لا يكاد ينعقد مؤتمر للنخب العربيّة للتداول في شؤون الفكر والحضارة دون أن تثار واحدة من إشكاليات أربع كبرى أضحت دون منازع مآلات كل حوار ثقافي أو ندوة أكاديمية.
أيّا كانت خصوصية الموضوع المطروح فإن المشاركين في تلك الملتقيات يجدون أنفسهم مدفوعين بشكل أو بآخر إلى مباشرة ما أصبح يعتبر المربّع الفكريّ الجديد المركّب من أسئلة كبرى مترابطة هي:
- علاقة السياسة بالدين.
- الشريعة والجماعة.
-التعليم والمؤسسات التربوية الدينية.
- الخصوصية و العالمية.
بذلك توارت قضايا العشرية السابقة التي احتلّت فيها الصدارة مسائلُ النهضة والمرأة والتنمية و التراث.
لا يعني هذا التراجع أن كلّ هذه القضايا قد حُسمت بين المفكرين والباحثين أو أنّه تحقّق فيها نوع من الوفاق بقدر ما يدلّ على أنّ واقعَ جيلٍ من المسلمين قد حسم الأمر فيها عمليا بصورة أو بأخرى.
بذلك يتضح أنّ نخب العالم العربي ومفكّريه قد فقدوا في أكثر من قضية صفتَهم الريادية و أنّ وراء إخفاقات العالم العربي الحديث تكمن معضلة النخب سواء أكانوا مثقفين أم فقهاء، تحديثيين أم سلفيين، إصلاحيين أم تقليديين.
ما تثبته المرحلة الحديثة والمعاصرة في العالم العربي الإسلامي أن فجوة هائلة أصبحت تفصل فكر النخب المختلفة عن عموم مجتمعاتها بما أفضى في أكثر من قضية إلى نوع من الفصام الذي يدفع المجتمعات إلى مبادرات عمليّة حاسمة لا صلة لها بتوجّه رجال النخبة الذين فقدوا وحدتهم وجانبا هامّا من فاعليتهم.
من هنا نقف على جانب مهمّ من أسباب العنف المدمّر لحاضر العالم العربي والإسلامي ومستقبله والذي كثيرا ما يُظَنُّ أنّه كان رديفا للإسلام ولمبدأ الجهاد في حين أنه إفراز لرفض النخب أو عجزها عن إيجاد ساحة تواصل مع المجتمع وماضيه و مشاغله.
ما تؤكده نظرة تاريخية فاحصة هو أن هذا العنف المستفحل يستمدّ شراسته من جملة من المصادر هي في القسم الأهمّ منها حديثة و تحمل الجانب الأوفر من مسؤولياته النخبُ المتعالية على مجتمعاتها والمتشبثة بإيديولوجيات وحتميات راسخة.
هذه النخب العربية، مثقفة وحاكمة أو معارضة هي التي شرّعت للعنف قبل أحداث سبتمبر 2001 بعدّة عقود. لقد تصدّت أوّلا تلك النخب إلى الفجوة الهائلة التي تفصلها عن مجتمعاتها بمقولة استئصال التراث لكونه السبيل الوحيد لتحرير الجماهير. عندئذ أصبح للعنف معنى تاريخيٌ يبيح استعماله ضد الشعوب ذاتها على اعتبار أنه من" الممكن أن يكون أصحاب المصلحة في التغيير أكبر عائق أمامه".
تلك كانت بداية العنف الماحي للماضي من مداخل شتّى. ما عُرف بــ "الاختيار الصِفـر" نشأ فيما بين الحربين مع النزعات التحرريّة التي لم تكن تبحث عن شرعيّتها من الذات الوطنيّة، اشتدّ بعد ذلك عوده في الخمسينات ثوريا تحديثيا ثم انساقت فيه جماعات انتسبت إلى الدين واعتبرت نفسها القائمة على أسلمة مجتمعات تراها في فجوة عنها وعن الشريعة.
لذلك يمكن القول بأنه لا يوجد فرق منهجيّ بين إيديولوجيات تنصّب نفسها وصيّةً على المجتمع وهي متبرئة منه ثقافيا أو تاريخيا، مرّة باسم التحرر الفكري وأخرى باسم التقدّم والوعي التاريخي وثالثة تطبيقا للشريعة و من أجل بناء مجتمع دوليّ على أنقاض الغرب، منبعِ الشرور في تقديرها.
إذا ربطنا بين هذه الهوّة التي تجعل النخب العربيّة بأنواعها في واد و عموم الشعوب في واد آخر، إذا ربطناها بإشكاليات المربّع الفكري المعاصر المتكاملة نلاحظ عنصرا رئيسيا غائبا رغم محوريّته في معالجة الأسئلة الكبرى و في قدرته على تجسير الفجوة الهائلة.
إنّ تشخيصا موضوعيّا يفضي إلى الإقرار بغياب العالِم ضمن المشهد العربيّ المعاصر، فإذا كان لدينا مثقفون و مفكّرون، كتّاب وباحثون، مفتون ودعاة فإنّ العلماء على أفضل تقدير بيننا قطعٌ نادرٌ جداً أو هم مثل بَيْض الأَنوق.
لذلك يتأكّد طرح سؤالين :
- ما المقصود بالعالِم ؟
- لماذا نعدّه عنصرا رئيسا في مشروع المعاصَرة التي يراوح العرب منذ عقود دون القدرة على إنجازها؟
" من هو العالِم ؟" : سؤال طُرح منذ ما يزيد عن قرن نتيجة وعي بأن خللا فادحا أصاب المنظومة الفكريّة للمجتمعات العربيّة الحديثة فأعجزها عن أن تكون متصالحة مع نفسها ومع عصرها.
في حوار - شاهد دار سنة : 1319 /1901 في اسطنبول بين الإمام محمد عبده مفتي الديار المصريّة وبين مولانا جمال الدين أفندي شيخ الإسلام الأعظم بدار الخلافة نقرأ ما يلي :
قال شيخ الإسلام :" لا شك أن أغلب المشتغلين بعلوم الدين تنقصهم الخبرة بأحوال الناس ويفوتهم العلم بما عليه أهل العصر ولو خبروا الزمان وأهله لأمكنهم أن يحملوا شرعه ويعلو شأنهم وشأن ملّتهم مع أن العالِم لا يكون عالِما حتى يكون مع علمه عارفا والعارف هو الذي يمكنه أن يوفّق بين الشرع وبين ما ينفع الناس في كل زمن بحسبه ومن كان بارعا في العلوم الدينية لكن لا يعرف حال أهل عصره ولا يراقب أحكام زمانه لا يسمّى عالِما ولكن يسمّى متفنّنا ... ولا يسمّى عالِما على الحقيقة حتّى يظهر أثرُ علمه في قومه ولا يظهر ذلك الأثر إلا بعد العلم بأحوالهم وإدراكه لحاجاتهم".
يضيف الإمام:" جاء في كتب السادة المالكية تعريف العالِم بأنّه العاكف على شأنه البصير بأهل زمانه وهو تعريف للعالِم بالغاية من علمه والعكوف على الشأن أن لا يضيع العالِم زمنه إلا فيما يفيد العامة لأن هذا هو شأن العالِم الذي ينبغي أن يعكف عليه ولذلك اتبعه بالوصف الآخر وهو البصر بأهل الزمان لأن البصر بأهل الزمان إنما يدخل في الغاية من العلم لأنه وسيلة للتمكّن من العمل في أهل ذلك الزمان وقال صاحب هذا التعريف : من فرّط في شيء من زمنه ولم يستعمله أو أساء استعماله بسبب جهله بأحوال هذا الزمان فهو ينثر المقال لا يبالي كيف يقع ...و من كان كذلك فهو خارج عن مفهوم العالِم لا ينطبق عليه تعريفه وغاية ما يمكن أن يصل إليه إن عرف شيئا من العلم أن يسمّى حافظا".
كان الإشكال إذاً واضحا في العصر الحديث يعضده هذا الحوار الذي نراه أنموذجا يضاف إلى تعاريف أخرى من أوجزها : "العالِم بين الله وخَلقه فلينظر كيف يدخل بينهم".
هذا عن السؤال الأوّل الذي يضيئه كأفضل ما يكون ما يُعتَبَر حديثا نبويّا: "العلماء ورثة الأنبياء".
أمّا كون العالِم حاجةً عربيّة متأكّدة لمعاصَرةٍ تتطلّب حدّا أدنى من الالتحام بين النخب ومجتمعاتها من أجل استبعاد خيار العنف فلمقدرة العالِم في مواجهة ثلاث معضلات:
1- تراجعٌ جدّيّ لمكانة المثقف الذي كان قد أزاح - مع العصر الحديث- الفقيهَ من مركز إشراف كان لقرون يضمن للمجتمعات الاستمرارية والتوازن. اليوم فقدَ المثقف العربي " ظلَّه" بتراجع مهمّته النقدية التجاوزية التي كانت تمكّنه من تصوّر البدائل الإستراتيجية المساهمة إيجابيا في الحراك الاجتماعي والتطوّر الفكري.
2- تفاقم الازدواجيّة القائمة بين القانون والفتوى نتيجة تبنّي نظام الدولة الحديثة صاحبة القواعد المُلزمة للسلوك الفردي والاجتماعي، تمّ هذا مع انتشار لفتاوى لا تزيد المجتمعات إلاّ خَبالاً. إنّها فتاوى سياسية في جوهرها تخاطب الجمهور فيما هو متّصل بالشأن العام بما يتيح لمن تصدّى إلى هذا الإفتاء أن يوسّع من دائرة سلطانه بصورة غير مسبوقة.
3- تنامي تيار العولمة في القرن الحادي والعشرين تخطّى وسائطَ الاتصال والمعلومات وحركة الأموال والبضائع في العالَم ليبلغ ما هو أخطر: إلغاء" الجغرافيا الثقافية والسياسية ". لقد غدت مباشرة المشاغل الكبرى للمجتمعات ذات طابع عالمي تخترق خصوصيات الأقطار و المجتمعات و الأعراف. مثل هذا السقوط للحواجز هو الذي قوّى من عضد الحركات الإحيائية الجهادية بين المسلمين إذ بدا أن لا معنى لأيّة تجزئة سواء أكانت قطرية سياسيّة أم مجتمعية مؤسساتية أم فكريّة تاريخية.
تلك هي أبرز عوامل الإعاقة الفكرية التي تستدعي ضرورة إيجاد الحلقة المفقودة التي تمثّلها المؤسسات العلميّة القادرة على " إنتاج" العالِم الحامل لشهادة المعاصَرة : شهادةِ منحِ قدرٍ أكبر من الحياة تنكشف به القوى المجمّدة للواقع وللتراث، شهادةٍ تُـكسِب تلك المؤسسات وخرّيجيها مرجعية جديدة معرفيا واجتماعيا وإنسانيّا.
ذلك هو أحد أهمّ تحديات المستقبل: قضيّة العالِم المدرك لإرث النبوّة، التي تعني في جانبها البشري وعيا روحيّا يتحقّق في واقع الناس بقدرِ اعتبار الشروط الموضوعية لذلك الواقع، أو حسب عبارة محمد إقبال:" الوعي النبويّ روحي ووضعي في الآن نفسه.