لا تختلف نزعات أهل الأديان عموماً في مقاربة علاقاتهم بغيرهم عن طابع العلاقات التي يفرضها السياسي والثقافي في السياق الحضاري الذي تعيش المجموعة لحظته، فعندما يعلو صوت شعار معين يفرض نفسه كالحوار تجد المجموعة الثقافية بما فيها آهل الأديان يستخدمون هذا الشعار في أدبيات خطابهم حتى يكاد يتمزق ويصبح فارغ المعنى من كثرة المتاجرة به رغم كونه بالأمس بالنسبة للبعض ليس إلا غطاء لمؤامرة على الأديان.
بعد صعود أطروحات صدام الحضارات وسقوطها وما أعقب ذلك من حراك فكري وسياسي عالمي طفا على السطح حوار الأديان الذي كان موجوداً على المستوى الأكاديمي والمؤسسي على نطاق ضيق، كما كانت هناك دراسات أكاديمية متعددة اختصت بالمقارنة بين الطرح الإسلامي للعقائد والأخلاق والشرائع وطرحها في التوراة والإنجيل والأديان بشكل عام، وتناولت بالأخص قضايا التوحيد والأخلاق وكانت الوصايا العشر أبرز ما تمت المقارنة به، لكن هذه المقارنة إن آلت إلى الاشتراك الجملي بين الكتب والأديان بما هي عليه فإنها لا تستطيع إخفاء التباين الجوهري بينها وبالأخص فيما يتعلق بقضيتي التوحيد والنبوات، وبهما يتم تميز الأديان عن بعضها، لذلك اقتصرت المقارنات على محاور تتعلق بعناصر مشتركة بين الأديان كتصور الله مشخصاً وفاعلاً ومصدراً للوحي، والإيمان بالملائكة، والوظيفة الدينية للأنبياء، وركز البعض على بعض الشعائر المشتركة في أديان الكون كالصوم والأضحية (علي عبد الواحد وافي)، وبحث آخرون (إسماعيل الفاروقي) عن جذور تجمع ما أسماه الدين السامي والتي تمثلت لديه في أربعة : 1- وجود الله وثنائية الخالق والمخلوق/ المطلق والنسبي. 2- اتصال الخالق بعباده عن طريق الوحي. 3-قدرة المخلوق على تحقيق قصد الخالق بما منحه الله من قدرة. 4- تمتع المخلوقات الكونية بالطاقة المطلوبة لإنجاز قصد الخالق.، وأن هذه المحاور هي نواة التدين السامي والأسس التي توحدت عليها اليهودية والمسيحية والإسلام.
وركز البعض الآخر على محاور أخلاقية تشترك فيها نصوص الأديان مثل: كون السلام ممدوحاً والحرب مذمومة وأن أفعال الخير والإحسان مفضلة وممدوحة وزجر السرقة والكذب والجشع..، وأن الاختلاف بين الأديان في هذه القضايا إنما يتعلق في التعبير عنها في كل حالة (جوزيف كاير)، وفي إطار من التركيز على القضايا الأخلاقية نشأ تيار يدعو إلى التقارب بين الأديان بناء على هذا البعد ويدعو إلى نبذ الاختلاف بينها (هانس كونغ)، كما وجدت مقاربات أخرى تركز على البعد الباطني الصوفي أو الروحي بين الأديان (فرتجوف شيئون)، بينما اتجه تيار آخر إلى التركيز على ما يواجه الأديان من تحديات المعاصرة والتكيف مع الثقافة (التكنولوجية) واعتبر أن هذه التحديات ستقرب بين الأديان وتساعدها في الحوار فيما بينها، وفي إطار تمايز الثقافات ستكمل الأديان بعضها بعضاً، وستؤول في المستقبل إلى دين عالمي واحد لاسيما وأن هناك من يعمل من أجله، وأن حركة توحيد الأديان هذه ينبغي أن تسير ببطء وأن يرافقها تقارب ثقافي، هذه الحركة التي قد بدأت بالفعل وراءها ضغوط علمانية لدفعها لمزيد من التقدم، ويرى بعض دعاتها أن الإسلام سيعمل على مد الدين الواحد دين المستقبل بهيكله الأساسي(منتغمري وات، فيلسيان شالي).
لم تكن هذه الدعوات مجرد مقاربات نظرية وفردية بل نشأت في الغرب مؤسسات لرعاية هذه الأفكار والترويج لها من أجل التقارب بين الأديان وإحياء المشترك بينها، من ذلك مؤسسة (أطفال إبراهيم) في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد عقدت عدة ملتقيات، وقامت العديد من الأنشطة فيها وفي جامعات (كمبريدج) في لندن و(كيب تاون) في جنوب افريقيا وفي ماليزيا، وذلك لمناقشة إمكانية إزالة الاختلافات بين الأديان الثلاثة حول شخصية إبراهيم )عليه السلام) كما وردت في التوراة والقرآن، وقد توجت هذه الجهود بكتاب صدر في أمريكا بعنوان : (إبراهيم: رحلة إلى جوهر معتقدات ثلاثة) للكاتب المختص في الأديان المقارنة: بروس فيلر / Bruce Feiler ، ينطلق فيه من فكرة التوحيد التي ترتبط بإبراهيم (عليه السلام) والتي يرى أنه أول من دعا إلى ترك عبادة الأصنام، ويركز على تجلي التوحيد من خلال أبوة إبراهيم للأنبياء، ويدعو إلى إعادة النظر في تأويل النصوص حول إبراهيم بما يزيل الخلاف بين الأديان حوله منوهاً بمكانة إبراهيم في الإسلام، كما يدعو أتباع الأديان لمعاودة الحوار لتصحيح المفاهيم المغلوطة عن كل ديانة، آملاً من ذلك تجاوز محنة البشرية الحالية بعد الحادي عشر من سبتمبر.
كما تجدر الإشارة إلى استحضار شخصية إبراهيم (عليه السلام) بشكل ملح في ملتقيات حوار الأديان وذلك لما له من مكانة لدى الأديان، أملاً في تقريب وجهات النظر بينها، وقد عقدت حوله مؤتمرات وندوات دولية عديدة منها: الندوة الإبراهيمية في قرطبة 1987، التراث الإبراهيمي والحوار الإسلامي المسيحي في بيروت1998، لكن التساؤل الذي يطرحه البعض حول هذه الجهود: هل الإبراهيمية بما هي إرث تاريخي مشترك ولها دور إنشائي للأديان السماوية تشكل إرثاً توحيدياً مشتركاً ؟ ففي الوقت الذي لم يختلف فيه موسى وعيسى –عليهما السلام-عن هذا الإرث الإبراهيمي التوحيدي افترق كثير ممن اتبعهما، وبالتالي فلا يمكن أن تكون الإبراهيمية أساساً للحوار بمعزل عن الاسترجاع القرآني لها (محمد أبو القاسم حاج حمد).
كل هذه المقاربات بدت لدى (هيرقه روسو – Herve Rousseau) نوعاً من التلفيق والتوفيق المتكلف واختصرها في عنصر واحد مشترك بين جميع الديانات وهو المفهوم القائل بوجود علاقة بين الإنسان وشيء يفوقه ويتخطى قواه العقلية والجسدية لذلك لا فائدة في نظره في البحث عن وحدة الديانات لا في الماضي ولا في المستقبل.
وحدة الديانات هذه التي رفضها روسو لعدم جدواها كان لها تفسير تآمري لدى البعض الآخر، وذلك بإرجاع فكرتها إلى بعد سياسي وتدبير عالمي تآمري على الأديان له صلة بمحاور أمريكية صهيونية بهائية تخطط لفكرة دولة عالمية (أحمد وليد سراج الدين)، بل لم يقتصر الأمر عند آخرين على رفض فكرة توحيد الأديان بل تعداها إلى رفض منهج مقارنة الأديان باعتباره يؤول إلى إزالة الفواصل بين الإسلام وغيره وهو ما يؤول إلى المساواة بين العقائد الفاسدة والصحيحة (بعض التيارات السلفية).
أياً يكن الموقف والدافع من مقارنة الأديان واكتشاف المشترك بينها والمختلف، فإن ما لا شك فيه أن التعارف بين الأديان والحوار بمختلف أصنافه سيساعد على توضيح الرؤى وتصحيح التصورات المغلوطة عن كل دين، وبطبيعة الحال سيكون في الحوار فرصة للاقتراب من الحق الذي يدعو الإسلام الجميع لمقاربته وإن لم يؤد الحوار إلى أي اتفاق، بل إن التجارب الحوارية التي يعرضها القرآن تؤكد أن الاتفاق ليس هو موضوع أو مطلب الحوار إنما إيصال كلٍ وجهة نظره للمختلف ودعوته لمحاكمتها ونقدها، واحتكام كل إلى عقله وضميره وبصيرته وعلاقته مع الله الذي يعلم ما في الصدور ويرجع إليه الفصل بين المختلفين وذلك في يوم الدين.
والأهم - فيما أرى – هو التركيز على الجانب العملي للعلاقة بين الأديان، فالجانب النظري الذي أشرنا إليه غير ذي جدوى إذا كانت العلاقة على أرض الواقع يغيب فيها التعايش والتسامح، عند ذلك لن يكون للحوار النظري من جدوى ولو أدى إلى الاتفاق، ولو أن الخلاف النظري كان عميقاً وكانت العلاقة بين أهل الأديان عملياً تتسم بالسلم والتسامح فلن يكون للخلاف النظري أي أثر سلبي.