/

 

 

الفاتيكان والمسلمون : الحوار المعلّق

احميدة النيفر

تأتي محاضرة البابا الأخيرة في جامعة "راتيسبون" أو " ريقنسبورج" بمقاطعة بافاريا الألمانية لتؤكد توقعات ومخاوف سبق أن تناولها عدد من المسلمين والمسيحيين المهتمّين بالمشهد الديني في العالم. ما أعلن عنه البابا نفسه لاحقا من تصحيح لما ورد بالمحاضرة و ما ذكره بعض المسؤولين في الفاتيكان وما يمكن أن يصدر مستقبلا ليس بقادر على أن يغيّر من الخط الجديد الذي انخرطت فيه بوعي القيادة الروحية الحالية للكنيسة الكاثوليكية.
لقد رحل البابا يوحنا بولس الثاني تاركا أمام خلفه ثلاث معضلات كبرى لا مفرّ من مواجهتها:
1- الحاجة إلى إعادة تنظيم الإدارة البابوية المعروفة باسم : ( La curie) والتي أضحت تشكو من تضخّم عددي وتشابك مرير في التوجّهات والرؤى والمصالح.
2- ضرورة التصدّي للتراجع الأكيد لفاعلية الخطاب الكاثوليكي في أوروبا نتيجة إعراض واضح عن جانب هام من تعاليم الكنيسة وقيمها وأنظمتها الطقوسية.
3- حتمية مواجهة التحدّي المتواصل لحراك ديني صادر من خارج أوروبا إمّا من بلدان العالم الثالث والمتعلّق بالإسلام والمسلمين أو من ثقافات القارّتين الإفريقية والآسيوية ومعتقداتهما وإما من الولايات المتحّدة عبر نشاط تبشيري مكثّف لمذاهب مسيحية غير كاثوليكية.
جماع هذه المعضلات يتعلّـق باستشراف مستقبل الكنيسة في أوروبا والعالَم. 
ما أثبتته المتابعة المتأنيّة لمسيرة البابا " بينيديكتوس السادس عشر" حتّى قبل أن يُنتخب حبرا أعظم هو أنه ومجموعة من رجال الدين الكاثوليك يستشرفون المستقبل دون رؤية تركيبية للذات بحاضرها وماضيها في علاقتها بالآخر أي دون القيام بمراجعة حقيقية للإرث العقدي والفكري؛ هذا الوضع أذكى لديهم تنكّرا أكبر للعالَم من حولهم وإحجاما أشدّ عن أيّ تواصل إيجابي مع الإسلام، أقرب الرسالات إليهم ثقافيا. 
ما استقرّ عليه رأي البابا الجديد ومن معه ومنذ زمن لمواجهة المعضلات الثلاث الكبرى هو ضرورة التخلّص من معوّقات المحافظين التقليديين في الكنيسة من جهة والقطع مع دعاة الانفتاح والتجديد من رجال الإصلاح في داخل الحرم الكنسي من جهة أخرى. 
بموازاة ذلك كانت أولى سمات هذا التيار الجديد هي مهمّته الرسالية التي ليس لها من غاية إلاّ استعادة أوروبا "عافيتها المهددّة بتفسّخ كامل" نتيجة ضياع المعنى وتنكّر للإيمان. في هذا يقول الكاردينال راتسينجر قبل أن يصبح الحبر الأعظم في محاضرة له ببرلين في 28/11/2000: " يعاني الغرب من تنكّرٍ حاقد على الذات هو أقرب إلى الحالة المَرَضيّة. إنه في انفتاحه المتفهّم للقيم الوافدة عليه أضحى كأنّه يكره نفسه إذ لم يعد يرى في تاريخه إلاّ كلّ نقيصة تحطّ من شأنه وتهدّم من كيانه. لقد فقد الغرب كل قدرة على إدراك ما عظُم من الأمور وما خلُص منها. ما تحتاجه أوروبا إن أرادت لنفسها النجاة هو استساغتها لهويّتها، استساغة متواضعة ونقدية. أمّا ما نشاهده من تشجيع مشبوب للتلاقح الثقافي فإن مآله في الغالب حالة تَخَــلٍ لأوروبا عن خصوصيتها ونبذٍ لذاتيتها". 
لهذا لم يكن من المستغرب أن يستشهد البابا في محاضرة جامعة "راتيسبون" بالأمبرطور البيزنطي منويل الثاني باليولوغوس (1350-1425 ). كان الأمبراطور العالم يجادل المسلمين في دينهم في زمن عصيب يعاني فيه من ويلات حصار العثمانيين لملكه وتهديهم لكيانه السياسي والديني من جهة ومن عدم اكتراث ملوك أوروبا وكنيستها بمصيره وإهمالهم مساعيَه الحثيثة في طلب نجدتهم. لذلك فإذا كان الفاصل الزمني بين البابا والأمبرطور البيزنطي تجاوز ستة قرون فإن ما يجمع بينهما في مستوى الشعور هو هذا الإحساس المُقِضّ بأنّ الكنيسة في حالة حصار يتطلّب تحصينا وحماية متواصلين. تلك هي إحدى خلفيات السياق الجديد الذي يسعى فيه البابا إلى إنقاذ أوروبا من براثن نبوءة مشبوهة للمؤرخ " برنار لويس" التي قرعت مسامع الكثيرين والتي ذكر فيها أنّه: " لن ينقضيَ هذا القرن حتى تصبح أوروبا مسلمة".
من ثم جاز للبعض أن لا يرى فرقا بين وضع كنيسة روما اليوم وكنيسة بيزنطة بالأمس، إذ تبدو الحصون في الحالتين مهددة من الداخل ومن الخارج رغم كلّ ما اعترى جوانب أخرى من المشهد من تغييرات جذرية لا يمكن أن يغفل عنها أيّ تشخيص موضوعي للسياق الأوروبي المعاصر.
لذلك فإن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذا التوجّه الحمائي الذي انخرط فيه خطّ البابا والمحافظين الجدد في كنيسة روما لم يبق دون تأسيس نظريّ جلب لهم إنصات عدد من المفكرين الأوروبيين وأحيانا تقديرهم. 
لعلّ أفضل مثال عن هذه المتانة الفكرية التي حرص عليها البابا وهو المبرّز في المجالين اللاهوتي والفلسفي قد تمثّل في حواره الطويل مع الفيلسوف الألماني الكبير " يورجن هابرماس" ضمن لقاء فكري دعت إليه الأكاديمية الكاثوليكية لبافاريا في مدينة ميونيخ شهر يناير 2004. نُشر الحوار الذي تناول "الأسس الأخلاقية للفكر السياسي في الدولة الليبرالية"بعد ذلك في مجلّة" إيسبري" (Esprit) الذائعة الصيت في عدد يوليو 2004 ليؤكد جملة من الأمور كان في مقدّمتها ذلك الاختيار التأصيلي لتيار الكاردينال "يوسف راتزينجار" : لا مجال لمهمّة الكنيسة الرسالية أن تتجسّد إلا بحضور فعليّ واستيعاب حقيقيّ للتوجهات الفكرية والفلسفية في الغرب المعاصر. عندئذ وعندئذ فقط يمكن للكنيسة الكاثوليكية أن ترفع عقيرتها بالشعار الذي يلخّص مهمّتها الرسالية المعاصرة:" بدون المسيح لن تكفيَ أنوار العقل لإضاءة سبيل الإنسان والعالَم". 
من جهة ثانية فإن ذلك الحوار الثريّ كان في تناوله لأزمة العقل والدين في المجتمعات المعلمَنَة في ما بعد الحداثة يتجاوز المدرسة الوضعية تجاوزا حدّيًّا في قولها بالفصل بين المجال النظري وما اتصل به من مسائل الطبيعة والعلوم الدقيقة وبين المجال العملي وما ارتبط به من قيم ذاتية كالدين والأخلاق والحريّات. لقد كان من أهمّ ما تناوله كلٌّ من الفيلسوف و من رجل الدين في ذلك الحوار هو نقد فلسفة الأنوار وما تولّد عنها من إدخال العقل في المجتمع إلى درجة أدّت في القرن العشرين إلى تحطيم القيم التي أسّسها العقل وإلى حروب ودمار ومحارق. مايشهد عليه ذلك الحوار هو أن "هابرماس" في تطويره لفكر "مدرسة فرنكفورت" وفي تجاوزه لفلسفة " أوجوست كونت " يلتقي جزئيا مع من سيصبح حبرا أعظم للكنيسة الكاثوليكية. إنّه يؤكد أن الفلسفة ملزَمَةٌ بأن تأخذ الدين مأخذ الجِدّ في المستوى المعرفي، هذا في حين يعلن معه الكاردينال راتسينجر رئيس مجمع عقيدة الإيمان عندئذ ضرورة تجاوز انحراف الفلسفة المعاصرة التي ظنّت أن الثورة العلمية المنتصرة تتيح للعقل أن يُحَكَّــم في كل المجالات. 
ما يعنينا اليوم من هذا الحوار هو ذلك المسعى الحثيث لتيار الكاردينال في حضورٍ ومواكبةٍ فعليين ضمن المجال الفكري المعاصر تحقيقا لريادة يريد أن يكون حقيقا بها في غرب يسعى إلى تنصيره من جديد.
من هنا يمكننا أن نفهم جانبا من قلّة اكتراثه بالحوار بين الأديان عامّة والإسلام خاصة. إنها مرّة أخرى مشكلة المركزية الأوروبية في صيغة جديدة.
لكن يبقى بعد ذلك جانب آخر لا بد من ذكره بعد توضيح تصوّر البابا الحالي لطبيعة الكنيسة الكاثوليكية باعتبارها مؤسسةً أوروبية بالأساس بنية وفكرا ومستقبلا. 
إن ما يُذكي تساؤل الطرف المسلم في شأن الحوار الإسلامي المسيحي الذي سار في تؤدة منذ ما يقارب نصف قرن هو أن البابا في تعامله مع الإسلام خاصة ظل رغم عبارات المجاملة مصرّا على أن الحقيقة الدينية حكر على الكنيسة وأنه لا خلاص للإنسانية خارجها. مؤدّى هذا الموقف المبدئي هو أنّ صدقية الإسلام والمسلمين في مشروع الحوار تصبح غير ذات موضوع، هذا إذا لم نعتبر الحوار مبارزة أو سجالا إنما رأيناه إثراءً متبادَلا لتجربتين دينيتين مختلفتين أي إخلاص كلّ جهة لإيمانها وانفتاحا على اللآخر.

هذا هو الحوار المعلَّق اليوم، حوارٌ لا يبدو أنّنا معشر المسلمين مسارعون إليه لأن المعضلة في هذا المجال هو أن الإيمان يعني - في الغالب – أن مقاربتنا للحقيقة تنفي ثراء مقاربة غيرنا و صدقيتها.
الأخطر من هذا هو أنّ انفتاحا حقيقيا على المسيحية والمسيحيين يبدو متعذّرا إسلاميا لأن ثقافة الحوار شبه منعدمة لدينا اليوم إذ كيف يمكن إرساء حوار مع من اختلفنا معهم في المنطلقات والتجارب ونحن لم ننجح بعد في إقامته مع إخواننا في الملّة والتصوّر والمصير؟
 


 

 

06-10-2006 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=417