/

 

 

انطلاقاً من استقبال البابا رئيس إسرائيل... أسئلة عن ديباجة الرسالة الحبرية

احميدة النيفر

في رسالة المجلس البابوي للحوار بين الأديان إلى المسلمين بمناسبة عيد الفطر لهذا العام أكّد الأسقف مايكل فيتزجيرالد بعد التهاني إلى «الأخوة والأخوات المسلمين» - مواصلة العمل بتعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني في خصوص الحوار معهم.

أبرز ما حملته هذه الرسالة التي غدت تقليداً سنوياً أن البابا الجديد لا يعتزم إحداث أي تغيير بالنسبة إلى ما أرساه سلفه مع ممثلي الأديان الأخرى وأنه يعرب عن «رضاه لتقدّم الحوار بين المسلمين والمسيحيين». لا شك في أن هذا القول يطمئن جانب المسلمين ويشجّع الحريصين منهم على مواصلة العمل من أجل المزيد من تمتين العلاقات الروحية والفكرية. غير أن المسيرة الحبرية تواجه موضوعياً سياقاً مغايراً وتحديات لا تشبه ما كان عرفه الكرسي الرسولي في ربع القرن المنصرم. لا حيلة لأحد في هذا التغيير الواقعي المحلّي والعالمي. لذلك فإن البابا الجديد مُلزَم أن يرقم خطوط رسالة تميّزه بقدر من الأقدار عن سلفه.

بدأ في رسم ديباجة هذه الرسالة حين اختار أن يكون لقبه الحبري بينيديكتوس السادس عشر ولم يختر مثلاً يوحنا بولس الثالث. مثل هذه الجزئية تفيد أن البابا الخامس والستين بعد المئتين قد يواصل ما أقرّه من سبقه لكن بتفاعل مع ما استجدّ من حراك موضوعي عبر أولويات تتحدّد تدريجاً ضمن اختيارات لمواجهة معضلات الواقع الداخلي والخارجي.

هذا ما تبدّى في بداية حبرية البابا الجديد مثيراً بعض الأسئلة نطرح أهمها في ما يأتي: لم تنقض ستة أشهر على انتخاب الكاردينال يوسف راتزينجار لمنصب الحبر الأعظم القائم على الكرسي الرسولي حتى بدت خطوط رسالته تتضح من طريق جملة إشارات فيها ما يثير الحيرة.

ما ظهر في هذه السداسي الأول للبابا بينيديكتوس السادس عشر تجاه المسلمين يثير أكثر من سؤال. ذلك أن ثلاثة من مواقفه على الأقل بدت كأنها تعبّر عن موقف من المسلمين ينحصر بين حدّي الإهمال والتوجّس.

1 - في عِظته التي ألقاها ضمن أول قدّاس أشرف عليه – أواخر نيسان (أبريل) 2005- لم يذكر المسلمين بكلمة، بينما خصّ «الأخوة الأعزاء من الشعب اليهودي الذين يربطنا بهم تراث روحي مشترك تعود جذوره العريقة إلى الوعود الربانية الصادقة»، خصّ هؤلاء بعبارات المودّة والسلام مكتفياً بعد ذلك بعبارة عامة شملت كل الناس، «مؤمنين وغير مؤمنين».

2 - ما حصل في مدينة «كولونيا» الألمانية آخر شهر آب (اغسطس) الماضي أثناء تظاهرة «الأيام العالمية للشباب» أبرز تخوّفَ البابا مما يمكن أن يصدر من المسلمين بعد أن بيّن مرة أخرى حرصه على دعم الرابطة الروحية اليهودية المسيحية. تحقق هذا بحضور غير مسبوق في البَيعة اليهودية للمدينة الألمانية بمشاركة جمهور كبير إلى جانب بعض من عانى جراء المحرقة النازية. في الجهة الأخرى كان لقاؤه بممثلين عن الجالية المسلمة في أسقفية المدينة فرصة عبّر فيها عن بالغ انشغاله من تفشي الإرهاب الذي يطيح أقدس المقدسات: الحياة الإنسانية. أكّد في هذا اللقاء ضرورة نزع المسلمين «ما في قلوبهم من حقد ومواجهة كل مظاهر التعصب وما يمكن أن يصدر عنهم من عنف».

لا شك في أن مخاوف البابا من الإرهاب مشروعة، غير أن النبرة التوبيخية التي اعتمدها في لقائه مع المسلمين كانت ذات وقع سيئ لما أوحت به من تعميم يحصر منابت العنف في جهة واحدة ومن تصوّر تبسيطي للإرهاب.

لعل هذا ما نبّه إليه بصورة غير مباشرة رئيس الاتحاد التركي الإسلامي في ألمانيا أمام البابا عندما ذكّر بالتجربة التركية، «ذلك النموذج الناجح للتعايش السلمي بين الثقافات والأديان».

3 - ثالثة الأثافي تمثّلت في لقاء البابا أواخر آب بالصحافية الإيطالية أوريانا فالاتشي. هذه الكاتبة المقيمة في الولايات المتحدة التي عملت مراسلة حربية في الفيتنام وقّعت منذ خمس سنوات مقالات تتبرأ فيها من «استقالة الأوروبيين» أمام «الغزو العربي الإسلامي» للقارة الأوربية. إلى جانب مقالاتها النارية التي كانت نموذجاً لكتابة الثلب والبذاءة العنصريين، فإن كتابيها الأخيرين: «الغيظ والكبرياء» الصادر إثر أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 و «قوة العقل» بعد تفجيرات مدريد 2004 سجّلا رقم مبيعات مذهلاً في إيطاليا (أكثر من مليون نسخة للعنوان الأول). ما يعنينا في هذا الضرب من الكتابة عنصران أساسيان يجعلان اجتماع الصحافية بالحبر الأعظم هذا الصيف مثيراً للاستغراب.

- هي تعتبر حمقاً القول بــ «إسلام معتدل وآخر متطرف»، كما ترى أن التناقض بين المسيحية والإسلام جوهري.

- لا تتورع فالاتشي عن إدانة عزم الكنيسة الكاثوليكية على مواصلة الحوار مع المسلمين، ذلك أن الإسلام - في رأيها - مصدر «شر مطلق في جوهره وتاريخه وحاضره».

ما الذي يقرّب بين من يصرّح بهذه الآراء وبأشد العبارات تجريحاً وبين الرجل الذي شارك عن قرب في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني وساهم في بيان علاقات الكنيسة بالأديان غير المسيحية، ذلك البيان الذي ينصّ على أن «الكنيسة تنظر بعين الإكرام إلى المسلمين»...؟ إذا أضفنا إلى هذه المواقف الثلاثة مؤشراً رابعاً يتعلق برأي الكاردينال راتزينجار المناهض لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي جاز لنا القول إن تساؤل الطرف المسلم عن ديباجة الرسالة الحبرية له ما يسوّغه. أخيراً تأتي زيارة رئيس إسرائيل للفاتيكان، زيارة هي الأولى من نوعها سبقها اجتماع البابا أوائل شهر حزيران (يونيو) باللجنة اليهودية العالمية للتشاور في العلاقات بين الأديان ثم تلاها استقباله منتصف ايلول ربيّين كبيرين من إسرائيل. على رغم هذا، فإن مجرد الاقتصار على هذه المواقف المؤشرة لا يمكن أن يحدد الوجهة التي يمكن أن تنخرط فيها الكنيسة الكاثوليكية إزاء مشاغل العالم الإسلامي الكبرى وإزاء الحوار المسيحي - الإسلامي بخاصة.

إن طبيعة العلاقة التي يحرص الفاتيكان على إرسائها مع ممثلي الطائفة اليهودية في أوروبا وفي الدولة العبرية لها مسوّغات دينية وسياسية غير خافية، إضافة إلى أنها تمثّل اختياراً سبق إليه المجمع الفاتيكاني الثاني ثم جاء البابا الراحل فأكّده منذ زيارته القدس سنة 2000.

من ناحية ثانية يمكن أن يتنزّل اجتماع البابا بالصحفية فالاتشي ضمن سياق لمِّ الشمل الكاثوليكي، فقد تمّ في الفترة نفسها التي جمعته بوجهين كاثوليكيين بارزين يعلنان خلافهما مع الخط الرسمي للكنيسة: أولهما هانز كونج عالم اللاهوت السويسري وصاحب الطروحات التجديدية والنقدية المتصلة بالألوهية ويسوع والتثليث وعصمة البابا وهي الطروحات التي أدّت إلى إيقافه عن التعليم في كلية اللاهوت الكاثوليكية.

الأسقف برنار فيلاي كان الشخصية الثانية التي اجتمع بها البابا هذا الصيف في رغبة لرأب صدع الكنيسة مع الخط التقليدي الذي أعلن انشقاقاً عن قرارات يوحنا بولس الثاني سنة 1988 خصوصاً في وجهته المسكونية العاملة من أجل توحيد مختلف الكنائس. لكن هذه التعليلات على أهميتها لا تستطيع أن تحجب السؤال الأهمّ المتعلّق برؤية البابا الجديد للعالَم من حوله وللموقع الذي تحتّله الكنيسة في هذا العالم. إن مفتاح الإجابة عن أهم المسائل المتعلقة بالمسلمين (العنف – فلسطين - التجديد الإسلامي - انضمام تركيا...) وغير المسلمين من قبيل العلاقة مع الحركات البروتستانتية ومع التوسع التبشيري للإنجيليين، هذه المسائل وغيرها تظل متوقّفة على طبيعة رؤية الحبر الأعظم للهوية الكاثوليكية من جهة ولتراجع فاعليتها المتواصل في أوروبا؟ يمكن أن تتمّ معالجة هذه المعضلة المركّبة على أساس الاقتناع بأن الكاثوليكية هي مؤسسة أوروبية بالأساس في بنيتها وفكرها ومصيرها وأنها «مضطرة» أن تفكّر وتتصرف على اعتبار أنها ديانة أقلية ضمن مجتمعات تُعرِض أكثر فأكثر عن تعاليمها وقيمها وأنظمتها الطقوسية، إذا كانت هذه هي الرؤية التي تؤسس عليها الكنيسة رسالتها الجديدة، فالمرجّح أن الجوانب الأهم من وثيقة مجمع فاتيكان ستكون مهددة بالتجميد.

أما إن تجنّبت الزعامة الروحية الرؤية الدفاعية للمركزية الأوروبية وهواجس الإحساس بالانحسار والتراجع المتواصلين، فإنها ستتعامل إيجابياً مع التحولات الكبرى التي يشهدها عالم اليوم وعلى رأسها الحراك الديني العام - المسيحي والمسلم – خصوصاً ذلك الصادر من بلدان الجنوب. 
 

 

 

 

01-01-2006 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=406