/

 

 

الإسلام ومنظومة القيم الإنسانية: منظور «ما بعد حداثي» إلى المسألة

خليل العناني

إذا كانت الحداثة قد حاولت الاقتراب من الدين باعتباره محفزاً للإيمان «العقلي»، ودافعاً للفرد من أجل الوصول إلى الحد الأقصى للمنفعة المادية، إلا أنها وفي سبيلها لتحقيق هذا المجد «المادي» تجاهلت كل ما هو «ورائي» أو «ميتافيزيقي»، وحررت العقل من أي قيود «غير مادية» إما باعتبارها غير موجودة، وإما باعتبارها غير مهمة في مسيرة التطور الفعلي للحضارة الغربية.

ومن خلال الحداثة انتقل المعنى الإيماني من الاعتقاد في الميتافيزيقي «اللامحدود» الذي يضرب بجذوره في أساس الفلسفة الغربية، إلى تمجيد و «عبادة» العقل الإنساني «المحدود» باعتباره «غاية» في حد ذاته. وهي بذلك أهالت التراب على التراث الفلسفي الطويل للأباء المؤسسين للفلسفة العامة بدءاً من أفلاطون وانتهاء بالفارابي، الذين نظروا الى العقل باعتباره «وسيلة» فهم المغزى الحقيقي للوجود البشري، وليس فقط للسيطرة عليه.

وكان من أهم دوافع ظهور فلسفة ما بعد الحداثة، إعادة الاعتبار لما هو «ميتافيزيقي»، ليس بمنظور الفكر القديم، أي باعتباره «عالماً مجهولاً» تسعى الفلسفة الى اكتشاف آفاقه، وإنما باعتباره يحمل مضامين الفكرة الإنسانية برمتها، أي البحث في محاولة تهذيب «العقل المادي» الذي أطلقته قوى الحداثة وفككت مرجعيته الأخلاقية.

إن غاية فلسفة ما بعد الحداثة، ليست مجرد العودة «النكوصية» بالعقل الإنساني إلى حالته البدائية من حيث القدرة على التفكير واكتشاف المجهول، بقدر ما هي تحديد الإطار الأخلاقي و «الإنساني» لهذا العقل، أي إعادة الصفة المعيارية له، وضبط بوصلته الإنسانية.

أي أنها ترشيد «الترشيد» الحداثي، أو بالأحرى ضبط «حركة» العقل الحداثي وإعادته الى حظيرة الأخلاق والقيم الإنسانية. أو بالأحرى، وعلى نحو ما يشير جان فرانسوا ليوتار، فيلسوف ما بعد الحداثة، إنها «إعادة اللجوء إلى الضمير كمصدر للفعل الإنساني»، وليس فقط العقل كمصدر وحيد له، وذلك على نحو ما تنادي به فلسفة الحداثة.

لكن ما هو موقع الدين بالنسبة الى فلسفة ما بعد الحداثة؟ ببساطة فإن الدين يعد أحد الأطر (أو الأعمدة) التي تسعى فلسفة ما بعد الحداثة إلى التركيز عليها باعتبارها أحد أشكال «الضمير» الإنساني، وكي تعيد النظر للدين، ليس بصفته مجموعة من النصوص والقيم اللاهوتية، وإنما باعتباره «سياجاً» روحياً يصنع الخلفية الإنسانية لحركة العقل في تحليله الظواهر الاجتماعية، وتعاطيه مع الواقع السياسي المعقد.

لا يعني هذا، أن يصبح الدين قيداً أو حاجزاً للعقل الإنساني عن تجاوز الممكن و «المعقول»، وإنما هو محاولة لإحلال «اليقين» في مقابل «الاقتناع» كمنهجية في التفكير. وهو لا يعني التخلي عن منتجات العقل «الحداثي» أو التقليل من منجزاته طوال القرون الثلاثة الماضية، بل يكاد يكون استكمالاً للفلسفة العقلانية «التنويرية» التي وضع أسسها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1809) عند نقده للعقل المحض.

ما فعله ليوتار في كتبه الشهيرة «الوضع ما بعد الحداثي» (1979)، و «الخلاف 1983»، و «أخلاق ما بعد الحداثة 1993» لم يكن مجرد محاولة جادة لنقد «الحداثة» فحسب، وإنما محاولة لنحت طريق راسخ في تأصيل الأطر الأخلاقية والمعرفية لفلسفة ما بعد الحداثة، ولم تكن جدالاته الكثيرة مع دريدا وليفناس ونانسي ولاكو وهابرماس، ومع أطروحاتهم حول ما بعد الحداثة ومصيرها الإبستمولوجي سوى محاولة تقليص الفضاء الكوني لأفكار الحداثة.

إن غاية الوجود البشري تحقيق السعادة والخير للبشر جميعاً، من خلال العدالة والتسامح وأنسنة المفاهيم والظواهر الحديثة. وهي غاية شكلت محور البناء الفلسفي الإغريقي والأوروبي في بواكيره، ولا عجب أن يعاد إنتاجها حالياً بعد أن أخذ العقل البشري دورة كاملة للوصول إلى أبعد نقاط التفكير «والخيال» فيما يظن «أنه» نهاية الوجود، فكانت النتيجة أن تفككت عرى الأخلاق وانجرفت غاية الوجود إلى عكس ما أريد لها، ولا مناص إلا بالرجوع إلى بديهيات التفكير الفلسفي، من أجل ضبط حركة هذا العقل في إطار خدمة تلك الغاية السامية.

الوجه الديني لفلسفة ما بعد الحداثة تكشف عنه حال السيولة القيمية التي تمر بها الحضارة الغربية منذ أكثر من نصف قرن، وهو بات طابعاً مميزاً يدمغ هذه الفلسفة، بل وأداة ضرورية لاستكمال بنائها المعرفي. فهو يعمل كأداة تفسيرية للكثير من الظواهر الراهنة في هذه الحضارة، فضلاً عن كونه يقدم مخرجاً «ليناً» يزيد من إقناع فلسفة ما بعد الحداثة.

فعلى سبيل المثال كيف يمكن تفسير ذلك النمو الهائل في المؤمنين بحرفية «الكتاب المقدس» أو ما يطلق عليهم «الإنجيليين» في الولايات المتحدة؟ وكيف يمكن تفسير النزوع الفردي نحو القيم العالمية والاهتمام بالمشاكل «فوق القومية»؟ وبماذا نفسر انتشار ثقافة «التطوع» و»الخيرية» لدى عدد هائل من قطاعات التجارة والأعمال؟

بكلمات أخرى كيف نفسر عمليات النزوح الجماعي من أنساق العلمانية الغربية، التي ابتعدت عن الأطر الأخلاقية، ومحاولة العودة إلى نمط مغاير من التفكير يعترف بحيوية دور الدين في صياغة المواقف الإنسانية، وليس فقط دور العقل «الرشيد» على نحو ما آمنت به فلسفة الحداثة. 

بيد أنه تجدر الملاحظة، وكما أشرنا آنفاً، أن الاهتمام «ما بعد الحداثي» بالدين لا ينطلق من الحاجة إلى تقييد العقل عبر «طقوس وشعائر» بعينها، فهذا هو التدين وليس الدين، وإنما فقط محاولة لإعادة الاعتبار لمصادر الضبط الذاتي في وجه عام سواء كانت دينية أم ماورائية أم أخلاقية.

فلسفة ما بعد الحداثة تسعى الى التخلص من الإفراط في «تقديس» العقل، والخروج من شرنقة حدوده التي جعلت دريدا يمتدح الموت في كتابه الشهير «هبة الموت» أو «The Gift of Death» عام 1996.

لكنها في الوقت نفسه لا تنادي، في نقدها للحداثة، بالتخلي مطلقاً عن منتجاتها، أو هدم منظومة الأفكار والمناهج التي طورتها هذه الفلسفة خلال القرنين الماضيين، بقدر ما يعني الاستجابة لحال التدهور الشديدة التي أصابت القيم الإنسانية وأنتجت المأزق الراهن للحوار الحضاري.

أين تقع منظومة القيم الإسلامية من فلسفة ما بعد الحداثة؟ بكلمات أخرى: هل ثمة تلامس بين ما يطرحه الإسلام كدين عالمي وبين هذه الفلسفة؟ لا مبالغة في القول إن الإسلام يعد، وفق الأطروحات الفلسفية الراهنة، ديناً «ما بعد حداثياً» بكل ما تحمل هذه الكلمات من معانٍ ودلالات، ولا مبالغة أيضاً في النظر الى فلسفة ما بعد الحداثة، باعتبارها محاولة جديدة للاقتراب من فهم الدين الإسلامي، بل قد تكون إحدى الطرق المؤدية إليه في نهاية المطاف.

فمن جهة أولى، فقد احترم هذا الدين على مدار أربعة عشر قرناً العقل الإنساني بإطاريه الوضعي والأخلاقي، وجعل منه «بوصلة» للضمير الإنساني والفعل الاجتماعي، وكثيرة هي الآيات التي تبجل العقل وترفعه إلى مرتبة التقديس، خصوصاً آيات الاستخلاف وإعمار الأرض والتخيير الإرادوي بين الخير والشر، والإيمان والكفر.

من جهة ثانية، وعلى رغم هذه السمة المقدسة للعقل، فقد وضع الإسلام سياجاً «ذاتياً» على العقل البشري، يجمع فيه بين الرشادة على نحو ما نادت به فلسفة الحداثة، وما بين «الضمير الأخلاقي» على نحو ما تنادي به أطروحات ما بعد الحداثة. ذلك أن أهم ما يميز الإسلام عن غيره، أنه وكما قال كثير من مفكري الغرب يعبر عن «ديانة ضمير» تخلق ضوابط بديهية «إرادوية» لا يمكن لأي مجتمع الاستغناء عنها.

ومن جهة ثالثة، يطرح هذا الدين منظومة من القيم «الإنسانية»، يمكن لأي مجتمع الاهتداء إليها بصرف النظر عن دينه أو معتقده الذي يرتبط به، وفي مقدمها قيم العدالة والمساواة واحترام الآخر، وهي ذاتها القيم التي تشكل محور الفلسفة الإنسانية منذ سقراط وحتى أفكار ما بعد الحداثة.

ومن جهة رابعة، يقدم هذا الدين حلاً ناجعاً لكثير من المسائل التي تؤرق العقل البشري حالياً، كالعلاقة بين الإيمان والعقل، والحرية والأخلاق، وقضايا الضبط الاجتماعي كمسائل الإجهاض والشواذ وغيرها من تلك التي تمثل في حد ذاتها تحدياً كبيراً لفلسفة ما بعد الحداثة، ما قد يدفع نحو ترسيخ فلسفة جديدة من قبيل «ما بعد ما بعد الحداثة» أو أي فلسفة «دينية» أخرى، تكون أقرب لصحيح «الإسلام».

إن ديالكتيك العقل الإنساني (خصوصاً الغربي) يقترب في شكل حثيث، علي الأرجح من دون قصد، من القيم الإنسانية التي رسخها الإسلام وبنى عليها حضارته العريقة طوال قرون عدة، ما يحمل الفقهاء والمجددين ورجال الدين في العالم الإسلامي عبئاً ثقيلاً في إعادة تقديم هذه القيم السامية في ثوب حضاري يلهم الآخرين.
 

 

 

 

12-04-2007 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=390