لم يعد أحد اليوم يجادل في مركزية الدين في حياة جميع المجتمعات البشرية على اختلاف هوياتها ومرجعياتها وتوجهاتها، فمنذ خلق الله البشر كان الدين هو المحرك الحقيقي للإنسان على وجه الأرض، وذلك رغم اختلاف وتعدد التعبيرات السلوكية التي يفهم منها حضور الدين داخل مختلف المجتمعات، حيث نجد أشكالا وألوانا متعددة من المعبودات، فمن لم يتبع الدين الحق بعبادة الله الواحد القهار عبد الشجر أو الحجر، أو الشمس أو القمر، أو النار أو البقر، أو باقي مختلف الأصنام والأوثان، وقد عبر أحد الفضلاء عن ذلك بلسانه فقال:
ليس الدين بالصوم ولا بالصلاة / الدين: خذ في خفة- وهات!
الدين أن تبدو ظريفا مرنا / وإن عبدت عنزة أو وثنا!
هذا الحضور المهيمن للدين على حياة البشرية رغم اختلاف التعبيرات كما قلنا يؤكد أن تلازم الوعي الديني والنهوض الحضاري حقيقة تاريخية وشرط موضوعي، فالحضارة الإنسانية عبر التاريخ تعود في جذورها إلى وعي ديني ورؤية كونية متعالية، بدءا من حضارات الهلال الخصيب ومصر الفرعونية، ومرورا بالحضارات الصينية والهندية والفارسية والإغريقية والرومانية، وانتهاء بالحضارتين الإسلامية و الغربية. ولقد وثق المؤرخ الغربي الشهير ارنولد توينيي العلاقة بين الدين والحضارة وأظهر في كتابة دراسة التاريخ " أن العلاقة بين الدين والحضارة علاقة المقدمة بنتيجتها .
وقد فرض هذا الحضور للدين أيضا نوعا من الفهم لدوره في الحياة داخل كل مجتمع أو تجمع بشري وإذا كانت المجتمعات الإسلامية قد حققت انسجاما كبيرا في فهمها وتعاملها مع الدين باعتباره مهيمنا على جميع مجالات الحياة فإن الانحراف الذي عرفته الديانة المسيحية طيلة العصور الوسطى فرض صراعا كبيرا حول الدين داخل المجتمعات الأوروبية مع بداية الخروج من عصور الانحطاط والاستبداد التي ساهمت فيها الكنيسة بشكل معين كسلطة دينية إلى جانب باقي السلط السياسية والاجتماعية، ومن هنا نفهم الموقف الذي سجله مفكرو عصر الأنوار من الدين.
لقد حاول قادة حركة الأنوار في جهدهم الرامي إلى تحرير العقل الغربي من وصاية الكنيسة التأكيد على أهمية الحفاظ على القاعدة الدينية للروح الحداثية، لذا نراهم يميزون بين النظام الديني كسلطة تمثلها الكنيسة في المجتمع الأوروبي والروح الدينية المستقلة عنها. لذلك يمكن تلمس مركزية الوعي الديني للحياة الإنسانية في كتابات رواد الفكر الحداثي من أمثال ديكارت وهوبز ولوك وروسو الذين حرصوا على تأكيد أهمية الحس الديني رغم رفضهم للمرجعية الدينية التي تمثلها الكنيسة، إذ يؤكد ديكارت على " ارتباط اليقين المعرفي بالوعي بأسبقية الوجود الإلهي، بحيث يستحيل الوصول إلى القطع بالحقائق الوجودية للأشياء دون الانطلاق من حقيقة وجود الله المطلق"(1) وبالمثل نجد المفكر الفرنسي روسو يقر بحاجة المجتمع الى التزام ديني بالقيم التي تجعل الحياة الاجتماعية والتعاون بين أبناء المجتمع على اختلاف مشاربهم ممكنا، رغم رفضه للأشكال الدينية التقليدية في المجتمع الذي واكبه، لذلك نجده يدعو في كتابه "العقد الإجتماعي" إلى دين طبيعي يقوم على عدد من المعتقدات الإيجابية والسلبية، ويضع مجموعة من المعتقدات التي يدعوها بالإيجابية منها: " الإيمان بوجود إله عليم حكيم رحيم يعلم الغيب ويحيط الناس بعنايته، وبالإيمان باليوم الآخر، وبسعادة العادل وعقاب الآثم، وبقدسية العقد الإجتماعي والقانون هذه هي المعتقدات الإيجابية، أما السلبية فإنني اختزلها إلى واحدة، رفض التعصب"(3) بل إننا نرى مفكرا مثل كانط الذي رفض الاعتراف بقدرة العقل الإنساني على الإلمام بالحقائق الغيبية المتعالية على الخبرة الحسية، و الذي اختزل مفهوم الحقيقة إلى المستوى الحسي من التجربة الإنسانية، وسعى جاهدا إلى بناء المفاهيم الأخلاقية على أساس عقلاني صرف، يؤكد أنه "في حال غياب الإيمان بالوجود الإلهي وبوجود عالم غيبي لا يمكن إدراكه اليوم لكن مدار مثل الإنسان ورجاءه، فإن المثل الأخلاقية السامية ستبقى محط القبول والتقدير، لكنها لن تصبح باعثا للمقاصد والأفعال" (4).
رغم هذه التأويلات الجزئية والمقزمة التي أعطيت للدين من طرف رواد الحداثة الغربية، والتي تجد مبرراتها في نفسية الاستبداد التي تركبت لدى العقل الغربي من جراء هيمنة سلطة الكنيسة على حدود تفكيره، فإن جهودهم لعزل الفكر الديني الكنسي عن دائرة الحياة العامة لم تلبث أن قادت إلى زعزعة القاعدة الأخلاقية التي تقوم عليها الحضارة الحداثية.
وعلى العكس من البلاد الأوربية فهذا التصور النظري والتأويلات التي أعطيت للدين فيها لا يمكن تطبيقها ببساطة على المجتمعات العربية الإسلامية رغم المحاولات والمجهودات المتكررة من طرف الحداثيين العرب لاتباع خطى مفكري الغرب. فالعقل الحداثي العربي استيقظ منذ بداية القرن الماضي على إشكالية تخلفه وهامشيته وضعف فاعليته وإنجازاته، فراح يبحث عن مكامن الخلل والتخلف، ووسائل الانطلاقة والتقدم فجعل الغرب قبلته فنهج نهجه ظانا أن تجربته ملكا إنسانيا مشاعا، وهذا يعبر عن تفكير بالمقلوب وجهل بطبيعة المجتمع العربي وتاريخه، ومن هنا يتحدد مأزق الحداثيين العرب في موقفهم من الدين الإسلامي.
فبالرغم من فشل محاولات العلمنة لإقصاء وعزل الدين عن الحياة العامة داخل المجتمعات العربية لم يستفق العقل الحداثي العربي من غفلته وراح يسلك طريقا آخر للهجوم على الدين انطلاقا من كونه شريعة وقيما وأخلاقا وروحا، لتحطيم الأساس الأخلاقي للمجتمع العربي، وذلك بدعوى تجفيف المنابع، أكثر من هذا أصبح العقل الحداثي العربي يمتلك جرأة كبيرة في الهجوم على أصل ومنبع هذه الأخلاق والقيم، فالهجوم اليوم أصبح على القرآن الكريم وليس على سلطة أو حركة أو نظام أو حكم ديني كما كان الشأن عند الأوروبيين، أصبح الاتجاه بشكل مباشر نحو نصوص الوحي لتوجيهها بالنقد والرد من طرف رواد القراءات الحداثوية لآيات القرآن الكريم، وذلك بالدعوة إلى إخضاعها لقراءات وتأويلات متعسفة وفق المنهج الحداثي الذي يفرض على نصوص الوحي نفس المنطق الذي يتعامل به مع الإنتاج المعرفي البشري.
وعموما فهذا الموقف المقلوب من الدين عند الحداثيين العرب يعبر عن أزمة حادة عند العقل الحداثي العربي المعاصر، يتمثل في عدم مفارقته مستوى الذهول والصدمة في صلته بالحداثة وبذلك لم يستطع بعد أن يتخذ موقفا حاسما للإقرار بمشكلة الحداثة داخل النسق الحضاري العربي الحديث، بما يخوله بدءا عملية الهضم وتجاوز مرحلة الصدمة، فهضم الحداثة كما يقول محمد المستيري قد يقود إلى القدرة على نقدها ونقد الحداثة قد يؤدي إلى تجاوزها بطرح البديل. ولأن العقل الحداثي العربي لم يقم بعد بمحاولات جادة وكافية لهضم الحداثة فلن يتجاوز مجهوده للحاق بموجة الحداثة مستوى التقليد(5)، ثم إن العقل الحداثي العربي في تعامله مع الدين بهذا الشكل يعبر عن جهله الكبير بتاريخ وتراث المجتمع العربي الإسلامي وعدم هضمه أيضا لهذا التراث، وهو ما يفرض رؤية سطحية لا تسمح بتقييم ونقد حقيقيين لهذا الأخير.
ومن هنا ينبغي للحداثيين العرب أن ينطلقوا في تعاملهم مع الحداثة من وعي دقيق بالخصائص الثابتة للمجتمع الإسلامي خصوصا في الجانب الديني الذي هو أساس قيام ونهوض المجتمع العربي، ولنقف معهم على الخلاصات التالية.
• بالنسبة للقراءات الحداثية لنصوص الوحي- المؤطرة للدين- فهي محكومة بالفشل لكونها قراءات متسكعة لا تنضبط بضابط غير ضابط الغرب وقبلته، فهي قراءة تعبر عن رغبة قراءها لا عن مضمون المادة المقروءة، ولو بذل العقل الحداثي العربي مجهودا بسيطا لتمكن من الوصول إلى أنه لا يمكن أن نحكم على القرآن الكريم بحكم الظواهر التاريخية،
• فهو مرتبط بالذات الإلهية في جميع القضايا التي يعالجها سواء كانت معرفية أو فكرية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، والذات الإلهية منزهة كل التنزيه عن أي مشروطية أو تاريخانية، فالقرآن الكريم يعتبر المرجع الشامل المؤطر لحركة التاريخ والفكر وتفاعلاتهما، والمعيار الضابط لنتاجات المعرفة، والميزان العدل للتمييز بين الحق والباطل والتمييز بينهما، وجد فيه العقل الإنساني زاده على مر العصور فهو كما يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: " الفصل ليس بالهزل، ما تركه من جبار قسمه الله، ومن ابتغى الهدى فيغيره أضله الله وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تتلبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالو: " إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به" من قال به صدق، ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي على صراط مستقيم" رواه الترميذي.
• الدين في المجتمع الإسلامي ليس سلطة فقط وإنما هو مهيمن على جميع السلط داخل المجتمع سواء كانت سياسة أو فكرية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها، فالدين في المجتمع هو أكثر من سلطة لكونه عقيدة وشريعة وحكم وفكر ومعرفة، وبذلك فهو مؤطر لجميع أنشطة الحياة داخل المجتمع الإسلامي.
• محاولة الربط بين الإصلاح والديمقراطية والعلمنة السياسية والثقافية في عالمنا العربي الإسلامي أمر محكوم بالهشاشة ويعبر عن سذاجة حتمية، بحكم أن العلمانية عندنا نحن معشر العرب والمسلمين كانت قرينة الانقسامات الاجتماعية والثقافية والاستبداد السياسي في الغالب، وليس قرينة الديمقراطية أو شيوع فكر التعدد والتسامح خلافا لما هو متداول في الأدبيات الفكرية والسياسية الغربية والعربية، وهنا نجد تعليلا عميقا عند ابن خلدون المختص الخبير في طبائع المجتمع العربي، في مقدمته تحت فصل " في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة(6). فابن خلدون يجرد العرب من إمكانية أي استقلال عن الدين، فجذورهم البدوية أو طبيعتهم التي اكتسبوها عبر تاريخهم، شكلتهم تشكيلا خاصا فإما أن يقودهم وحي أو فكرة دينية، وإما أن يتآكلوا أو يكونوا تبعا لدول كبرى محيطة بهم فالدين في رأي ابن خلدون هو الذي يمكن أن يوحد المجتمعات العربية ويجعل العرب ينقادون لأمير، أو نبي، ويعالج أمراضهم الأخلاقية العنصرية، ويهذب وجدانهم ويعطيهم الدافع الحضاري لصناعة الملك والامتداد في الأرض.
• الدين الإسلامي هو الدين الحق الذي ارتضاه الله للبشرية جمعاء وذلك لقوله تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام فمن ابتغى غير الإسلام دينا قلن يقبل منه وهو في الأخيرة من الخاسرين". ومن هنا أيضا تأتي عالمية الإسلام كدين موجه إلى جميع البشر وليس حكرا على مجتمع دون غيره، وبذلك فهو دين صالح لكل زمان ومكان ولكن مجتمع، فهو دين رباني جاء ليكون رحمة للعالمين يقول الله تعالى " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". من هذا كله ينبغي على مفكرينا جميعهم أن يعوا مسؤولياتهم الكبيرة تجاه دينهم والتي تتجاوز حدود الذات، فالبشرية تتطلع اليوم بلهفة إلى من ينقذها من الأزمة الحضارية التي تعيشها و تفعيل الخطاب الإسلامي المرتبط بالقرآن وتبليغه هما الكفيلان بإنقاذها من هذه الورطة. ولن تنجو الأمة الإسلامية من هذه الهاوية إذا لم تقم بواجبها تجاه نفسها واتجاه غيرها. هذا الواجب يمكن أن يتحدد في مستويين: الأول هضم الخطابي القرآني وتفعيله في حياة المجتمعات الإسلامية. أما الثاني إبلاغ هذا الخطاب إلى باقي المجتمعات البشرية، وتقديم المشروع الإسلامي كمشروع حضاري قادر على تحقيق عالمية إسلامية تتجاوز عالمية عولمة الغرب وإثبات قضية شمولية الإسلام وإنسانيته المنفردة في مقابل التأكيد على أزمة الحضارة الغربية بسبب الإفراط في المادة والبعد عن الأخلاق والقيم.
1- Arnold Toynbee a study of history oxford university press 1946
2- René Descartes Mediations on first philosophy Trans john Nottingham (Cambridge university press, 1986) p. 49.
3- Jean- Jacques rousseau, the social contract, trans Maurice Cranston (London: penguin books, 1968)p 186.
4- Immanuel Kant critique of pure reason, trans, Norman kemp smith ( New York, Macmillan 1929) p 640.
5- محمد المستيري، " في المعاصرة والحداثة "، مجلة رؤى، العدد 18/ 2003، ص: 9.
6- ابن خلدون، المقدمة، ص: 124.