يمثل القبول المبدأي للدول الأوربية لدخول تركيا في المفاوضات النهائية لالتحاقها عضوا في الاتحاد الأوروبي رداً واضحاً على بعض الآراء المتشككة في الهوية الجغرافية والاقتصادية للتكتل الأوروبي والتي سعت إلى بث آراء تحاول الربط بين الاتحاد والمسيحية، واصفة إياه بالنادي المسيحي، ويبدو أن الأتراك وكثيرا من الأصوليين والمسلمين العرب كانوا مستعدين لتقبل هذا الاتهام والتحرك على أساسه. وهذا يشير إلى وجود معضلة ثقافية لدى المسلمين في فهم أوروبا المعاصرة وكذا وجود قصور لدى أوروبا في تحديد هويتها الحالية.
ويعود سوء الفهم المهيمن على المسلمين في علاقتهم بأوروبا إلى تراث فكري وتاريخي تحول من فرط قوته إلى مكون نفسي للمجتمعات الإسلامية المعاصرة.
لقد طور المسلمون الأوائل نظريات فقهية تؤسس لعلاقاتهم الدولية وهي نظريات لم تكن جديدة في ذلك الوقت ولكن الجديد فيها هو اللباس الديني والنكهة العقائدية التي صارت مميزة لها، ولعل من أهم هذه النظريات نظرية دار الحرب ودار الإسلام و التي هيمنت على العقل السياسي العربي الإسلامي وحددت شكل رؤيته للآخر وطبيعة التعامل معه.
فما دام الآخر غير مسلم فهو مطالب إما بدفع جزية أو دخول في الإسلام أو حرب تدخله في إطار دار الإسلام بالقوة. ومعنى ذلك أنه ومن وجهة نظر الآخر فإن الإطار الفقهي الإسلامي هو إطار عدائي مؤسس على نمط معرفي قائم على مفهوم التغلب، وهو المفهوم الذي استعمل في العالم الإسلامي داخليا وخارجيا لتسويغ استعمال القوة والعنف للوصول إلى السلطة.
أما من وجهة نظر المسلمين فإن هذا البناء الفقهي هو الذي يمكن من إدخال الناس إلى الإسلام بوصفه الدين الخاتم والرسالة الإلهية الحقيقية، ولقد فات المسلمين أن كون الإسلام دينا صحيحا في ذاته لا يعني بالضرورة أن يكون كذلك عند غير المسلم، ولهذا نجد في الفرآن الكريم عتابا للنبي على حزنه من عدم إيمان الناس، وكان القرآن يلح على النبي الكريم أن يحمل الرسالة إلى الناس لا أن يحملهم عليها، وألا يكون باخعا لنفسه على عدم اتباع الناس له ما دام قد تبين الرشد من الغي، وما دام النبي لا يملك المبرر الأخلاقي لفرض الدين، فهو ليس مسيطرا عليهم ولا يملك لهم الإيمان أو الكفر.
لقد حدث أن استعمل المسلمون مقولة دار الحرب ودار الإسلام [في الفتح (...)](1) فأصبحت أوروبا تعيش دائماً تحت تهديد إسلامي قوي يكاد يأتي على ما تبقى من العالم المسيحي ويحوله إلى بساط هلالي أخضر، هذا التاريخ الصراعي من الصعب أن تنساه أوروبا الحالية لسببين:
1- إن أوروبا الحالية لم تستطع القضاء نهائيا على التأثير الميسحي في السياسة، ولعل المستقبل يشير إلى ظاهرة مخيفة وهو عودة أوروبا إلى المسيحية السياسية، وأقول مخيفا لأن تحول أوروبا إلى قارة دينية مع ما تملكه من أسلحة دمار شامل مؤذن بخراب العمران ومؤذن بحرب شرسة على العالم الإسلامي. ومن هنا فإن عقلاء المسلمين لن يتمنوا أبداً رجوع المسيحية في شكلها السياسي التبشيري إلى حلبة التأثير السياسي لما في ذلك من آثار سيئة على السلم الدولي وعلى العلاقات الجيدة التي بدأت تربط العالم الإسلامي بالعالم المسيحي العلماني.
2- إن "العالم الإسلامي" لم يبدأ بعد بنقد الأسس الفكرية التي تأسس عليها تعامله مع أوروبا، فهي [ما تزال] دار حرب بالمعنى الفقهي، ولذلك فإن المانع من محاربة أوروبا [فقهياً] ليس هو الحرص على السلم الدولي بوصفه الشرط الحضاري للعمران البشري، بل هو العجز عن محاربة أوروبا. وإذن فإن تحقيق شروط الإعداد العسكري أو ربما حتى التوصل إلى اختراع أسلحة جديدة بيولوجية أو كيماوية من شأنه أن يعيد المارد الإسلامي إلى [الفتح (...)] وهو: الجهاد لنشر الإسلام، فكيف تنسى أوروبا صراعها مع عالم إسلامي ما زال يحنُّ إلى الهجوم، وما زال ينتج نفس الفكر الذي أسس عليه هيمنته السابقة على العالم المسيحي.
ويشير السبب الثاني إلى صحة مبرر أوروبا في "التوجس" من الإسلام واعتباره ديناً غير مرغوب فيه، على الأقل في حلته الأصولية المعاصرة، وأرى أن أوروبا الليبرالية تحمل التوجس نفسه من المسيحية الأصولية التي أطلق لها العنان في الولايات المتحدة الأمريكية تحت قيادة المحافظين الجدد والمؤمنين بالرسالة اللبرالية "الخاتمة" للناس أجمعين!.
إن أوروبا لا تكره الإسلام؛ ولكنها تخاف من التأويلات الجهادية له والمهيمنة على عقول المسلمين، أي أنها لا توافق على أن تكون دار حرب ينتظر فيها المسلمون ردها من الزمن لينقضوا عليها كلما ظهرت لهم بارقة أمل أو حدث لأوروبا مكروه.
إن تقبل أوروبا لتركيا وعدم معارضتها لطلب المغرب للدخول في الاتحاد الأوروبي يمثل إشارة قوية من أوروبا لقبول إسلام متحضر متجدد، يؤسس للسلم العالمي ويتبذ الإرهاب.
ما يجمع أوروبا بالعالم الإسلامي أكثر مما يفرق بينهما، فأوروبا تسعى جاهدة للدفاع عن قضايا عربية وإسلامية كثيرة في حدود ما تسمح به إكراهات العلافات الدولية والمصالح الاقتصادية، كما أن أوروبا محج عدد هائل من المسلمين، وبدخول تركيا في الاتحاد فإن عدد المسلمين في أوروبا سيتجاوز المائة مليون مسلم ومعنى هذا أن هوية أوروبا العلمانية والفائمة على الحرية الدينية ستصطبغ بصبغة إسلامية حضارية مستقبلية، وما نطمح له نحن المسلمين هو إعاة النظر في الاجتهادات التاريخية وتجاوزها إلى تصورات تجديدية تضع لنا فدما على بساط الحضارة المعاصرة.
إن أوروبا لا تكره الإسلام من حيث هو ولكنها في الواقع تخاف من إسلامنا نحن.
-------------------
(1)إضافة من المحرر.
(ما ورد في المقال لا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر الملتقى الفكري للإبداع)