بين التلبيس والحريّة
إذا كانت مسألة "الشيطان" مشكلة شيطانيّة تستتر بحجب اللغة و شحناتها الرمزية فليس من المبالغة القول بأن الشيطان في الفكر الإسلامي يمكن أن يُعتبَر أحد الأبعاد المؤسسة لمنزلة الآدمي الوجودية. لا أدل على هذا المعنى من الآية الكريمة التي تقرن بين سعي الشيطان وحرية الإنسان: " وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسَكم". أكثر من آية قرآنية تؤكد أن كيد الشيطان ضعيف وأن وسواسه لا يمكن أن يؤثر إلا في النفوس المستكينة والعقول الساذجة وأن تجنب غوايته ليس متعذرا.
ما يعنينا في هذا الجانب الأول أن التوجه الذي ساد في أدبيات الفكر الإسلامي قديما و حديثا نادرا ما كان يعالج الحضور الشيطاني كما حرص عليه السياق القرآني الذي اهتم به أساسا من زاوية دلالته البيداغوجية لتربية الجنس البشري.
أغلب ما انساق فيه الباحثون عند معالجة الموضوع كان إعراضا عن الخطاب القرآني في تأسيسه لحرية الآدمي قيمةً مركزية لمشروع استخلافه في الأرض.
بتعبير آخر، ظل موقع الشيطان يفضح مفارقة انساقت فيها عموم أدبيات الفكر الإسلامي، إذ صار هذا الكائن شديدَ الالتصاق بالمسحة العجائبية المروّعة التي طبعته بها الوثنية العربية و ما ركّزه فضاء التصورات القديمة لشعوب ما بين النهرين وما رفدها من رؤى وافدة من الهند.
لقد تضاءل المقصد الأخلاقي للعبارات القرآنية المفيدة بأن الشيطان مذموم مدحور وأنه سرعان ما يخنس ويتراجع و أنه يتحالف مع نظرائه من الإنس وأن الاستعاذة مما يسوّله أمر ممكن، تضاءل هذا المقصد ليتضخّم على حسابه خنوع مفزع يستهين بالذات الآدمية وإرادتها وحاجتها إلى روحية إيجابية تدعم مسيرتها الاستخلافية.
أكثر من هذا، لقد ساهم في هذا النكوص عدد من أصحاب المعاجم اللغوية الذين اعتبروا لفظة الشيطان مشتقة من الجذر "ش ط ن "، وأن الشطن هو " الحبل الطويل الشديد الفتل". لم يعتنوا بأن الكلمة دخيلة على العربية فلا حاجة إلى هذا التعسّف في إرجاعها إلى ثلاثي يتضمن دلالة القوة والشدة.
بذلك لم ينتشر القول بالطابع السلبي للشيطان المقلّلِ من أهميته، القاصرِ أمره على كونه أحد الحوافز لحياة روحية وأخلاقية تواجه نزعات الضعف والتخاذل. لم يبرز في فكرنا الأخلاقي- التربوي عامل التصادم البنائي مع الشيطان على اعتبار انه عقبة يجب على الإنسان تجاوزها و أنه الافتراض الضروري الحافز للإرادة للتغلب عليه.
مع ذلك فقد حرص قديما عدد من العارفين والمفكرين والأدباء المجددين على الخروج من خطاب التثبيط والتخويف متمثلين بوعي قولة : عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. ذلك كان شأن جلال الدين الرومي في المثنوي حين اعتبر أن الشيطان وأنانية الآدمي ليسا إلا شيئا واحدا، قبله كان رجل كابن سينا قد قلّل من أهمية الشيطان ولم ير له سلطة فعلية. لم تختلف معالجة أبي عثمان الجاحظ في كتابه الحيوان المسألةَ فقد تناولها بأسلوبه المتميّز المُذكي للعقلية النقدية المتلمّسة في الواقع الاجتماعي و الثقافي ما يعتمل في نسيجه من تباين ومفارقات.
مثل هذه النماذج -على أهميتها وفعالية جهودها- لم تفلح مع توالي نكسات الحواضر الإسلامية في الصمود في وجه الذهنية الاتباعية المتوجسة من الانخراط في المسيرة الاستخلافية للآدمي.
نقرأ مثلا ما كتبه الحافظ ابن الجوزي البغدادي ( القرن السادس الهجري) في " تلبيس إبليس" فنجد عجبا. من الاستعراض الحاشد للأحاديث والآثار والروايات المتعلقة بالشيطان نقف على انقلاب مفهومي خطير في هذه القضية. مرجع هذه الخطورة يعود إلى طريقة التعامل مع مسألة ليست من أصول الاعتقاد لكنها تحوّلت مع ذلك إلى عنصر تأثير بالغ في المجالات الحيوية من الشخصية الإسلامية. تحقق هذا الانزلاق المفهومي نتيجة ذهنية وتصورات فرضت علاقة سلبية بالنصوص القرآنية والنبوية الصحيحة المتصلة بهذه القضية. يقول ابن الجوزي في مقدّمة التلبيس معللا اختياره لطرق هذا الموضوع:" وضعتُ هذا الكتاب محذّرا من فتنه( الشيطان) ومخوفا من محنه وكاشفا عن مستوره ...و رأيت أن أحذّر من مكايده وأدل على مصائده فإن في تعريف الشر تحذيرا عن الوقوع فيه ..."
وراء هذه النوايا الحسنة يكمن – في تقديرنا - صميم الإشكال الذي هو ليس في النصوص المعتمَدة ولكن في الطريقة التي يستند إليها الكاتب عندما يتعامل مع تلك النصوص و ينتقيها. جوهر الموضوع يتحدد في المنهج الفكري الذي يؤسَّس عليه الفهم و يُلتَزَم به فيما يقع استنتاجه من جملة النصوص.
إذا كان مفهوم العداوة المُعلَنة بين الشيطان والآدمي أمراً قارًّا فإن الفرق شاسع بين من ينزّله ضمن معنى دفاعي متوجس وبين من يفهم تلك العداوة في سياق بنائي يتحوّل فيه التحدّي إلى عامل إبداع و تجاوز.
بتعبير آخر هناك اختلاف كامل بين من يعالج أمر الشيطان بمعزل عن كل بُعد فكري وجودي و بين من ينزّل ذات الوجود ضمن دائرة الصراع بين حرّيتين: حرية تحوّلت إلى جبرية أحادية عندما تبنّى الشيطان الشرَّ خيارا واحدا أبديا وحريّة الإنسان الذي يخطئ دون أن يتحوّل خطؤه إلى خيار نهائي.
ما فعله ابن الجوزي لا يعدو - في الظاهر- أن يكون من قبيل النصح لأخذ الحيطة وهو أمر يراه البعض محمودا لأنه يحمي المؤمن في حصن حصين لكنه تعبير عن تسطيح في الفكر الديني لا يمكن أن يفضي إلاّ إلى تهافت نظرية التربية عند المسلم و شحوب للنموذج الذي يُراد أن تتمّ تنشئة الأجيال عليه.
يتجلّى هذا القصور بما نلحظه في الاتجاه الآخر عند أبي حامد الغزالي في كتابه " أيها الولد المحبّ" الذي ينطلق من رؤية مغايرة لذات الآدمي وضرورة الاهتمام بما تحمله من مكامن القوّة و مواهب الحريّة. بذلك تكون التربية عنده أوّلا شحذاً وإبرازاً لقيمة الأفراد و طاقاتهم ضمن المجتمع. أما التحذير والتنبيه إلى المخاطر فلا يكون إلا بالتبعية والعرض، لذلك فأوّل ما افتتح به رسالته في التنشئة قوله : " إن النصيحة سهلة والمشكل قبولُها " ذلك أن التحدّي الرئيس في العمل التربوي هو الوعي بجدلية الحريّة التي تمكّن المعلِّم من الوصول بالمتعلّم إلى أن يكتشف نفسَه بنفسه. بناء الذات في ضوء هذه الجدلية لا تكون تلقينا أو تخويفا بقدر ما هي رهان على المتعلّم يصل به إلى امتلاك زمام ذاته بنفسه، " لأن العلم بلا عمل جنون والعمل بلا علم لا يكون".
في هذا المستوى الأوّل يقترن البحث في مسألة الشيطان بتصوّر للتوحيد وفهم لمسألة الشرّ وما يتولّد عنهما من نظرية في التربية ، أي أن إشكال بناء الذات الإنسانية هو أعقد من أي نزعة حمائية وقائية لأنه يتطلّب وعيا يؤسس لمعنى الوجود وتمثّلا شاملا لوحدانية الله وعدله ومتطلبات موقع الآدمي المتميّز بالعقل والحريّة في الاختيار التربوي.
* التفسير و تشظّي الوعي
يؤكد الدكتور المهدي المَنْجَرَة- أحد كبار المهتمين بالدراسات المستقبلية في العالم الإسلامي- أن سرَّ الابتكارات التكنولوجية الغربية التي تحقق زيادة ضخمة في الكفاءة الإنتاجية يكمن في مدى النجاح الذي تحققه كل أمة في إقامة التربية والتعليم الملائمين للتغيير المجتمعي الذي تريده.
مثل هذا التأكيد يثبت عمق العلاقة بين نظرية التربية وخلفيتها العقدية وما تؤدي إليه من تصوّر للإنسان ضمن جدلية الخير والشر وتبعاتها على أرض الواقع وآفاق المستقبل.
لكننا إذا أردنا أن نفحص مسألة الشيطان بصورة أكثر تدقيقا فإننا نجد أنها تتجاوز المجال العقدي- التربوي وما اعتراه في عالم المسلمين من ارتباك.
المسألة في جانبها الثاني تعود إلى النظرية المعتمدة في التفسير، ذلك أن ما أعان على تفكك نظريتنا التربوية وقوّى فيها عنصر الترهيب ذلك المنهجُ السائدُ في تعاملنا مع النص القرآني.
كيف يمكن اعتبار مسألة الشيطان مثالا كاشفا يمكن من خلاله الوقوف على جانب ثانٍ من جوانب تعثر تصوّرنا العقدي و منظومتنا الفكرية و أثر ذلك في قصور فاعليتنا الحضارية؟
إذا بدأنا من جانب الخطاب القرآني فإننا نلاحظ أن الشيطان قد ذُكِر في سبعين آية بصيغة المفرد بنسبة ورود متقاربة جدا بين عدد المكية منها والمدنية. لم يتجاوز عدد الآيات التي تستعمل صيغة الجمع، شياطين، أكثر من ثماني عشرة آية ثلاث منها مدنية فقط. أما وروده في كامل القرآن بتسمية إبليس فإنه انحصر في إحدى عشرة آية، اثنتان منها لم ترتبط برفض السجود لآدم.
إلى جانب هذا الحضور المحدود كميّا فإن دلالات الورود كلها تربطه بالفعل الإنساني وقَدَرِه الاستخلافي. الشيطان مخلوق منعدم التأثير على العالَم و مسيرة الكون، والشرُّ – من ناحية ثانية -لا يصدر عنه بقدر ما يصدر عن النفس الإنسانية الحرّة والمسؤولة. بتعبير آخر يمكن القول إن إبلييس في الخطاب القرآني له مكانة هامشية جدا مقارنة بالموقع المحوري للآدمي في المسيرة الكونية التي أرادها الله تعالى. هذا الفهم يعطي الخطاب القرآني طابعا مميَّزا لا يمكن أن يخفى مقارنةً ببعض الديانات الأخرى التي اعتنت بالشيطان.
ليس في القرآن الكريم أكثر من أنّ إبليس هو قائد حملة تضليل للآدمي يستعين فيها مع أعوان من قوى الشر. من هذه الناحية فهو مختلف اختلافاً كاملا عمن ينطلق من وجود أصلين أزليين: النور والظلمة أو الروح والمادة ، يكونان دائما في حالة تصارع متواصل.
يختلف منطلق إبليس وأثره في الخطاب القرآني عن ذلك المعتقد لكونه لم يكن خصما لله تعالى و لا هو قائد لهذا العالم و لا هو إله لهذه الدنيا. إنه مخلوق مقرٌّ بسلطان الله أبى أن يسجد لآدم واستكبر عن الانصياع لأمر الله فهو ليس "أهريمان" خالق الشرور ولا هو يمثّل مركز صراع دائم مع "أهور مزدا" إله الخير.
أصالة الخطاب القرآني إذن في مسألة الشيطان تتحدد أوّلا في ضوء عقيدة التوحيد التي تنطلق من الأصل الواحد للوجود وأنه تعالى في مفارقته للعالَم يظلّ حَفيًّا به فاعلا فيه. بذلك تحققت إرادة استخلاف الآدمي التي تقتضي حريّته سُـنَّةً لخلقه ضمن سيرورة الزمن. في هذه الدائرة التي تكرّس اختيار الإنسان وقدرته على الاهتداء بين سبل الخير والشر يتأكد أن طرد الشيطان عن مقام القُرب لم يكن اعتباطا أو عفوا بل جاء نتيجة اختياره للشر مسلكا ثابتا لا يتحوّل عنه بينما تكون دائرة استخلاف الآدمي لا تعني خيارا نهائيا لا رجعة فيه بل انفتاحا على احتمالات مختلفة. وهذا ما يؤكده الخطاب القرآني المتعلّق بالشيطان من إثبات لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم في الأرض ومبدأ تحقق خيار الآدمي المستخلَف .
هذا ما يمكن أن تفضي إليه قراءة موضوعية لخصوصية الخطاب القرآني في مسألة الشيطان.
ما يعنينا في هذا المستوى أن عدم الاتفاق على نظرية في التعامل مع الخطاب القرآني وعلى أصالة هذا الخطاب أفضت ببعض المفسرين إلى أسئلة مثيرة نأت بالفكر الإسلامي عن المعاني والدلالات التي أسبغها القرآن على الإنسان والشيطان. من هذا القبيل اخترنا مسألة معبّرة حصل فيها اختلاف عالجت كيد الشيطان وهل هو أضعف من كيد المرأة؟
اختلف أهل العلم في هذا الموضوع على قولين :
1ـ رأى البعض أنَّ كيد المرأة أعظم من كيد الشيطان لظاهر نصِّ الآية (إنَّ كيدكنَّ عظيم) بينما قال في الشيطان: (إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفاً) مما يدلَّ على أنَّ كيدهن أعظم من كيده.
2ـ يذهب آخرون إلى أنَّ المسألة تحتاج إلى توضيح لبيان ما بين الآيتين من فروق لا تتيح المقابلة اللغوية بين العِظَم والضعف ولأن كيد الشيطان اعتبر ضعيفاً لإمكان دحره والتخلص منه بالاستعاذة، أو الأذان، أو ذكر الله عموماً أما كيد المرأة فهو عظيم لأنه من الصعب طردها والتخلّص منها! إضافة إلى هذا فسياق الآية المتعلقة بكيد الشيطان يختلف عن السياق الآية المتصلة بكيد النساء في سورة يوسف.
خلاصة الاختلاف الذي انتهى إليه عدد من المفسرين هو أنَّ كيد المرأة ليس أقوى من كيد الشيطان لأنه جزء منه ولأنه يظل معتمدا طريق الوسوسة المختلف عن طريق المواجهة التي تعتمدها المرأة.
ما الذي يعنينا في هذا الضرب من الخلاف وفي المعالجة التي اعتُمدت من الجانبين؟
للإجابة لا مفرّ من التركيز على ما انزلقت إليه هذه المعالجة من رؤية تجزيئية شنيعة للخطاب القرآني فلكأن الخائض في الموضوع عَشِيَ عن كل ما ذكره القرآن الكريم من آيات تكريم الإنسان واستخلافه وعن الآيات التي ذكرت المؤمنات الصالحات القانتات الحافظات للغيب وعما وعد به سبحانه من عدل ونعيم لمن عمل صالحا من ذكر وأنثى.
أخطر ما في المثال الذي سقناه هو هذا الذهول الفاضح عن " كليات القرآن " المكوّنة لوحدته الأساسيّة والتي تجعل له نظرة للعالَم موقفا محدّدًا من الحياة.
إنه القصور الذي يفضي إلى تشظّي الوعي وإلى العجز عن الاهتداء لأنجع الحلول التي يتطلبها الواقع المتجدد والأحوال المتغيّرة.
الحاجة إلى نظرية في التفسير تغدو – على ذلك - مطلبا معرفيا وحضاريا تعيد الاعتبار للتصوّر القرآني مما يُنَسِّب أفهام القدامى ومعالجاتهم وما أحاط بهم من مناخ ثقافي واجتماعي خاص.
هذا ما نحسب أنه انتهى إليه فضل الرحمن في مطلع كتابه " الإسلام وضرورة التحديث "حين أكّد في دراسته عن التغيّر الاجتماعيّ وعلاقته بالنزعة العقليّة الإسلامية أنّ الأمر موصول بأسلوب تفسير القرآن وأنّ تعثّرات الحاضر وعدم نجاعة الأدوات الفكريّة المعتَمدة إنّما يرجع إلى الافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن نفسه.
*الجوهرانية والبؤس الإبليسي
يبقى بعد كل ما سلف جانب أخير يثيره موضوعُ الشيطان وطلبُه الإنظارَ إلى يوم الدين. في هذا المجال تبدو أصالة الخطاب القرآني كاملة في معالجتها لمسألة الشر من منظور ثقافي مميَّز.
في ظل ما يُعرف اليوم بصراع الحضارات وما ارتبط بهذه المقولة من تنظير وما نتج عنها من اختيارات، تتجاوز الشيطنةُ المجالَ الأنطولوجي الفكري و الحقلَ الرمزي الديني لتصبّ في صميم بُؤَر التوتّر والصدام في المستويين العالمي والإقليمي. ذلك ما يتيح للخطاب القرآني في أصالته التي عالج بها مسألة الشيطان معاصرة ونجاعة لافتتين للانتباه.
ماذا نجد إذا عدنا إلى المشاهد التي يتحدث فيها إبليس في النسق القرآني ؟
لقد سوّى الله تعالى آدم من طين من حمأ مسنون متغيّر و حين صار الطين صلصالا – يصلّ إذ ضُرِب كالفخار - نفخ فيه من روحه فإذا هو إنسان حيّ. عندها ظهر إبليس الذي كان من الجن ففسق عن أمر ربه وأبى أن يسجد استكبارا على اعتبار أنه خير من آدم : " خلقتني من نار وخلقته من طين ". الحجة الإبليسية أنه لا يمكن لمن خُلق من عنصر النار الذي هو أشرف من الطين أن يُؤمَر بالسجود إلى من هو دونه.
نحن- دون شك - أمام نظرة جوهرانية (Essentialisme) للكائنات والحضارات. هي نظرة تؤبّد الاختلافات والفروق وتجعل منها حواجز عازلة لا يمكن تخطّيها بأي حال.
بإزاء هذه الجوهرانية و في الجانب الآخر من اللوحة القرآنية يظهر الآدمي بأبرز خصوصياته الذاتيّة : قدرةٌ على النموّ من حالة بدائية إلى مرحلة أكثر تطوّرا و استعدادٌ للوعي بأنه صاحب إرادة.
الآدمي و إبليس في اللوحة التأسيسية هما المشروع و اللامشروع، الصورةُ بأفقها المفتوح وقرينتُها المعكوسة التي نزلت إلى درك الخيار النهائي. ما اعتنى به إبليس مما اعتبره ضعَةً في الآدمي ألهاه عمّا ينطوي عليه هذا الكائن من قدرات تتيح له أخطاء و صعودا عبر الحرية التي أعطاه إياها الخالق والتي لم تؤد به إلى خيار نهائي بل أتاحت له مجالا مفتوحا يمكن أن ينتهي بإعانة الله إلى المسلك الأفضل.
الآدمي ـ على هذا ـ هو الإمكان بينما الشيطان هو الحتمية. في الإمكان انفتاح وحريّة ، والحريّة صبغة إلهية أما الحتمية فطبع شيطاني؛ مَن رام الحريّة كان متمثّلا لنفخة الروح فيه ومن انصاع إلى الجبر عاذ بما هو شيطاني. في الأول- الإمكان- ارتقاءٌ عن طريق وعي الذات المتناهية الحرّة أما الثاني- الحتمية- فهو المثال عن الحرية البدئية التي هبطت إلى جبرية لا ترى في الآدمي إلا خصوصيات ثابتة و نهائية.
تلك هي المواجهة القديمة المتجددة.
ما يقال اليوم تشهيرا بالثقافة الإسلامية وقيمها ورموزها وبـــ"عدوانية" الشعوب الإسلامية واستعدادها "الفطري" للعنف والفوضى، كل هذا عَوْدٌ لإنتاج الحتمية الإبليسية التي لم تر في الآدمي إلاّ مخلوقا بدائيا و كائنا معطوبا لا يمكن تغيّره.
لا تختلف عنصريات المركزيات الثقافية المعاصرة عن جوهرانية البؤس الإبليسي فهي في اعتقادها بتفوّقها الذي لا يُطال لا ترى في الآخر إلا مجموعة من الثوابت والطبائع المتناقضة الحاجزة عن كل تغيير.
نهاية المطاف تتحدد في علاقة مسلمي اليوم بالمشروع المؤسس وبأصالة الخطاب القرآني في أبعاده الثقافية والعقدية والتربوية.
السؤال الأهم هو : كيف يمكن أن نتجاوز بؤس الجوهرانية الإبليسية و الانخراط بإيجابية في سيرورة التاريخ وفق الشروط المعرفة البشرية وضمن ثقة لا تفتر في العناية العُلْوية ؟
ذلك هو التحدي الأكبر الذي يواجه المسلمَ المدركَ للخط الفاصل بين شيطانيته وآدميته.