يتم التعامل مع "الغرب" على أنها كلمة ذات حدود واضحة وبسيطة، ويبدو لي أن تلك البساطة المتوهمة تساهم في مزيد من تعويق الفهم والتفاهم، ورسم العلاقة مع هذا "الغرب"، وفي تلقي منجزاته أيضًا، خاصة الفكرية والأيدولوجية التي لها سياقها الخاص في "الغرب" وتحكمها حساسيات تكتنفها أيدولوجيات ومصالح وظروف إنتاج لهذا المعنى أو ذاك في ظل تعددية "الغرب" الذي نتصوره واحدا بسيطا.
مساءلة المفهوم والتباساته
مشروعية مساءلة مفهوم "الغرب" تأتي من اعتبارات متعددة، منها أن التباسات المفهوم والرؤية التبسيطية له متوزعة على مجالات مختلفة فكرية ودينية وسياسية في حقول الفكر والنقد والسياسة.
كما أنها تدفع إلى التباسات عويصة من أن أي التباس أو توتر يحيط بين "الغرب" والمسلمين يستدعي الحديث عن الإسلام والغرب، المسيحية والإسلام، حوار الحضارات، حوار الثقافات وغيرها، خصوصًا بعد انتشار تعبير هنتنغتون "الحدود الدامية للإسلام" كفكرة، ووقوع أحداث سبتمبر/أيلول كصورة طاغية!
كما أن تشريح المفهوم من شأنه أن يلقي بظلاله على كل من ثنائية الغرب والإسلام، والعلاقة بيننا وبين العالم (سياسيا وثقافيا ودينيًّا)، وعلى علاقة الإسلام السياسي بالغرب ووعيه به (سياسيا وفكريًّا).
”
تشريح مفهوم الغرب من شأنه أن يلقي بظلاله على ثنائية الغرب والإسلام، والعلاقة بيننا وبين العالم سياسيا وثقافيا ودينيا، وعلاقة الإسلام السياسي بالغرب ووعيه به
”
مفهوم الغرب ليس بسيطًا ولا كليًّا، وهذه التعددية في المفاهيم يحيل إليها جيل دولوز بالقول "لا وجود لمفهوم بسيط، كل مفهوم يملك مكوناته، ويكون محدداً بها". وتعددية المفهوم متعددة أيضًا! فهو يشمل مكونات السياسة والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والعِرق والدين والأيدولوجيا. واشتغال المفهوم -كما هو واقع- لا يقوم عليها جميعا، بل يقوم على الحضور النسبي لبعضها.
هذه المكونات المتعددة للمفهوم تحيل أحيانًا إلى التباسات أخرى حين تستدعي ثنائية الشرق والغرب، والمسيحية والإسلام، لتحل المسيحية كمرادف للغرب في الحوارات التي تجري خاصة بعد 11 سبتمبر/أيلول، حين يحال الصراع إلى ديني وكأن الشرق لا يوجد فيه مسيحية، أو أن هناك مشكلة مفترضة مع المسيحية "الغربية" فقط!!
من الجغرافي إلى الجيوسياسي
انطلاقًا من جغرافية المفهوم التي يحيل إليها لفظه يرى محمد أركون أن المؤرخين حرفوا مفهوم الغرب عن معناه الجغرافي إلى معنى جديد ثقافي وأيدولوجي غير مرتبط بمنطقة جغرافية معينة كما كان عليه الحال في السابق.
وكان لمفهومي الغرب والشرق معان مختلفة، فقد كانا يعبران عن الانقسام المسيحي: الأرثوذكسي الشرقي والكاثوليكي الغربي، والشيوعية: الشرق، والرأسمالية: الغرب، وهنا توسع الغرب ليشمل أميركا.
وكان الشرق يعني الهند والصين وما وراء السند، وكان يعني أيضا في عصر التنوير الرومانسية والأحلام والسفر، وفي الحروب الصليبية كان يعني الظلامي المهرطق الكسول الحالم اللامبالي.
بينما يعتبر جورج قرم أن الشرق والغرب هما تخيلات متغيرة المحتوى، يتغير الخط الذي من المفروض أن يفصل بينهما، لأنه في فترات معينة كان الشرق يعني الصين واليابان وكان الغرب يخاف منهما، ونظرته إليهما كانت نظرة كراهية وازدراء شديدين.
ونظرة الانفصال بين الشرق والغرب كانت أيضاً داخل الكنيسة المسيحية -أي في الدين الواحد- بين كنيسة روما وكنيسة القسطنطينية، ثم أصبحت بين البروتستانت والكاثوليك.
ربما تكون تحديدات "شرق وغرب" قامت على تعريف الذات وتمايزها عن الآخر المجمل أو المبهم أو المَخُوف، لكن "الغرب" الذي تشكل شيئا فشيئا عبر قرون، تحدد بالشكل الذي آل إليه الآن بدءًا من القرن السادس عشر، ومن هنا تعتبر صوفي بسيس سنة 1492 سنة التأسيس لميلاد الغرب، وهي سنة اكتشاف أميركا وطرد المسلمين واليهود من إسبانيا، وهذا تحديد للمفهوم من خلال امتلاك العالم الجديد، ما يعني أن الباعث لهذا التحديد هو دافع تحديد نحن وهم، ليس من مجرد تعريف الذات بل تفوق الـ(نحن) على الـ(هم).
ومن هنا يتم تشكيل أسس هذا "الغرب" على مرجعية يونانية-رومانية مع إقصاء كل المصادر الشرقية أو غير المسيحية الأخرى (مصرية، هندية، إسلامية، وغيرها) للحضارة الأوروبية.
لكن اكتشاف أميركا والتوسع في العالم ونزوح الملايين من الأوروبيين إلى أميركا وأستراليا نتج عنه فقدان أوروبا مركزيتها لصالح مفهوم الغرب الذي أخذ مع بداية القرن العشرين بعدا جيوسياسيا.
فالمواجهة مع الشيوعية غداة الحرب المسماة "العالمية الثانية" جعلت من "الغرب" تكتلاً إستراتيجيا متينا بقيادة أميركا، وبهذا برز الصراع -في وجهه الديني- داخل الحضارة المسيحية بين شقيها الغربي (الكاثوليكي-البروتستانتي) والشرقي (الأرثوذكسي).
وهكذا نجد أن "الغرب" يتنوع بتنوع المراكز داخله، "فالغرب" على عهد الإمبراطورية الفرنسية (نابليون) ليس هو الغرب على عهد الإمبراطورية البريطانية، وليس هو نفسه اليوم على عهد الاتحاد الأوروبي والإمبراطورية العولمية الأميركية التي وسعت من مفهوم "الغرب" ليصبح مرادفا لما يسمى اليوم "بالمجتمع الدولي" و"دول التحالف".
مفهوم "الغرب" أخذ صفة إرادة الهيمنة بتشكيل مجموعة السبعة الكبار الذين يتحكمون باقتصاد العالم ومصيره: الولايات المتحدة واليابان وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وكندا، فأضيفت اليابان إلى الغرب, واليابان تقع في أقصى الشرق، ما يعني أن البعد الجغرافي هنا تلاشى وفقد سحره الجيوسياسي وتزعزع مع استخدام الاقتصاديين والمختصين في التنمية لمصطلح "الشمال" بدل "الغرب" لولوج اليابان ودول جنوب شرق آسيا عالم التكنولوجيا المتقدمة.
وبهذا حل محور "شمال-جنوب" الاقتصادي محل "شرق-غرب" الجيوسياسي والأيدولوجي. ومن هنا أدى العامل الاقتصادي إلى تغير مفهومي، بحيث شكل الثراء ومستوى التقدم الصناعي والتقني المعيار الأساس في المفهوم، ما ساهم في تغييب مفهوم "الغرب" لصالح مفهوم الشمال المتعدد الثقافات بعيدًا عن المركزية الغربية واعتقادها بالتفوق الطبيعي للغرب.
الغرب الأيدولوجي
”
تم إنعاش مفهوم "الغرب" الأيدولوجي بوضعه ضمن ثنائية "الغرب والإسلام"، وتم تضخيم بعبع الأصولية الإسلامية وكثر المختصون بها لتصل إلى الحديث عن صدام الحضارات، وهي الفكرة التي انتعشت مؤخرا
”
البعد الأيدولوجي لمفهوم "الغرب" لم يختفِ تمامًا، فقد عمل الغرب اليتيم بعد انهيار المعسكر الشرقي 1989 على اصطناع عدو أيدولوجي جديد خلفًا للشيوعية تمثّل في الإسلام، ومن ثم تم إنعاش مفهوم "الغرب" الأيدولوجي بوضعه ضمن ثنائية "الغرب والإسلام"، وتم تضخيم بعبع الأصولية الإسلامية وكثر المختصون بها لتصل إلى الحديث عن صدام الحضارات، التي هي تقسيم بحسب الدين، وهي الفكرة التي انتعشت بعد أحداث سبتمبر/أيلول.
إن مصطلحات الإسلام والغرب تعرضت لأدلجة مهووسة ومبالغ فيها، ويجب الكف عن وهم اعتبار الإسلام قطبًا جغرافيا سياسيا مهددا للغرب. ومن الغريب حقا أن السياسات الأميركية مثلاً لا تتحدث عن عالم عربي أو إسلامي في علاقاتها الخارجية الفعلية، في حين يتم الحديث عن علاقات بين "الإسلام والغرب" وعن "عالم إسلامي" في كتابات المفكرين والسياسيين لإضفاء صور نمطية يتم تغذيتها لدعم ذلك التصور الغربي الذي ساد بعد سقوط الشيوعية الذي يجعل من الإسلام والغرب قطبين متعارضين ومتناقضين.
الغرب.. نهاية المفهوم
"الغرب" بالمعنى الأيدولوجي البسيط يعني منظومة قيم ترتبط بالنمط الديمقراطي الليبرالي والاقتصاد الحر، لكن هذا المعنى لم يعد متماسكا تماما، فقد تراجع المدلول الإستراتيجي "للغرب"، يدل عليه تعبير "نهاية الغرب" الذي ظهر خصوصا بعد 11 سبتمبر/أيلول.
بل إن التساؤل حول مفهوم "الغرب" نفسه: هل لا يزال متماسكا وموحدا؟ طرحه فرانسيس فوكوياما الذي قال متعجبا "ماذا يحصل هنا؟ المفترض أن (نهاية التاريخ) عنت انتصار القيم والمؤسسات الغربية، وليس فقط الأميركية، ما يجعل الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الخيارين الحقيقيين الوحيدين". وكذلك توماس فريدمان طرح التساؤل نفسه إثر الخلاف الذي ظهر حول الحرب على العراق.
وقال رئيس الوزراء السويدي السابق كارل بيلدت مخاطبًا فريدمان إن الأميركيين والأوروبيين كان لهم -ولجيل كامل- تاريخ واحد هو 1945. وقد نشأ تحالف عبر أطلسي بعد الحرب العالمية الثانية، على أساس الالتزام المشترك بالحكم الديمقراطي والأسواق الحرة وضرورة ردع الاتحاد السوفياتي.
وكانت أميركا تنظر إلى القوة الأوروبية باعتبارها امتدادا لقوتها هي، والعكس صحيح أيضا. أما الآن فنحن تحركنا تواريخ مختلفة، فاللحظة الحاسمة في التاريخ بالنسبة لنا هي 1989، أما بالنسبة لكم فهي 2001".
التضامن الأوروبي مع أميركا بعد أحداث سبتمبر/أيلول وفي حربها على أفغانستان سمح بظهور "غرب" موحد وجدانيًّا، ومتعاطفٍ إلى حد كبير، حتى ظهر تعبير "كلنا أميركيون" معبرًا عن ذلك.
لكن مفهوم "الغرب" بمعناه الإستراتيجي وُضع موضع التساؤل بعد تزعزع هذا التضامن، خصوصًا مع خطاب بوش (حال الاتحاد) في يناير/كانون الثاني 2002، والذي ظهر فيه "محور الشر" وصولاً إلى الحرب على العراق. فالانتقاد والافتراق عن التوجهات الأميركية لم يقتصر على المثقفين والمفكرين وإنما شمل السياسيين أيضًا في العالم "الغربي".
أميركا وأوروبا.. العالم برؤيتين
ليس من الدقيق اختزال المسألة بنزاع على القيادة، أو تململ أوروبا من الهيمنة الأميركية وإن كانت توحي بهذا بعض السياسات والكتابات، لكن الأهم هو الافتراق في رؤية العالم، والافتراق في القيم، وما ينتج عن ذلك من مؤثرات في العلاقة مع العالم والمسلمين.
فانسحاب إدارة بوش من اتفاق كيوتو لمواجهة ارتفاع حرارة الأرض، ومعارضة حظر الألغام الأرضية، ومعاملة الأسرى في غوانتانامو وغيره، ومعارضة قيام المحكمة الجنائية الدولية، والخروج على القانون الدولي، واستثناء الجنود الأميركيين من المحاكمة وغيرها.. كلها مسائل أبعد من مجرد كونها مسائل سياسية أو نزاعًا على القيادة، لأنها تحمل جانبًا من رؤية العالم والقيم التي تحكمه وتحكم السلوك تجاهه.
الانشقاق في مفهوم الغرب يضم مسألة في غاية الأهمية أيضًا وهي مصدر "الشرعية" الديمقراطية، فلفترة عقود خلت كان من المعترف به أن اللاعب الرئيسي في الشؤون العالمية هو الدولة-الأمة، تساندها منظمات دولية وبعض التحالفات شبه الدائمة. لكن في السنوات القليلة الماضية دشن الاتحاد الأوروبي عملية تفكيك الدولة-الأمة ونزع الطابع القومي عن سياسات بلدانه.
من هنا كان سعي أوروبا إلى نظام أمني عالمي جديد تحرسه أمم متحدة، وتسوسه محاكم عدل دولية في القانون، وحكومة عالمية في السياسة، بينما يميل الأميركيون إلى إغفال أي مصدر للشرعية الديمقراطية عدا الدولة-الأمة الديمقراطية الدستورية، ويعتبرون أن شرعية أي منظمة دولية تقوم على منحها إياها من جانب غالبيات ديمقراطية من خلال عملية تفاوضية تعاقدية.
ثم أليس اختراع تعبير "القيم الأميركية" ذا دلالة مهمة هنا؟ كما أن هنالك فرقًا رئيسيًّا بين أميركا وأوروبا لاحظه إدوارد سعيد، وهو أن الأيدولوجيا والدين يشغلان دورًا في أميركا أقوى بكثير.
”
فروق كثيرة تكتنف مفهوم "الغرب" من السياسي إلى الثقافي والأيدولوجي والاجتماعي، وهذه الفروق ليست عابرة تعكس أساليب إدارة بوش بعد 11 سبتمبر/أيلول، ولم تكن مجرد عاصفة عابرة حول العراق
”
فقد كشف استطلاع للرأي أن 86% من الأميركيين يعتقدون بأن الله يحبهم، فضلاً عن وجود العدد الهائل من المتعصبين المسيحيين في أميركا الذي يشكلون الدعامة الرئيسية لجورج بوش والذين لا يقل عددهم عن 60 مليونا. وبينما تشهد إنجلترا تراجعا حادا في حضور الكنائس نجد أن حضورها وصل إلى نسب لا سابق لها في أميركا.
ثم لنتأمل إغفال الإشارة إلى المسيحية في الدستور الأوروبي مقابل دفاع بوش المستميت عن اعتماد قسم الولاء يوميا في المدارس، بعد أن كانت محكمة في كاليفورنيا اعتبرته مناقضا للدستور لتضمنه إشارة إلى الله سبحانه، معتبرة ذلك تشكيكا في البعد الروحي لأميركا!
وعلى الصعيد الثقافي تبدو الثقافة الأوروبية بالنسبة للثقافة الأميركية محافظة، ما ينعكس على السلوك والتصرفات، حيث تتلاحم التقاليد القديمة مع الجديدة في أوروبا، بحسب تشخيص مارك ليلا.
بل أكثر من ذلك، يحيل أندرو مورافتشيك تفسير الخلاف حول المحكمة الجنائية الدولية وحقوق الإنسان بين أميركا وأوروبا إلى "مشكلة بين الرمزية والفهم تعود إلى الهوة المتسعة بين الهويات الأميركية والأوروبية"، وأن "جزءًا من ذلك يعود إلى الأيدولوجيا، فأميركا تميل إلى التحررية، أي اعتبار مسألة حقوق الإنسان كمسألة الحقوق الفردية. وفي المقابل فإن الأوروبيين بطبعهم يميلون إلى المساواة ويرون حقوق الإنسان في إطار "المساواة الاجتماعية".
ويخلص مورافتشيك إلى القول "إن مؤسسات حقوق الإنسان تبدو أقرب من صميم الهوية الأوروبية الدولية، أما مبدأ العمل العسكري المنفرد ضد من تحسبهم أعداء فيبدو أقرب إلى الفهم الأميركي".
فروق كثيرة تكتنف مفهوم "الغرب"، من السياسي إلى الثقافي والأيدولوجي والاجتماعي، وهذه الفروق ليست عابرة تعكس أساليب إدارة بوش بعد 11 سبتمبر/أيلول، ولم تكن مجرد عاصفة عابرة حول العراق.
إنه بالاتكاء على هذه الفروق جميعها يغدو الحديث عن ثنائية الإسلام والغرب الحاضرة بقوة، محل تبسيط مخلّ، ولأسباب سياسية أكثر منها واقعية ومعقولة.