالم الواقعية أو المركبة من النواحي الثقافية في الأصل، لكن أيضاً من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والسياسية(3) .
من هذا المنطلق فإن مقاربتنا تحاول استشفاف أبعاد الوعي بتحولات العالم وطبيعة النظرة إليه في الفكر الإصلاحي، وذلك من زاوية تصور العالم الإسلامي وطبيعة الوحدة التي يمكن أن تجمعه، وسنقارن في هذا المجال بين رؤيتين لهما صلة بنقطة مركزية في تحولات العالم الإسلامي ألا وهي الخلافة، فالرؤية الأولى قدمها الكواكبي عام 1899م مستبقاً بها مصير الخلافة بربع قرن أما الثانية فقدمها مالك بن نبي بعد سقوطها بأكثر من ربع قرن 1958م، وستتضمن الورقة العناصر التالية:
أولاً- الجامعة الإسلامية (استباق سقوط الخلافة):
ثانياً- أم القرى ..تصور الكواكبي للعالم الإسلامي:
ثالثاً- "فكرة كمنويلث إسلامي".. رؤية مالك بن نبي للعالم الإسلامي:
خاتمة- مقارنة بين الكواكبي ومالك بن نبي في تصور العالم الإسلامي:
أولاً- الجامعة الإسلامية (استباق سقوط الخلافة):
لقد قدم رواد النهضة في القرن التاسع عشر مجهودات متنوعة ومتعددة في التعامل مع المشكلة الحضارية والإجابة عليها، وكان ذلك نتيجة وعي بالوضع الكارثي الذي آل إليه العالم الإسلامي، لكنهم اختلفوا في تصور تحقيق صحوة العالم الإسلامي، فرأى جمال الدين الأفغاني أن السبيل إلي ذلك هو في إقامة 'الجامعة الإسلامية' ويعنى بها "الرابطة التي تربط بين المسلمين في مختلف الأقطار من فرس وترك وعرب" وكانت طريقته لذلك قوية عنيفة، إذ كان يريد الثورة على الملوك والأمراء في الداخل، وإشعال نار الشعوب ضد الخارج، أما الشيخ محمد عبده فكان في ذلك هيناً ليناً يريد الجامعة الإسلامية من طريق التربية والتعليم، وكان عبد الرحمن الكواكبي أقرب إلى جمال الدين الأفغاني، وكان أشد في محاربة الأمراء، وألف في ذلك العهد كتاب (طبائع الاستبداد) ضد السلطان عبد الحميد، كما "ألف أم القرى لرسم خطة الجامعة الإسلامية"(4) .
وقد اتخذت فكرة الجامعة الإسلامية العديد من المدلولات والمعاني؛ فالأفغاني الذي يعد الأب الروحي للفكرة قصد بها إيجاد شكل من أشكال التشاور والتعاون والتضامن فيما بين الأقطار والشعوب الإسلامية، مع احتفاظ الوحدات السياسية باستقلالها، وفي هذا الصدد يقول في مقالة له عن الوحدة الإسلامية نُشرت بالعدد التاسع من "العروة الوثقى" (22 مايو 1884): "لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصًا واحدًا فإن هذا ربما كان عسيرًا، ولكن أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته، وبقاءه ببقائه". فكانت دعوة الأفغاني مؤسسة على إنشاء "كومنولث إسلامي" بقيادة تركيا تحت راية "الخليفة العثماني"، وأعضاؤه يتمتعون بالحكم الذاتي في إدارة شؤونهم الداخلية، وكان يرى أن صعوبة قيام وحدة إسلامية بين أجزاء العالم الإسلامي هي صعوبة عملية ولم يتخل تماماً عن الوحدة السياسية، وليس هناك كبير اختلاف بين أفكار الشيخ محمد عبده (1849 – 1905) وأستاذه الأفغاني فيما يتعلق بفكرة الجامعة الإسلامية، لكن الشيخ محمد عبده وبعد تعطيل العروة الوثقى عام 1884 وفشل مشروعات الجامعة الإسلامية اقترح على أستاذه اعتزال السياسة، وصرّح في غير مواربة أن "السعي إلى توحيد كلمة المسلمين وهمٌ كما هو همٌّ".
أما المفكر عبد الرحمن الكواكبي (1854 – 1902) فقد تخيل في مؤلفه الأشهر "أمّ القرى" أن مؤتمرًا إسلاميًا قد عقد في مكة المكرمة، حضره- كما تخيل الكواكبي- ممثلٌ أو أكثر لكل قطر إسلامي، وقد اقترح أن يتضمن جدول أعمال المؤتمر أربعة نقاط تدور معظمها حول بيان حال الأمة الإسلامية وما تواجهه من مشكلات، وقد تبارى أعضاء المؤتمر في وصف تلك الحال وبيان أسباب الفتور، وكانت خلاصة المناقشات- كما ورد على لسان الكواكبي- أن أسباب الفتور تعود إلى فقدان الاجتماعات، وأن المسلمين نسوا حكمة "تشريع الجماعة والجمعة والحج"، ولم يكن الكواكبي يهدف إلى انعقاد المؤتمر في حد ذاته، بل كانت له أهداف بعيدة، وطالب بضرورة قيام تنظيم دولي إسلامي يكون نواة الجامعة الإسلامية(5) . فمع الكواكبي وصلت فكرة الجامعة الإسلامية إلى طور التأسيس النظري والمأسسة إن صح التعبير وذلك من خلال ما طرحه في أم القرى، فما هي أبعاد تصوره.
ثانياً:أم القرى ..تصور الكواكبي للعالم الإسلامي
1- العالم الإسلامي في عصر الكواكبي:
كانت أوضاع العالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي في حالة لا يمكن لمصلح أو مهتم بالشأن العام إلا أن يبدي موقفاً تجاهها، فالمغول المسلمون في الهند وحضارتهم سقطت أمام المدافع البريطانية وتم احتلال الهند، والصفويون في إيران كذلك، وخضعت دول شمال إفريقيا العربية للاحتلال الفرنسي، واندونيسيا لهولندا، ومصر لبريطانيا، وجنوب الجزيرة العربية وسواحلها تحت النفوذ البريطاني، والدولة العثمانية إلى أفول بعد احتلال أجزاء واسعة من جغرافية جسدها المريض، فكانت الخريطة السياسية للعالم الإسلامي ممزقة أيما تمزق، وقد تفاعلت في هذا القرن ثلاث حركات تاريخية ضخمة هي: 1ـ حركة اليقظة العربية الناشئة ، 2 ـ حركة الرأسمالية الأوروبية الصاعدة، 3ـ حركة محاولة إصلاح الدولة العثمانية وتقوية سيطرتها على ممتلكاتها، ومنها البلاد العربية، ومن تفاعل هذه الحركات الرئيسة، بدأت تظهر بوادر الوعي، وحركات الإصلاح والتغيير في أنحاء العالم وأنحاء الوطن العربي.
فكان الكواكبي في عمق هذه الأحداث العالمية والمحلية، ولم يكن ينقصه الشعور أو الدراية الواعية لما يحيط به، وقد انعكس ذلك على نشاطه منذ كتاباته الأولى في "الشهباء"، حيث سيطرت على فكره الشؤون السياسية وما يعتريها من فساد إداري وتنظيمي كبيرين، غالباً ما يردّان إلى أصول دينية(6) .
ولم يكن وعيه بأحداث العالم وليد سماع وملاحظة إنما كان معايناً لتلك التحولات من خلال رحلته التي جاب فيها أنحاء شتى من العالم، فزار سواحل أفريقيا الشمالية والجنوبية ومنها دخل الحبشة وسلطنة هرر الإسلامية والصومال, ثم زار سواحل آسيا الجنوبية والمحيط الهندي وشبه الجزيرة العربية حيث اجتمع بأمراء وشيوخ القبائل ودرس الأوضاع الاقتصادية، وزار كراتشي وبومباي وسواحل جاوة والصين, ثم عاد إلى بلدان الخليج العربي فمسقط حيث أبحر إلى سواحل البحر الأحمر عائداً إلى مصر، وكانت رحلاته أكثر من سياحية إذ درس خلالها أحوال العالم الإسلامي, وكان يدوِّن مشاهداته ومطالعاته ولقاءاته مع الملوك والأمراء والأعلام, ساعياً إلى نشر أفكاره في الإصلاح والنهوض.
لكن خلاصة تلك الرحلات لم يعثر عليها في مؤلف خاص أو أنه فقد من بين ما ضاع أعمال الكواكبي، لكن ما قدمه في رؤى في كتابيه الفريدين يعبر عن هذا الاطلاع الوسع بأحوال العالم، فركز في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" النقد للحكومات والمستبدين والبحث في أصل المشكلة، فيما خص الكتاب الثاني "أم القرى" لنقد سلبية الشعوب الإسلامية وحثها على النهوض لمقاومة الاستبداد واقتراح الحلول، وكأنه في هذا الكتاب يحمِّل نخب العالم الإسلامي مسؤولية النهوض، فافترض أن الرؤية التي ستصلح العالم هي بمجهود ممثلي شعوب العالم الإسلامي لا حكوماته.
فحاول الكواكبي أن يجمع ممثلي العالم الإسلامي للنظر في أسباب التمزق والتخلف ومآلاته، وكان هذا الاجتماع على الورق على سبيل التنظير لتشخيص المشكلات والتفكير في المستقبل، فعقد الكواكبي مؤتمراً خيالياً في مكة المكرمة يوم الاثنين 15 ذي القعدة لعام 1316 ه، الموافق 28 مارس 1899م واستمر المؤتمر 14 يوماً حتى 29 ذي القعدة وتم فيه 12 جلسة، أسماه «أم القرى» عنوان الكتاب الذي عرض فيه رؤيته لمشكلات العالم الإسلامي وتصوره له.
2- معالم من اختيارات الكواكبي لمؤتمر أم القرى(7) :
رمزية المكان: مكة المكرمة (أم القرى)
رمزية التاريخ: مع بداية موسم الحج، أوائل القرن الرابع عشر الهجري
رئاسة المؤتمر: للأستاذ المكي
الشعار والعهد: شعار: (لا نعبد إلا الله), وتعاهدوا على الجهاد.
التمثيل:اعتبار التأثير الحضاري والتاريخي والدولي (آنذاك) دون الاعتبار الجغرافي أو الديموغرافي.
اختصاصات الأعضاء: الأعضاء فيهم العالم والمحدث والفقيه والرياضي والحكيم والمرشد والمجتهد والعارف والمدقق والخطيب.
المركزية العربية: نصف المقاعد كانت مخصصة للعرب «13» مقعداً مع العلم أن العرب لا يشكلون آنذاك سوى 20% من عدد المسلمين في العالم، إضافة إلى كون رئاسة المؤتمر وأمانة سره للعرب.
خصوصية بلاد الشام: مثلت بلاد الشام بـ «4» مقاعد خصصها للسادة «الفراتي ـ الفاضل الشامي ـ البليغ القدسي والاديب البيروتي).
اعتبار النسب النبوي: أسبق الفراتي بلقب «السيد» تمييزاً عن كل الألقاب التي حملها الحضور، إشارة إلى نسبه الشريف بالبيت النبوي.
التنظيم: وضع قانون لتأسيس جمعية تعليمية فيها 48 قضية بحاجة إلى حل وإصلاح.
مقاصد أوراق المؤتمر الابتدائية:
1. بيان الحالة الحاضرة ووصف أعراضها والتفكير فيها.
2. بيان أن سبب التخلف والخلل هو الجهل الشامل.
3. إنذار الأمة بسوء العاقبة.
4. توجيه اللوم للأمراء والعلماء والكافة لتقاعدهم عن استعمال قوة الاتفاق على النهضة.
النتائج التي توصلت إليها جمعية أم القرى:
1.المسلمون في حالة فتور مستحكم عام.
2.يجب تدارك هذا الفتور سريعاً، وإلا فتنحل عصبيتهم كلياً.
3.سبب الفتور تهاون الحكام ثم العلماء ثم الأمراء.
4.جرثومة الداء الجهل المطلق.
5.أضر فروع الجهل: الجهل في الدين.
6.الدواء هو: أولاً تنوير الأفكار بالتعليم، ثانياً إيجا شوق للترقي في رؤوس الناشئة.
7.وسيلة المداواة عقد الجمعيات التعليمية القانونية.
8.المكلفون بالتدبير هم حكماء ونجباء الأمة من السراة والعلماء.
9.الكفاءة في إزالة الفتور بالتدريج موجودة في العرب خاصة.
10.يلزم تشكيل جمعية ذات مكانة ونفوذ في دائرة القانون الآتي البيان باسم (جمعية تعليم الموحدين).
3- تصور الكواكبي للجامعة الدينية تحت لواء الخلافة:
تحدث الكواكبي في كتابه مطولاً عن أسباب انحطاط المجتمعات الإسلامية، فأرجعها إلى 86 سبباً دينياً وسياسياً وأخلاقياً وتربوياً وغيرها(8) ، وعرض فيه رؤاه الإصلاحية، لكن أهم ما فيها ما طرحه من تصور لوحدة العالم الإسلامي من خلال ما يعرفه من مشكلات هذا العالم.
فلم يعد تصور دار الإسلام كوحدة سياسية تشمل جميع العالم الإسلامي صالحاً في نظر الكواكبي كما أن المركزية لم تعد شاملة، والأهم من ذلك تعويله على الأمة الإسلامية وانشغاله بها بدل الأقطار الإسلامية لذلك كان المندوبون في المؤتمر يمثلون شعوباً إسلامية بغض النظر عن طبيعة الحكومات التي يعيشون في ظلها.
وما يطرحه إنما هو فكرة "اتحاد إسلامي تضامني تعاوني" ويقتبس ترتيبه من اتحاد الألمانييين والأمريكانيين مع الملاحظات الخاصة"، ويعتبره حلاً لـ "مشكلة الخلافة"، ويعلل هجومه على السلطنة العثمانية بقوله "أليس الترك قد تركوا الأمة أربعة قرون ولا خليفة، وتركوا الدين تعبث به الأهواء، ولا مرجع، وتركوا المسلمين صماً بكماً عمياً ولا مرشد؟... ويتابع تعداد مخاطر ومساوئ الدولة العثمانية "(9) ، على أن الكواكبي يرى أن النهضة متعثرة منذ ألف عام(10) .
فما هي المؤسسات التي يراها حلاً لمشكلة الخلافة:
1- خليفة المسلمين:
- اشترط الكواكبي أن يكون خليفة المسلمين عربياً قرشياً، ومقره في مكة، أما حكمه السياسي فخاص بالحجاز ويرتبط بهيئة شورى، وينيب الخليفة عنه من يرأس هيئة الشورى الإسلامية العامة.
وينفي أن يكون ذلك تعصباً للعرب إنما يربطه بخصوصياتهم وصلتهم بالدين ويذكر الكواكبي 26 سبباً لتفوق العرب جغرافياً وتاريخياً وبشرياً ودينياً وخلقياً(11) ، فكان الكواكبي يرى أن العرب هم محور العالم الإسلامي وهم قادته وكما جاء على لسان الأمير الهندي «من الضروري وجود خليفة عربي يستلم زمام الرابطة الدينية، ولا يكون حاكماً وتدار البلاد ذاتياً بحاكم مدني يخضع لمجلس الشورى»، فاعتبر الكواكبي أن "العرب هم الوسيلة الوحيدة لجمع الكلمة الدينية بل الكلمة الشرقية"(12) ، ويؤكد هذا المعنى ذكره خصائص الأقوام الإسلامية والدور الوظيفي الذي يمكن أن يؤديه كل منهم في الجامعة الإسلامية، (السياسة الخارجية: الترك العثمانيون، الحياة المدنية: المصريون، الحياة الجندية: الأفغان والقوقاس والإمارات إفريقيا، والحياة العلمية والاقتصادية: أهل غيران وأواسط آسيا والهند)(13) .
- يبايع الخليفة وفق شرائط ملائمة للشرع إذا اختل أحدها ارتفعت البيعة، وتجدد البيعة كل ثلاث سنوات، ويناط انتخاب الخليفة بهيئة الشورى العامة.
- يراقب الخليفة تنفيذ قرارات الشورى التي يبلغها، ولا يتدخل الخليفة في شيء من الشؤون السياسية والإدارية في السلطنات والإمارات قطعياً، لكنه يصدق الخليفة على توليات السلاطين والأمراء احتراماً للشرع.
- لا يكون تحت أمر الخليفة قوة عسكرية مطلقاً، وحفظ الأمن بالخطة الحجازية يناط بقوة عسكرية مختلطة ترسل من قبل جميع السلطنات والإمارات ويقودها قائد من إحدى الإمارات الصغيرة، ويتبع هيئة الشورى مدة انعقادها، وتكون هي تحت حماية جنوده.
2-هيئة الشورى:
تشكل هيئة الشورى العامة من 100 عضو منتخبين يمثلون جميع السلطنات والإمارات الإسلامية، مركزها مكة (شتاء) أو الطائف (صيفاً)، وتنحصر وظائفها في شؤون السياسة العامة الدينية فقط، تجتمع مدة شهرين في السنة قبيل موسم الحج، وتنتخب نائب الرئيس، وتضع قانوناً يحدد وظائفها، ولا تخرج عن تمحيص أمهات المسائل الدينية التي لها تعلق مهم في سياسة الأمة وأخلاقها ونشاطها.
3-جمعية تعليم الموحدين:
وتتأسس من مئة عضو يتوزعون بين عشر عاملون ومثلهم مستشارون الباقي فخريون على أن يكونوا من ذوي النشاط والعلم أو الجاه أو الثروة فضلا عن الصفات الإسلامية العامة وخص العاملين والمستشارين بشروط إضافية، ومقر الجمعية مكة ولها فروع في العالم الإسلامي، ولغاتها هي اللغات الإسلامية (العربية والتركية والفارسية والأوردية)، وتتفرع عنها هيئة عامة وهيئة استشارية، والانتخاب والأكثرية المطلقة هي معايير الاختيار والقرار، وأما عن الجمعية فهي مستقلة عن الحكومات ولا تتدخل في السياسة إلا في الإرشاد، ولا تنتسب الجمعية لمذهب دون آخر وتعتمد المشرب السلفي المعتدل وتنبذ البدعة وتعتمد الجدال بالتي هي أحسن، وأهم أعمالها تعليم الأحداث وتهذيبهم وبث الحياة في الموحدين وخدمة المدنية والإنسانية(14) .
4- خلاصة تصور الكواكبي للرابطة بين العالم الإسلامي:
يتصور الكواكبي أن العالم الإسلامي قد أصبح دولاً وسلطنات متباعدة، كما أن من المسلمين من يعيش في ظل حكومات غير إسلامية(15) ، وأن الشعوب الإسلامية تحتاج إلى رابطة تجمعها وهذا الرابطة يمكن تقسيمها إلى ثلاثة عناصر:
- رابطة دينية مركزية، ويمثلها خليفة المسلمين والذي يشرف على السياسة والإدارة شكلياً فقط، فوظيفته دينية رمزية، ومقره مكة ويحميه مسلمون من مختلف الشعوب الإسلامية.
- رابطة سياسية لا مركزية، وتمثلها هيئة الشورى والتي تنسق السياسات المشتركة بين العالم الإسلامي، بينما تستقل الأقاليم الإسلامية وولاتها بالحكم والتنظيم مع ولاء شكلي للخليفة.
- رابطة علمية موحدة، وتمثلها جمعية تعليم الموحدين والتي تهتم بتربية وتعليم الأجيال وفق منهج إسلامي يحصنهم من الاستبداد.
إن تصور الكواكبي يعكس وعيه العملي بمسارات العالم الإسلامي وتفككه وإدراكه أن هذا المسار واقعي ولا يمكن لدولة الخلافة أن تسيطر عليه، كما كان يدرك أن لا مفر للمسلمين من رابطة وهذه الرابطة ليست إلا الدين وعصبية الإسلام، وعمادها التنسيق في الشأن السياسي والوحدة في الشأن العلمي، فكان يرى العالم كما هو وكما يمكن أن يكون لا كما يحلم المسلمون أو يتخيلون، ولم يكن في تصوراته معزولاً عن تحولات العالم بل استفاد منها في صياغة تصوره وأشار إلى تجربة الألمان والأمريكان، مع ملاحظة البعد الديني والثقافي الذي يربط العالم الإسلامي، ومن ناحية أخرى لم يعزل تصوره السياسي ورؤيته للعالم الإسلامي عن تصوراته لمشكلات النهضة التي جعلها عنوان المؤتمر، بل لم يكن ذلك معزولاً عن رؤيته للتاريخ الحضاري للمسلمين، فكان يعتبر الانحطاط قد بدأ منذ نهاية القرن الرابع الهجري وأن النهضة التي يبحث فيها هي حلم عمره ألف عام، وهذا ما يعلنا نعتبر أن رؤية الكواكبي للعالم إنما هي رؤية شمولية ومتقدمة على رؤى مدرسة الإصلاح كلها، فقد كان واضحاً وشمولياً في تصوره.
ثالثاً:"فكرة كمنويلث إسلامي": رؤية مالك بن نبي للعالم الإسلامي
1- البحث عن الوحدة بعد سقوط الخلافة:
طرح رجال الإصلاح رؤيتهم للجامعة الإسلامية مستبقين سقوط الخلافة، وقد توجت هذه الرؤى بالتنظير الشامل للكواكبي، لكن الوقت لم يدم طويلاً حتى تجسدت تحذيرات الكواكبي من آفات فتور المسلمين وأنه لن تقوم لهم قائمة، فبعد ربع قرن من "أم القرى" سقطت الخلافة الإسلامية عام 1924، فعجّل المسلمون في عقد المؤتمرات لاستعادتها، فكان مؤتمر مكة المكرمة عام 1924، ومؤتمر الخلافة بمصر عام 1926، ثم مؤتمر العالم الإسلامي بمكة المكرمة عام 1926، ومؤتمر القدس عام1931، لكن دون أي نتيجة منها، وظل هدف عقد قمة إسلامية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مجرد فكرة، ثم أصبح حقيقة على أرض الواقع بعد الهجمة الصهيونية على المسجد الأقصى في 21 أغسطس 1969، فشكلت منظمة المؤتمر الإسلامي.
وقد كثرت الدراسات والتنظيرات طيلة الفترات الماضية في قضايا الوحدة الإسلامية وشروطها وعوائقها، وما تزال المؤتمرات تعقد لبحثها، وكان آخرها الملتقى العالمي الأول للعلماء المسلمين والذي نظمته رابطة العالم الإسلامي (في نيسان 2006) تحت عنوان «وحدة الأمة الإسلامية» بمشاركة أكثر من (300) شخصية إسلامية، لكن معظم هذه الكتابات والمؤتمرات كانت سياسية أو دعائية أو طوباوية ولم يقدم أي منها شيئاً ملموساً أو مدروساً وفق رؤية واضحة للعالم، وعلى إثر الفشل لتلك المؤتمرات اتجهت الأنظار إلى عقد مؤتمرات إسلامية عالمية ذات صبغة متخصصة لتشكل مرجعية إسلامية على الأقل، وآخر هذه المشاريع مؤتمر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يعقد حالياً (تموز 2006) في اسطنبول والذي ما يزال يناقش مواضيع التأسيس.
بين سجالات ثمانية عقود بحثاً عن وحدة إسلامية أو رابطة تجمع المسلمين تبرز بتميز "فكرة كومنولث إسلامي" التي طرحها المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتاب يحمل نفس العنوان(16) وذلك عام 1958، ويذهب فيه إلى أن الكومنولث الإسلامي ضرورة تاريخية تدعو الشعوب الإسلامية إلى العودة إلى حلبة التاريخ في صورة إمبراطورية ولكن في صورة حضارة، وقد استوحى فكرته من الكومنولث البريطاني بعدما هذَّبه بما يتماشى والواقعَ الإسلامي الذي يتوفَّر حسبه على دعامة هامة لا تتوفَّر حتى للنموذج المقلَّد.
هذا وقد أوضح مالك بن نبي في العديد من مؤلفاته وفي مذكراته التي أطلق عليها عنوان (مذكرات شاهد للقرن) أن هناك العديد من الأعمال الفكرية التي تركت بصماتها في فكره، فكان قد قرأ مؤلفات الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الرحمن الكواكبي، مما يعني احتمال تأثره بآراء الكواكبي في هذا المجال.
2- مبررات كومنولث إسلامي من منظور مالك بن نبي:
يرى مالك بن نبي أن الأزمة التي تهز العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا هي في الأساس أزمة حضارة ولن تجد لها حلا إلا ضمن مشروع إنشاء حضارة إسلامية جديدة واعتباراً لذلك جاءت صياغته لرؤيته للعالم الإسلامي وبالخصوص كتابه" فكرة كومنولث إسلامي"، والذي يقدم فيه معطيات تؤكد أهمية الفكرة، فمن ذلك سرعة التطور في العالم الإسلامي وتغير سلم الأشياء المادية والمعنوية ومدى وعي المسلم بها، ودخول الضرورات الاجتماعية بالتدريج في حياة المسلمين وتحولها إلى معيار، يؤرخ لذلك بمنتصف القرن التاسع عشر، حيث أصبح الوعي الإسلامي ممزقاً منذئذٍ، بين الرغبة في استدراك تأخر يعرف شدة وقعه في المجال السياسي وبين الرغبة في إنقاذ تراث أخلاقي يعرف مدى قيمته، فلم يعرف المسلم كيف يندمج في عالم زمني هو مرغم على الحياة فيه وإن كان لم يتمثل معاييره، مما زاد في حجم الأشياء أكثر من حجم الأفكار، ويشبه ذلك بالنفسية الصبيانية التي تطلب الأشياء دون فهمها، ويسود نتيجة لذلك التقليد والتمثل، وتغلب الفوضى في الأشياء والأفكار والاضطراب في نفسية المسلم، "فالتأخر في المجال الاجتماعي وفي الشروط الراهنة لتطور العالم العام، يترجم باضطراب في المجال الأخلاقي، وهذا الاضطراب يترجم بدوره في سلوك الأفراد، فهو في المستويات المختلفة للسلم الاجتماعي يترجم إما بوهن في الرأي أو بالسخط والتطرف في وجهات النظر"(17) ،"فالأزمة ليست في طبيعة مشاكل المجتمع الإسلامي بقدر ما هي في موقف الإنسان المسلم بالنسبة لهذه المشاكل"(18) .
ويقسم مالك بن نبي المشكلات إلى أنواع حسب المجال الجغرافي للمشكلات، فهناك مشكلات ذات صبغة قومية محلية توجد حلول لها في البلد نفسه، وهناك مشكلات لا تحل إلا في نطاق واسع في العالم الإسلامي أو مع عالم آخر، وتنبثق فكرة مالك من أن حلول هذه المشكلات من طبيعة المشكلات ذاتها فالعالم الداخلي هو الذي يتضمن العلة أكثر من العالم الخارجي، وهناك مشاكل لا بد لها من حل عام وهي تلك التي ترتبط بأسباب جغرافية سياسية، والتي تتصل بمساحات جغرافية كبيرة وكتل بشرية ضخمة، ويضرب مثلاً لذلك بتحدي مركز القوة على محور واشنطن موسكو(19) ، وبالتالي لا بد من وضع مشروع كفيل باتخاذ الوسائل التي من شأنها أن تخفف العبء على النخبة الإسلامية من ثقل لأحاسيس السلبية كالإحباط واليأس(20) .
3-المظهر الفني لمشروع مالك بن نبي ووظيفته:
مشكلة العالم الإسلامي -كما يرى- مشكلة مساحة تنحصر بين خطي طول (طنجة جاكرتا) وخطي عرض (الجزائر دار السلام) كمعطيات أولية، لكن تلك المساحة تضم عوالم إسلامية عديدة هي:
العالم الإسلامي الأسود أو الإفريقي
العالم الإسلامي العربي
العالم الإسلامي الإيراني (فارس وأفغانستان وباكستان)
العالم الإسلامي الماليزي (أندونيسيا والملايو)
العالم الإسلامي الصيني – المغولي(21)
فتخطيط العالم الإسلامي ينبغي البحث فيه عن (مبدأ مكامل) يعبر عن وحدة المشكلة ويراعي التعدد فيه، هذا المبدأ هو «الوحدة الروحية» للعالم الإسلامي، ومنه يوضِّح الكيفيات والرؤى التي ستنشأ عن هيئة من هذا القبيل في مختلف المجالات سياسياً اقتصادياً فكرياً واجتماعياً، من ذلك مثلاً إعادة النظر في مشكلة الخلافة على ضوء المعطيات الراهنة وتحديدها تحديداً جديداً يتماشى مع التنوع الإسلامي سياسة وجغرافيا وأعراقا، دون أن يغفل ذلك ما يحمله المفهوم الإسلامي لكلمة (أمة) من تنوع، فالكمنويلث الإسلامي يمكن أن يعرّف (كاتحاد فيدرالي) بين (العوالم الإسلامية) يقوم بدور الهيئة المنفذة لهذا الاتحاد(22) .
والنموذج البريطاني الذي يضمن استقلالية البلاد الأعضاء وسيادتها في كل المجالات هو الأقرب من المثال الأمريكي، فالرابطة العضوية البريطانية المشخصة في ملكٍ تصبح في الكمنويلث الإسلامي (فكرة) هي (الإسلام) ممثلة في مجمع دائم يجسم الإرادة الجماعية للعالم الإسلامي ويمثل مصالحه العالمية، والمقر الرسمي هو الوحدة القاعدية التي تتصل على أساسها أجزاء الكمنويلث المختلفة، وتحديدها يرجع إلى دراسة، والدول التي تمثل الكمنويلث البريطاني تصيخ في الكمنويلث الإسلامي مجموعة شعوب، والمقصد السياسي في النموذج البريطاني يصبح في النموذج الإسلامي مواجهة المشكلات ذات الصبغة النفسية والاجتماعية(23) .
ويرى أنه ينبغي أن تعكس فكرة إشعاع المركز التي كانت سابقاً مكة وتصبح نقطة التقاء، فلم يعد ممكناً اليوم فرض إرادة خاصة نابعة من المركز، أما نقطة الالتقاء فتجسد الإرادة الجماعية وتفعل المبدأ المكامل، ويقترح إضافة العالم الإسلامي الأوربي(24) .
لقد كان مالك بن نبي واعياً بضخامة ما يتحدث عنه فكان واقعياً واعتبر مشروعه من عالم الأفكار، وظيفته تحريك الكامن في طاقات الأمة وتوظيفها التوظيف الأمثل حتى تؤتي ثمارها، واقترح مركزاً للبحوث ولجاناً للدراسة حتى يتحول أداة فعالة في التطبيق العملي والانتقال إلى الوقائع التاريخية، ويرى أن فكرة الكمنويلث الإسلامي يمثل امتداداً في مستوى الإنسان الشخصي، فبقدر ما يعي الفرد مشاكل عالمه باتساع دوائره التي ينتمي إليها بقدر ما يكتمل وعي ذاته وينمو مستواه الشخصي وبالخصوص عندما يصل إلى الدائرة العالمية(25) ، وبحصر مشكلة المسلم في دائرة الكمنويلث الإسلامي يمكن النظر إلى ماضيه ومستقبله ودوره كإنسان عقيدي ودوره كمواطن(26) ، كما يستطيع المسلم من خلاله أداء دور الشهادة والحضور الإيجابي في العالم بمعانقة أقصى حد ممكن من المكان لكي تعانق شهادته أقصى كم ممكن من الوقائع، فضلاً عن أداء المسلم دور الرسالة والتبليغ(27) .
إن إدراك مالك بن نبي لصعوبة مشروعه وحاجته إلى دراسات عملية، كانت مقترنة بإمكانية ذلك من خلال رؤيته لتحولات العالم ومساراته، لذلك كان يعول كثيراً على فكرة مؤتمر باندونغ (1955) وخصه بكتاب عنوناه "فكرة الأفريقية الأسيوية في ضوء مؤتمر باندوندنغ"(28) حتى إنه يرى أن التاريخ الإسلامي سوف يتم إنجازه في القارة الآسيوية(29) ، وأياً تكن مسارات الأحداث في العالم الإسلامي فإن قناعته هي أن "الإسلام سيظل دائما القوة التي لا تحطم"(30) .
4- خلاصة تصور مالك بن نبي:
يرى مالك بن نبي إمكان التعاون بين وحدات الحضارة الإسلامية الست، لكنه لا يقيم تصوره على أساس ديني بحت بل يتصور له فضاءان أحدهما ثقافي (المكونات المشتركة بين هذه الأقاليم) والآخر سياسي (محاولة الخروج من الاستعمال الغربي والسوق الغربي)، ويرى أن هناك إمكانية لقيام حضارة جديدة أفريقية أسيوية تصل إلى الندية والمشاركة الفعالة في حاضر العالم ومصائره.
ويتسم مشروعه بسمات تجعله متفرداً بين تصورات الإسلاميين فهو لا يرى أن الحضارة الغربية في طريقها إلى الانهيار كما لا يرى في الوقت نفسه إمكانية حقيقية للتواصل معها أو إمكان الانتماء إلى منطقها وممارساتها، لكن ذلك لا يدفع إلى لصوغ تصور فلسفي مناقض لحضارة الغرب أو الشرق، كما أن الطريف فيه أنه ينتقل من الإطار الطبيعي للحضارة إلى مشروع جيواستراتيجي ويرى فيه أن المصالح والتحديات تلعب فيه أدواراً مهمة إلى جانب الدين(31) .
والوحدة الروحية هي المحور الرابط بين العالم الإسلامي، وفكرة الإسلام هي البديل عن رمز الأشخاص (الملك أو الرئيس/الخليفة)، أما الشعوب فهي البديل عن الدول، وتتأخر الوظيفة السياسية للاتحاد لتكون الوظيفة الأولى وظيفة نفسية تهيء العالم الإسلامي ليعود إلى حركة التاريخ المعاصر كند للحضارات الأخرى وفاعل فيها.
فرؤية مالك بن نبي للعالم وتحولاته كانت حاضرة بقوة في تصوره للعالم الإسلامي وموقعه ودوره وطبيعة الروابط التي يمكن أن تصل بين أجزائه.
الخاتمة: مقارنة بين الكواكبي ومالك بن نبي في تصور العالم الإسلامي
لقد انطلق كل من الكواكبي ومالك بن نبي في تصورهما من معطيات مشتركة يؤمن كل منهما بها، فكانا يعتبران الخلافة كنظام سياسي للعالم الإسلامي غير مجد في ظل التحولات العالمية التي عصفت بالعالم الإسلامي بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، مع فارق أن الكواكبي كان يدرك ذلك قبل سقوط الخلافة بربع قرن بينما عايش مالك بن نبي سقوط الخلافة وقدم تصوره بعد أكثر من ربع قرن من سقوطها، كما كانا يعتبران الإسلام هو الرابطة الوحيدة التي تجمع العالم الإسلامي وأنه رابطة روحية رمزية وليس سلطة سياسية مركزية تحكم أجزاء العالم، وكانا يقران بحتمية استقلال أقطار العالم الإسلامي بحكم ذاتي وارتباطها الرمزي بمركز إسلامي ينسق بين الأقطار، واعتبرا الشعوب الإسلامية هي البديل عن الحكومات في الرابطة المقترحة للعالم الإسلامي، وكان كلاهما يعتبر مفهوم الأمة في الرابطة بين المسلمين بغض النظر عن انتمائهم إلى دول إسلامية أو غيرها، لذلك اعتبرا أن هناك عالماً إسلامياً أوربياً.
واقتبس كل منهما شكل الرابطة الجديدة من العالم الغربي، الألماني والأمريكي (عند الكواكبي) والبريطاني (عند مالك بن نبي)، وكلاهما كان واعياً بتباين وضع العالم الإسلامي عن الغربي، فكان اقتباسهما ليس تقليداً إنما استثمار لأصل الفكرة، كما كان لكل من الكواكبي ومالك بن نبي موقف من الحضارة الغربية غير حاد مع الإيمان بضرورة الندية منها والمنافسة لها، لكن مالك بن نبي كان أكثر استيعاباً لها واطلاعاً على فلسفتها ومعارفها.
بالمقابل كان هناك اختلاف بين المشروعين، فبينما كان الكواكبي يتصور جاهزية مشروعه للتنفيذ، كان مالك بن نبي يعتبر مشروعه من عالم الأفكار ويحتاج لمراكز أبحاث كي يتم تجسيده على أرض الواقع، كما كان الكواكبي يصر على شخص الخليفة ورمزيته وعلى مركزية مكة، بينما استبدل مالك بن نبي شخص الخليفة بفكرة هي الإسلام والرابطة الروحية، أما المركز فكان يعتبره متوقفاً على دراسة تحدد المنطقة القاعدية التي تربط عوالم الإسلام، فتصور الكواكبي للمركز له بعد ديني بينما مالك بن نبي يرجعه إلى بعد عملي ووظيفي، أما وظيفة مقترح الكواكبي فكانت نهضوية شاملة تركز بالخصوص على التعليم والتنسيق السياسي، بينما وظيفة مشروع مالك بن نبي نفسية بالدرجة الأولى تركز على دور المسلم في العالم ووعيه بمشاكله بما يهيئه لحل مشكلاته الحضارية، ويركز على الاقتصاد والمصالح المشتركة أكثر.
هذا وبطبيعة الحال ثمة اختلاف في طريقة تعبير كل منهما عن مشروعه والمفاهيم التي استخدمها لكن ذلك يرجع إلى طبيعة تكوين كل منهما وثقافته، ولئن قدم كل منهما رؤيته للعالم بما يعكس وعيه الزمني بتحولاته، مع بناء ذلك على مقدمات كلٍ الدينية والفلسفية، فإن تصور الكواكبي يعتبر متقدماً من حيث معطيات زمانه، بينما يتميز تصور مالك بن نبي بعمق بعده الحضاري والأدوات المعرفية التي قدمه بها، إضافة إلى تفرده بهذا المشروع في إطار الخطاب الإسلامي الذي ساد معظم القرن العشرين حول الوحدة الإسلامية.
الإحالات:
(1)انظر:عبد الوهاب المسيري، في أهمية الدرس المعرفي، مجلة إسلامية المعرفة، العدد:20.
(2)انظر: موسوعة ويكبيديا على الانترنت (http://ar.wikipedia.org/) ، وفتحي حسن ملكاوي، رؤية العالم عند عبد الرحمن ابن خلدون، ورقة قدمت إلى ندوة "البعد الديني ومنزلته في تجربة ابن خلدون الفكرية" التي نظمتها جامعة الزيتونة التونسية بمدينة تونس في فبراير 2006م، وله أيضاً، رؤية العالم والعلوم الاجتماعية، ورقة قدمت إلى مؤتمر العلوم الاجتماعية من منظور إسلامي، الذي نظمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة في كلية الآداب بالمحمدية بالمملكة المغربية في سبتمبر 2005. ونشرت في مجلة إسلامية المعرفة العدد المزدوج 42-43 شتاء 2006.
(3)انظر:رضوان السيد، الصرع على الإسلام، ط:1 دار الكتاب العربي – بيروت 2004، ص 125
(4)انظر:أحمد أمين بك، الجامعة الإسلامية، مجلة رسالة الإسلام، العدد: 9 (مجلة صدرت عن المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، في القاهرة بين عام1386ـ 1392 هـ 1949ـ 1972مhttp://www.taghrib.org/).
(5)انظر: أحمد أبو الحسن زرد، الأصول الفكرية والتاريخية للمؤتمرات الإسلامية، موقع إسلام أونلاين 7/11/2000 (http://www.islamonline.net).
(6)محمد جمال طحّان، "الإصلاحات الدينية والسياسية والوطنية في فكر الكواكبي"، مجلة الكلمة، العدد (37) السنة التاسعة خريف 2002م 1423هـ
(7)اعتمدنا على نسخة: الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي، إعداد وتحقيق: محمد جمال طحان، مركز دراسات الواحدة العربية، بيروت ، ط1 ، 1995، وانظر حول ما لخصناه: ص 275-280.
(8)أم القرى، ص 358-364
(9)أم القرى، ص 399
(10)طبائع الاستبداد، ص494
(11)أم القرى، ص 390-392
(12)أم القرى، ص 392
(13)أم القرى، ص 390
(14)أم القرى، ص 376-386
(15)لهذا الاعتبار نجد تمثيل شعوب إسلامية من بلدان غير إسلامية في مؤتمره، كالانكليز والصينيين..، كما جعل من مهام هيئة الشورى التنظير لمبدأ الحكومة العادلة وإن كانت غير مسلمة، أم القرى، ص 398
(16)سنعتمد الطبعة الثانية في دار الفكر بدمشق 2000، فيما كانت الطبعة العربية الأولى عام 1960، وقد ترجمه عن الفرنسية الطيب الشريف، والبعض يرجع الطبعة الأولى إلى 1955.
(17) مالك بن نبي، فكرة كمنويلث إسلامي، ص 34- 35، وانظر:ص 22-33
(18)مالك بن نبي، نفسه، ص 39
(19)مالك بن نبي، نفسه، ص 40
(20)مالك بن نبي، نفسه، ص 42
(21)سيضيف إليها لاحقاً العالم الإسلامي- الأوربي (مالك بن نبي، نفسه، ص 44)، ونستغرب هنا عدم إشارته إلى العالم الإسلامي التركي، وما طرحه حول اعتبار العالم الأوربي لا يشمله.
(22)مالك بن نبي، نفسه، ص 42-44
(23)مالك بن نبي، نفسه، ص 76-78
(24)مالك بن نبي، نفسه، ص 44-48
(25)مالك بن نبي، نفسه، ص 67-68
(26)مالك بن نبي، نفسه، ص 70
(27)مالك بن نبي، نفسه، ص72
(28)ألَفه عام 1956، واعتبر في مقدمته أنه قاعدة لجزء من الإنسانية للانطلاق نحو تقرير مصيره، لكنه في تقديمه للطبعة الثانية 1971 اعتبر أن الفكرة ماتت بل قتلت في المهد وقتلتُها جاهلون، وان كل الاحتياطات كانت قد اتخذت داخل العالم الثالث وخارجه كي لا تنطلق الشرارة الفكرية الضرورية لإضرام ثورة العالم الثالث. انظر: مقدمة الطبعتين في "فكرة الأفريقية الأسيوية في ضوء مؤتمر باندوندنغ"، ط:3 دار الفكر – دمشق 2006.
(29)مالك بن نبي، فكرة كمنويلث إسلامي، ص83
(30)مالك بن نبي، نفسه، ص84
(31)رضوان السيد، الصراع على الإسلام، م.س، ص 134