/
الإصلاحية الأميركية.. إلى أين؟
معتز الخطيب
يبدو تعبير "الإصلاحية الأميركية" مثيرا، إذ يشير إلى ما عرف في التاريخ الحديث بـ"الإصلاحية الإسلامية" التي قامت على يد محمد عبده ومدرسته في ظل الاستعمار الأوروبي، لكن التعبير يكتسب مشروعيته (التداولية فقط) من هجمات المشاريع الأميركية على الشرق الأوسط والعالم الإسلامي التي حملت عنوان "الإصلاح" من جديد فأحيته -كمصطلح- بعد أن استنفد وهجه تاريخيا، ومن ثم فهو ليس وصفا قيميا.
الإصلاحية الإسلامية والأميركية الإثارة تكمن في استعارة التسمية نفسها عنوانا على محاولتين بارزتين لهما ظروف تاريخية متشابهة ومتفارقة أيضا. فمن التشابه أنهما تأتيان في ظل "استعمار" (أوروبي ثم أميركي) وإثر صدمة، بالنسبة للإصلاحية الإسلامية كانت صدمةَ الإحساس بالتخلف وأزمة الفكر الإسلامي وردم الفجوة بين العالم الإسلامي والغرب، فانطلقت بحثًا عن أسباب التقدم والتخلف. وتناولت الديني والسياسي والتعليم الديني والمؤسسات الدينية التقليدية. وبالنسبة للإصلاحية الأميركية فتأتي أيضا "لردم الفجوة" نفسها، وإرساء دعائم الحرية و"القيم العالمية" وإحداث التغيير المطلوب للعيش في العالم الحديث كما تفيد "تصريحات" بوش وباول وهاس وولفويتز. أما الصدمة فكانت في مطاولة "إرهاب القاعدة" للقوة العظمى وعولمته، ومن ثم الشعور بوطأة أزمة الخطابين السياسي والديني في تجلياتهما الدوغمائية لدى أميركا والقاعدة. ”جاءت الإصلاحية الإسلامية لردم الفجوة مع الغرب من خلال معالجة أسباب التخلف, لكن الإصلاحية الأميركية وإن جاءت لردم الفجوة أيضا فإنها تريد إحداث التغيير في العالم الإسلامي وفق القيم الأميركية” ومن أوجه الافتراق -وهو الأهم- أن تحول الإصلاح من مطلب داخلي "إسلامي" يمتلك مشروعيته التاريخية والدينية من داخله إلى محاولة فرض خارجي "أميركي" بحجة أن الإسلام أصبح مشكلة عالمية، ما يبرر –حسب الرؤية الأميركية- أن يسهم في تحديد مصائره المتضرر الأكبر من مأساة سبتمبر/ أيلول، وبهذا اتسع الصراع عليه تفسيرا وتوظيفا. وتتكثف المفارقة في بعدها الديني الإسلامي في لحظة تحول تاريخي فريدة تحول على أساسها مطلب "الإصلاح الديني" (أو التجديد) إلى إرغام أيديولوجي على يد الاستعمار الجديد، يشكل "الإرهاب" وحسابات "الأمن القومي الأميركي" زاوية مقاربته ومصدر مشروعيته، في حين كانت مناهضة الاستعمار في القلب من انشغالات إصلاحية عبده والأفغاني وخصوصا من خلال مجلة "العروة الوثقى". حرب الأفكار دينيا التشخيص الأميركي لمنشأ الإرهاب وأن أسبابه "ثقافية" –بالمعنى الأنثروبولوجي- جعل من الدين الإسلامي قضية مركزية في مشروعها للإصلاح، بغية ردم تلك الفجوة بين الغرب والشرق الإسلامي. ومن ثم أطلق على الحرب "حرب الأفكار" أو "حرب المبادئ" بتعبير رمسفيلد وتشيني وولفويتز وبيرل وفروم، ومن هنا تبدو الإدارة الأميركية معنية بالموضوع الأيديولوجي تغييرا لمناهج تعليم, أو حضا على تأويل أشد عصرية للدين في البلدان الإسلامية, أو نشرا وتعميما لمنتوج أميركا الثقافي "العالمي". هذا التوجه نحو الدين وإعادة تأويله وجه آخر للتشابه بين الإصلاحيتين لبيان حجم المفارقة التاريخية فقط. فالإصلاح الديني في المنظور الأميركي تلخص في "تحديث الإسلام" لحل إشكالية "الإسلاموفوبيا" والإرهاب الإسلامي، وتحقيق الإصلاح السياسي وفق معادلة جديدة تخرج عن دعم الأنظمة الاستبدادية مقابل "الاستقرار" وتأمين المصالح، لأن هذه الأنظمة لم تعد قادرة على منح هذا "الاستقرار". وهنا تتم قراءة تحولات المشهد السياسي، والانتخابات الديمقراطية التي أدت إلى صعود أحزاب إسلامية "معتدلة" في عدد من دول الشرق الأوسط (أبرزها تركيا, والمغرب والبحرين, والاحتفاء بإصلاحيي إيران) التي ورد الثناء عليها وعلى ديمقراطياتها في خطابات بوش وباول وهاس. فالإصلاحية الأميركية تسعى لإنشاء "إسلام ليبرالي" (الأوساط السلفية والجهادية استعادت تعبير سيد قطب "الإسلام الأميركي" لوصف هذا الإسلام) يتم فيه فصل الدين عن الدولة, ويتقبل الديمقراطية, وحقوق النساء والأقليات, وحرية التّفكير والتّقدم، وقبول الآخر (خصوصا الإسرائيلي الحاضر في كل الخطابات الأميركية)، ونبذ العنف (الجهاد والمقاومة) حسب خطابات بوش وباول وهاس وولفويتز.
وهنا تتقاطع "الأميركية" مع انشقاقات "الإسلامية" التي خرج من عباءتها تحديثيون أمثال قاسم أمين وعلي عبد الرازق، بمحاولات "لَبرلة" إسلامية، ومحاولة إحياء هذا التوجه والبحث عن شركاء، وقد قالها صراحة ولفويتز "علينا أن نعمل ما باستطاعتنا لتشجيع أصوات المسلمين المعتدلين"، وأنه "طلب الحصول على بعض المعلومات حول المفكرين الإسلاميين الليبراليين البارزين" الذي يطالبون –ضمن ما يطالبون- "بتفسير ليبرالي حديث للقرآن"، لأن على هؤلاء يقع دور أساس في "ردم الفجوة الخطيرة".
آليات الإصلاحية الأميركية ”اعتمدت الإصلاحية الأميركية آليات عدة، كإعادة التأويل وتشجيع التفسير الليبرالي للقرآن، وتغيير المناهج التعليمية في الدول الإسلامية، وتجديد الفتوى بإملاء الرؤية الأميركية على "المفتي" أو تحييده” اعتمدت الإصلاحية الأميركية آليات عدة، كإعادة التأويل وتشجيع التفسير الليبرالي للقرآن، ومن ضمنه "توظيف" الآيات والأحاديث التي تحث على السلام واستبعاد ما يحض على الكراهية والعنف ضمن محاولات "تغيير المناهج"، وتجديد الفتوى بإملاء الرؤية الأميركية على "المفتي" أو تحييده. إصلاح الفتوى وتجديد دور المفتي ظهر جليا في علاقة أميركا بمؤسسة الأزهر وفتاوى شيخه بدءا من الحرب على العراق وحتى الآن، فقد طرد رئيسين من لجنة الفتوى أفتيا بالجهاد ضد الغزو الأميركي للعراق، وتراجع عن وصف الحرب الأميركية بـ"الصليبية" استجابة للخارجية الأميركية التي احتجت في تقرير لها أعده ريتشارد سكوتي، وأكد -بعد صدور فتوى من لجنة الفتوى بالأزهر تنص على عدم شرعية مجلس الحكم الانتقالي– على أن الفتوى لا تعبر عن الأزهر الذي لا يتدخل في السياسة، وأقال رئيس لجنة الفتوى وأحاله إلى التحقيق، بعد لقاء السفير الأميركي بالقاهرة. وبالتأكيد لسنا هنا في مناقشة تلك الفتاوى، وبناء موقف تجاهها، ولكننا بصدد الحديث عن أن الإصلاح الأميركي تحت مسمى "الحرب على الإرهاب" أدخل تعديلات على الفتوى "الرسمية" وحدود دور المفتي، فطنطاوي أكد مرارا أن فتوى الأزهر "مقصورة على حدود مصر" وأنه "ليس من حق لجنة الفتوى الإفتاء بأمور سياسية أو شؤون دول أخرى". هذا يجعلنا نؤكد على فكرتين: الأولى: ممارسة تعديل –بفرض أميركي أو نتيجة له– على دور الفتوى ومفهومها في مستواها البنيوي. وهنا عبثت السياسة بها، وبدلت طبيعتها كليا من "توقيع عن رب العالمين" –بتعبير الإمام ابن القيم- إلى "تصريح" وتوقيع عن السياسي يتم التراجع عنه وفق مؤشرات السياسة ووفق نظر ومصالح السياسي المتبدلة ظرفيا، سواء السياسي الداخلي (ترحيب الأزهر بمعاهدة السلام مع إسرائيل سنة 1979م وتحليله فوائد البنوك، واستقباله للسفير الإسرائيلي سنة 1997م وغيرها) أم الخارجي أو كلاهما، لأن منطق فعل السياسي مختلف كليا عن منطق الفعل الديني (عمل الفقيه والمفتي). الثانية: إن تسييس الأزهر وفتواه داخليا وخارجيا أعادت رسم "حدود" الفتوى ودور المفتي والأزهر ضمن إطار قطري محدود بحدود الدولة ونفوذها وسيادتها الإقليمية في إطار علاقات القانون الدولي، وهنا تحركت مرجعية الفتوى من نصية/اجتهادية إلى قانونية وضعية محكومة بحدود السيادة، ونطاق الشرعية فيها ليس دينيا وإنما هو سياسي قانوني. هذا كله يعني تصفية البعد الديني في جوهره الكلي وتخليصه للسياسة. وفي ما يخص المناهج وتغييرها –أو "تطويرها" كما يحلو لبعض المسؤولين التعبير لنفي لوثة الاستجابة للضغوط الخارجية- فإنها تتجلى على وجه الخصوص في التعليم الديني (الإسلامي طبعا) وتتمحور حول التشخيص الأميركي في علاقة المناهج بتفريخ الإرهاب، وهي الرؤية التي استجاب لها العديد من الأنظمة حين تم النظر في المناهج من زاوية واحدة فقط وهي علاقتها بالإرهاب، وهو ما نظرت فيه القمة الخليجية الـ24 سنة 2003م، وهو ما شكلت له اللجان لمراقبته وتنقية المناهج منه، ليكتشف بعضها قائلا "لم نعثر على أي نص يدعو إلى التطرف الديني أو إلى العنف أو يشجع فكر الإرهاب" حسب وكيل وزارة التربية الكويتي. لذا فمن الطبيعي أن يقف سؤال تغيير المناهج أو تطويرها عند حدود زاوية النظر، وهي -حسب ما يجري- قاصرة على "الحذف" أو "التوظيف" السلمي للآيات والأحاديث الذي تم التصريح به في "وثيقة السلام" الأردنية وعلى لسان وزير التربية الكويتي، أو "غرس مفاهيم جديدة" في إطار "حرب الأفكار" المعلنة. إن ردم الفجوة بين العالم الإسلامي والغرب الذي يشكل عنوان الإصلاحية الأميركية يدفع إليه أهداف اقتصادية وسياسية وأمنية وثقافية ودينية، فنحن أمام إصلاحية تريد أن تنتصر في "حرب الأفكار" لتصوغ هوية الأمة بأبعادها المتعددة وفق مصالح وأمن أميركا، وتتم فيها معالجة الخلافات السياسية والأخلاقية من منظور إعادة التشكيل الثقافي لاستنبات القناعة المطلوبة والقيم الموائمة "على صورتها"، ما يعني أن الإصلاح تحول إلى إرغام أيديولوجي، وهذا الأخير هو وسيلة لتحقيق المصالح وحل الإشكالات السياسية وغيرها. ”الإصلاحية الأميركية تريد أن تنتصر في "حرب الأفكار" لتصوغ هوية الأمة بأبعادها المتعددة وفق مصالح وأمن أميركا، وتتم فيها معالجة الخلافات السياسية والأخلاقية من منظور إعادة التشكيل الثقافي” إن اللجوء إلى مقاربة المشاكل السياسية وحلها من منظور ثقافي وديني بالإكراه يشكل –في أحد أوجهه- ستارا للعجز عن الحل السياسي العادل أمام صلابة ثوابت كل طرف من أطراف النزاع، فيفرض الأقوى "أفكاره/مطالبه" من الداخل، ليأمن من المقاومة، أو عنف رد الأفعال الذي ينفجر –عادة- في ظل الاضطهاد والظلم والعجز عن الوصول إلى الحق بالطرق السلمية. والمفارقة أن كل هذا يقوم تحت مسمى "الحرب على الإرهاب"، مع أن استيلاء المؤسسة السياسية على الدين -ممثلاٌ بالمؤسسة الدينية الرسمية– والتدخلات الخارجية من الأسباب المهمة لنشأة العنف.
مصير الإصلاحية الأميركية شهد التاريخ مثل هذه الإملاءات الثقافية والسياسية للاستعمار مهما اختلفت أشكالها، غير أن الفارق مع الجديد منها، هو أن هذه المؤسسات -تربوية وسياسية- التي يراد إعادة تأهيلها غيرها في مرحلة الاستعمار القديم قبل التشكل أو في بداياته، فضلا عن بروز البعد الديني والقومي العقائدي لدى الإدارة الأميركية؛ ما يعني أن ما يتم، مهما تعددت أوصافه -هيمنة أو استعمارا أو تحريرا أيضا– يأتي في سياق تناحري، ليس مع عالمنا فقط، بل مع العالم كله. هذه العوامل كلها تجعلها لا تنفك عن صفة "العدو" أو "الخارج" فضلا عن حضور العدو الإسرائيلي في قلب الصراع، وستبقى كذلك وإن حققت مكاسب هنا أو هناك ما دامت القوى الداخلية الحداثية المفارقة لمجتمعاتنا وقيمها، والمتداخلة مع المشروع الأميركي غائبة أو غير وازنة. وفي ما يخص لبرلة الإسلام أو علمنته فإن هذه التوجهات تجافي طبيعة الإسلام ومنطقه الداخلي، وإن بدت بصور جزئية هنا أو هناك، بل إن أرنست غيلنر يرى "إن في الإسلام إيمانا دينيا من ذلك النوع الذي ساد خلال الحقبة ما قبل الصناعية، أي الدين المؤسس العقيدي بالمعنى الحقيقي للكلمة، والقادر على تحدي أطروحة العلمنة بشكل كلي ومؤثر في الوقت الراهن على الأقل"، وأن صدمة الغرب تحرض ردة الفعل، "والحاجة الملحة للإصلاح الحاضرة دوما وأبدا في الإسلام تتلبس شكلا جديدا من النشاط والقوة والكثافة".
|
19-05-2005 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=400
|