كيف يفهم الإسلاميون فلسفة الحداثة؟ سؤال يلقي بظلاله على كواهل الحركات الإسلامية "المعتدلة" التي تشكل جزءاً مهما من النسيج الاجتماعي والسياسي للمجتمعات العربية، وتمارس دوراً أصيلاً في تطورها السوسيولوجي والثقافي. وهو سؤال تزداد وطأته كلما اقترب الإسلاميون من تقديم بديل سياسي يستند في خلفيته العريضة إلي مرجعية دينية.
ومرد التساؤل، ليس لاعتبار أن الإسلاميين قد يمثلون استثناءً عن غيرهم من القوي السياسية والاجتماعية العربية في فهمهم للحداثة وهضم "قيمها"، ذلك أنه من الصعب أن يقع هذا الاستثناء للإسلاميين دون غيرهم من باقي الحركات والقوي السياسية في العالم العربي، أو بالأحري عن غيرهم من القوي والحركات الاجتماعية التي يمثل "مجتمع" الحداثة هدفها الرئيسي، باعتبار أن ثمة أزمة "فكرية" تعاني منها الانتلجنسيا العربية بمختلف أطيافها، فيما يخص فلسفة الحداثة ومفرداتها الإنسانوية بوجه عام. كما أن الجميع يمثل نتاجاً مشتركاً لواقعٍ "سوسيولوجي" لم يهضم هو ذاته جوهر "الفكر الحداثي" بعد، ولم يقترب منه بشكل حقيقي.
بيد أن مرد السؤال هو لحال التخبط والحيرة التي يقع فيها الإسلاميون كلما طرأت قضية "حداثية" علي الساحة العربية، كقضايا الحجاب ووضع المرأة وحرية الرأي والإبداع. حيث يسهل معها كشف بنائهم "القيمي"، وتتم تعرية مواقفهم "المترددة" من هذه القضايا. وهو ما قد يؤثر سلباً علي موقفهم "السياسي" ويقلل من رأسمالهم الاجتماعي، ناهيك عن الانتهازية التي قد تمارسها تجاههم التيارات الأخري المناوئة، خاصة تلك المرتبطة بالسلطة والتي تتحين كل شاردة لتنقض علي أفكار الإسلاميين كي تثبت فشل مشاريعهم "المدنية".
وواقع الأمر فإن ثمة أضلاع ثلاثة تشكل جوهر المعضلة التي يواجهها الإسلاميون في فهمهم لمسألة الحداثة. أولها يرتبط بالفهم العربي ذاته لمسألة الحداثة، وأقل ما يقال هنا أن انفصاماً كبيراً يشكل الموقف العربي من قيم الحداثة، ففي الوقت الذي يتم التعاطي مع المنتجات "المادية" للعقل الحداثي، من تكنولوجيا واتصالات وثورة معلوماتية، يجري التهرب (وربما التنكر) للمنتج "العقلي – الفكري" للحداثة، الذي يصطدم بحائط كبير ممثلاً في النسق العقيدي (الذي يجري تشكيله من خلال العادات والتقاليد والأفكار الموروثة) للعقل العربي.
وهي حال لا مكان فيها للتمايز بين الأطر الأيديولوجية والعقائدية للقوي السياسية في العالم العربي، فهي حال عامة يشترك فيها الجميع، وإن بدرجات متفاوتة. وبالتالي يصعب استثناء الإسلاميين من هذه الحال، أو إسقاط العجز المجتمعي في فهم الحداثة علي كواهلم فقط.
وكثيراً ما تجد اضطراباً لدي البعض في فهمهم لقيم الحرية والمدنية وتوزيع الثروة وانتشار السلطة. وذلك علي غرار ما فعلته النخب القومية والعلمانية التي ورثت تركة الاستعمار الأجنبي، واسمترأت وجودها في السلطة دون أن تعير اهتماماً لهذه القيم.
من جهة أخري تنغمس المجتمعات العربية ذاتها في حالة من العبث القيمي، لا يمثل بناء "سوسيولوجيا" متناسقاً، وإنما يبدو في بعض الأحيان متعارضاً مع ذاته. ذلك أن الإقبال الشديد للمجتمعات العربية علي "استهلاك" المزايا العينية للحداثة، والرغبة "النرجسية" في امتلاك أحدث منتجات العقل "التقني"، يقابله رفض قوي للعقل الذي أنتج هذه المزايا، ويواجَه بصعوبات كبيرة في إدراك الأبعاد القيمية والثقافية التي يستند إليها. ففي الوقت الذي يقبل فيه مجتمع ما علي اقتناء أحدث السيارات والهواتف علي سبيل المثال، لا يعطي المرأة حق القيادة أو التنقل دون رقابة مجتمعية صارمة. أي أننا نتلبس نوعا من الحداثة "الوهمية" يمكن ترجمته في جملة واحدة وهي أننا "حداثيون بلا حداثة".
أما الضلع الثاني، فيتمثل في فشل التيارات الفكرية العربية علي بلورة صيغة "حداثية" أقرب للواقع العربي، وانصراف الكثير منها، إما إلي التماهي الكامل في فكر الحداثة، والترويج له باعتباره المخرج الوحيد، كي تنال المجتمعات العربية حريتها وحقوقها المسلوبة. وبالتالي الانسياق وراء "أوهام" الحداثة التي تحدث عنها عبد العزيز حمودة في كتابيه "المرايا المحدبة والمقعرة". وإما الرفض التام للفكر الحداثي، لانعدام القدرة علي "فهمه"، أو للاصطدام بالنسق العقيدي "المغلق" لدي هذه التيارات. وثمرة الحالين هو إيجاد "نسخة" مشوَهة للحداثة، تصبغ مواقف القوي الفكرية والسياسية، وتنعكس علي أداء "العقل" العربي، وتشل قدرته علي الفكاك من حالته "السكونية".
بكلمات أخري، لم تنجح الانتلجينسيا العربية طيلة القرن الماضي وحتي الآن، في بلورة موقف واضح من الحداثة، أو اختراع "طبعة عربية" لقيمها بحيث يمكن للمجتمعات والنخب العربية من تكييف فهمها "الحداثوي" مع محددات البيئة الاجتماعية والدينية. وتزداد وطأة الأمر كلما واجهت المجتمعات العربية إحدي القضايا التي تحمل أبعاداً خلافية، كالوضع الاجتماعي للمرأة، والمواطنة، و حرية التعبير.
ويختص الضلع الثالث لهذه الأزمة، بالإسلاميين أنفسهم، وهو يعبر عن نفسه في محددين أساسيين: أولهما، ضعف رصيد التجديد "الفكري" لدي الحركات الإسلامية، سواء في المجال الديني "كتجديد التراث وأصول الفقه، وطرق القياس"، أو في المجال "الزمني" كالموقف من قضايا الرأي والإبداع وحدود الرقابة علي المجتمع. وثانيهما، عدم قدرة الإسلاميين علي تقديم بديل "حداثي" مقنع للعالم العربي، شأنهم في ذلك شأن بقية التيارات السياسية العربية.
تلك هي "الكماشة" التي تحكم نظرة الإسلاميين لمسألة الحداثة، فمن جهة لم تقم معظم هذه الحركات والتيارات وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، ببذل ما يكفي من اجتهادات "عقلية" لتجديد التراث الإسلامي، خصوصاً خلال العقود الثلاث الماضية. بل أحياناً ما تتعارض أفكارهم واجتهاداتهم مع اجتهادات المجددين "المستقلين". في حين يبدو جلياً مدي استئثار النشاط "السياسي" ببنية "العقل" الإخواني، وذلك علي حساب النشاط "الديني" التجديدي. لذا تبدو معظم فتاوي مشايخ الإخوان، أقرب ما تكون إلي الفتاوي "السلفية"، التي ينفر منها كثيرون، وتزيد من شكوكهم حول نوايا الإخوان إذا ما اقتربوا من منصة التتويج، وحازوا مقاعد السلطة.
وثمة مفارقة تبدو جلية في هذا الصدد، تتمثل في أنه علي الرغم من سعي الإخوان لإبراز تمايزهم عن بقية التيارات الدينية، خصوصاً تلك التي تنتهج العنف، إلا أن فقهاؤهم ومفتييهم، لا يبذلون كثيراً من الجهد لإبراز هذا التمايز، وتدعيمه. وبالرغم من إدراك الكثيرين من قيادات الإخوان لهذه المسألة، إلا أنها لم تحظ حتي الآن بالاهتمام الكافي، ولم يبت فيها بشكل قاطع.
ومن جهة أخري، يخشي الإسلاميون بوجه عام، من أن تؤدي مواقفهم "المتزنة" من بعض القضايا الجدلية، خصوصاً تلك التي يقع فيها اختلاف بين الفقهاء والمشايخ، إلي التأثير علي مصداقيتهم ومشروعهم الفكري. وهو ما يمثل تحدياً لقدرة الإسلاميين علي إنجاز المهمة الصعبة بالجمع بين حركة التطور المجتمعي، وفي القلب منها الانفتاح الهائل علي ثقافة الحداثة ومنتجاتها، والنسق العقيدي والفكري الذي يطوق رؤاهم المجتمعية.